محمد قاسم: باحث في الشأن السياسي والامني
تعد السياسة الخارجية القطرية من أبرز الحالات التي تجمع بين البراغماتية السياسية وتوظيف القوة الناعمة في النظام الاقليمي.
فقد استطاعت الدوحة ان ترسم لنفسها دوراً يتجاوز امكاناتها المادية والديموغرافية اذ تبنت سياسة خارجية تقوم على دعم قضايا العالم العربي والاسلامي والانفتاح على القوى الكبرى، والتموضع كوسيط في ازمات متعددة. دورها هذا جعلها فاعلة محورياً في الملفات الاقليمية الحساسة كالقضية الفلسطينية، والازمة الافغانية، وبعض النزاعات الاقليمية.
الا ان الضربة الاسرائيلية الاخيرة ضد قيادات حماس في الدوحة كانت نقطة تحول حاسمة، ليس فقط من زاوية خرق السيادة الوطنية، بل أثرها على الشرعية الاقليمية لقطر، وعلى دورها كوسيط وراع للقضية الفلسطينية. اذ اعادت الضربة تسليط الضوء على التحديات الامنية التي تواجهها دولة مثل قطر في صغرها تعتمد على مزيج من التحالفات الدولية والقوة الناعمة، كما فرض عليها اعادة النظر في توازناتها بين الالتزامات الاقليمية والضرورات الامنية.
يمثل هذا الاعتداء خرقاً مباشراً للسيادة ويكشف عن ثغرات امنية، فقطر تاريخياً اعتمدت على تحالفاتها وعلى المظلة الامنية الامريكية تجد نفسها امام ضرورة اعادة تقييم بنيتها الدفاعية، من خلال تعزيز التنسيق العسكري مع واشنطن وتوثيق شراكاتها مع تركيا وربما إيران، بما يحقق معادلة توازن اقليمي ويمنع تكرار هذه الاعتداءات. قد تضطر الدوحة الى مراجعة موقفها من استضافة قيادات حماس، اذ ان بقاء هذا الملف مفتوحاً قد يهدد امنها ويمنح اسرائيل ذريعة الاستهداف.
تسعى الدوحة الى الحفاظ على شرعيتها الاقليمية بصورة متماسكة باعتبار قطر تدافع عن القضايا العربية والاسلامية، فمن المتوقع ان تعتمد خطاباً أكثر حدة تجاه اسرائيل انعكاساً لموقفها التقليدي الداعم للقضية الفلسطينية. وفي ذات الوقت ستعمل على الابقاء على قنوات الاتصال غير المباشرة مع تل ابيب كي تضمن استمرار دورها في الوساطة، هذه الازدواجية ليست جديدة في السلوك القطري، بل هي جزء من استراتيجيتها للحفاظ على النفوذ والشرعية.
هذه الازمة تفرض على قطر اعادة تموضع في شبكة تحالفاتها الاقليمية وحتى الدولية، من جهة يمكنها الاقتراب أكثر من تركيا وإيران لتعزيز موقفها التفاوضي، ومن جهة الاخرى لا تستطيع الاستغناء عن علاقتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الامريكية التي تمثل الضامن لأمنها واستقرارها. هذا السعي في التوازن يعكس محاولة الدوحة في الحفاظ على استقلالية قرارها الخارجي من دون ان تخسر حماية القوى الكبرى. كما ان الاستثمار في ملفات اخرى مثل الوساطة في النزاعات الافريقية قد يمنح قطر قدرة اضافية على حماية مكانتها الدولية.
ستسعى الدوحة الى اقناع واشنطن بضبط سلوك اسرائيل ومنع تكرار الضربات لذلك يبقى العامل الامريكي هو الاكثر حسماً في المعادلة. لكن الاعتماد على واشنطن يضعها في معضلة مزدوجة فيمن ناحية بحاجة الى ضمان امنها عبر الشراكة مع واشنطن ومن ناحية اخرى هي مطالبة بالحفاظ على صورتها امام الرأي العام العربي والاسلامي كداعم للقضية، ان هذه الاشكالية تجعل خياراتها معقدة وتدفع بها لانتهاج سياسة دقيقة تقوم على ادارة التوازن بين الامن والشرعية.
ان الاستهداف لا يمكن النظر اليه كحادث أمنى معزول، بل هو حدث يعيد طرح الاسئلة حول حدود الدور القطري في الاقليم. فأن قطر لطالما جمعت في سياستها الخارجية بين ادوار الوساطة والدعم السياسي للقضايا العربية، فأنها اليوم امام تحديات غير مسبوقة تتعلق بمدى قدرتها على الاستمرار في هذه الأدوار دون ان تدفع ثمناً لأمنها. من المتوقع كما أسلفنا ان تجمع قطر بين التصعيد الخطابي لحماية مكانتها في الوعي العربي والاسلامي وبين البراغماتية العملية التي تضمن استمرار قنوات الاتصال وحماية امنها.




