back to top
المزيد

    واحة البيان

    الدبلوماسية الوقائية كمنهج عمل لحل الخلافات الدولية

    مرام مازن حاتم / باحثة وكاتبة سياسية – في العلاقات الدولية

    تُعدّ العلاقة بين تركيا واليونان واحدة من أكثر العلاقات الثنائية تعقيداً في منطقة البحر المتوسط، وقد اتسمت منذ عقود بتراكمات من التوترات التاريخية والسياسية والجغرافية. وعلى الرغم من وجود لحظات تقارب نادرة، فإن العلاقة بين البلدين غالباً ما كانت مهددة بالتصعيد، خصوصاً في الملفات المرتبطة ببحر إيجه والمجالين البحري والجوي.

    في عام 2025، شهدت هذه العلاقة تحوّلاً لافتاً تمثل في تفعيل آليات ما يُعرف بـ”الدبلوماسية الوقائية”، وهي مقاربة حديثة نسبياً في إدارة النزاعات الدولية تقوم على منع نشوء الأزمات أو تحولها إلى صراعات مفتوحة، من خلال التدخل المبكر، وبناء الثقة، وتخفيف مسببات التوتر. ما حدث بين أنقرة وأثينا في هذا العام يقدم نموذجًا يستحق الدراسة، ليس فقط لفهم كيفية إدارة خلاف جيوسياسي حاد، بل أيضًا لاستخلاص دروس يمكن تطبيقها في حالات دولية مماثلة.

    ترتكز جذور الخلاف بين تركيا واليونان على مجموعة من القضايا السيادية التي تشمل ترسيم الحدود البحرية في بحر إيجه، والحقوق في المجال الجوي، والسيطرة على بعض الجزر، فضلاً عن النزاع حول التنقيب عن مصادر الطاقة في شرق المتوسط. هذه الخلافات لم تكن فقط محصورة في الجانب القانوني، بل امتدت إلى التصعيد الميداني والتصريحات المتوترة، ما زاد من هشاشة الوضع الأمني في المنطقة.

    إلا أن ما ميز عام 2025 هو التوجه نحو إعتماد سلسلة من الإجراءات العملية التي تهدف إلى تخفيف حدة التوتر وخلق نوع من “الإنضباط الجيوسياسي” في إدارة الخلاف. فقد أعلنت الحكومتان التركية واليونانية عن إتفاق يشمل لقاءات عسكرية دورية، وتنسيق في عمليات البحث والإنقاذ، وإعلام متبادل مسبق بأي تحركات عسكرية في مناطق التماس، إلى جانب تقليل النشاطات الجوية فوق الجزر المتنازع عليها. كما تم تفعيل قنوات تواصل غير رسمية، هدفت إلى تسهيل الحوار بعيدًا عن الضغوط الإعلامية والسياسية.

    رغم أن هذه الإجراءات قد تبدو محدودة في مضمونها، إلا أنها تمثل تحولًا نوعيًا في آليات إدارة الأزمات. فهي تقدم نموذجًا واقعيًا للدبلوماسية الوقائية التي تهدف إلى منع تدهور النزاعات بدلاً من انتظار تفجرها. عبر هذه الخطوات، استطاعت الدولتان خلق مساحة آمنة للحوار، ونجحتا في تقليص احتمالات المواجهة المباشرة، وهو ما يعكس أن الإجراءات الفنية البسيطة قد تكون مدخلًا فعّالًا لنزع فتيل الأزمات المزمنة.

    من المهم التأكيد أن هذا التقدم لم يلغ التحديات المعقدّة التي تواجه العلاقة الثنائية، فهناك دائماً احتمال لانبعاث التوترات، خاصة في ظل غياب وثائق قانونية ملزمة أو آليات دولية تضمن استمرارية الإتفاقات. كما أن الخطابات السياسية المتقلبة، والتغيّرات الداخلية في كلا البلدين، قد تُعيد الأُمور إلى نقطة الصفر. ومع ذلك، فإن مجرّد وجود قنوات إتصال مفعّلة، وآليات حوار متفق عليها، يُعد مؤشراً على نضج سياسي في إدارة الخلافات.

    ما يضيف أهمية أكبر لهذه التجربة هو قابليتها للتطبيق في حالات مماثلة، خاصة فيما يتعلق بالخلافات الحدودية، أو السيادة على الموارد البحرية، أو القضايا الأمنية العالقة. وهنا تبرز الحالة العراقية كأحد الأمثلة التي تحتاج إلى إعادة تقييم منهج إدارة الخلافات. فالعراق، المحاط بجيران متعددي المصالح، يعيش في بيئة إقليمية متشابكة، تتطلب قدراً عالياً من الوعي السياسي والقدرة على إستباق الأحداث، لا الانفعال بها.

    وتطبيق نموذج الدبلوماسية الوقائية في السياسة الخارجية العراقية لم يعد ترفاً سياسياً، بل ضرورة لحماية السيادة ومنع تفاقم الأزمات مع دول الجوار. يمكن للعراق أن يستفيد من تجربة تركيا واليونان من خلال تأسيس قنوات اتصال فنية بعيدة عن التصعيد الإعلامي والتنسيق الأمني الوقائي، وإنشاء آليات لإدارة الملفات الخلافية قبل أن تتحول إلى أزمات يصعب احتواؤها. كما أن إدراج هذا النهج في إستراتيجية الدولة، سيعزز من قدرة العراق على لعب دور إقليمي متوازن، بدل البقاء في موقع رد الفعل أو الخضوع لضغوط اللحظة.

    على صانع القرار العراقي أن يدرك أن الخلافات، مهما كانت معقدة، يمكن إدارتها بأدوات حديثة تعزز الاستقرار وتمنع الإنزلاق نحو المواجهة. فتبنّ ي مثل هذا النموذج من الدبلوماسية الوقائية لا يقتصر فقط على إدارة النزاع، بل يشكل عاملًا إستراتيجيًا في حفظ السلام الداخلي، وتعزيز الثقة بين الدولة ومحيطها، وفتح الطريق أمام تعاون إقليمي مبني على المصالح المشتركة، وليس المخاوف المتبادلة.

    إن الدبلوماسية الوقائية، حين تُفهم كمنهج عمل وليس مجرد رد فعل، تصبح أداة فاعلة لصناعة الاستقرار. إنها توفر مساحة للتفكير، وللحوار، وللتهدئة، وتخلق فرصة لإعادة صياغة العلاقة بين الدول وفق قواعد المسؤولية والاحترام المتبادل. وإذا كانت التجربة التركية اليونانية قد أثبتت شيئًا، فهو أن التوتر لا يُعالج بالصمت أو بالمواجهة، بل بالشفافية والالتزام والنيات السياسية الصادقة.

    اقرأ ايضاً