مقتدى عثمان علي / باحث في الشأن السياسي
منذ تأسيس حقل العلاقات الدولية كمجال أكاديمي مستقل في أعقاب الحرب العالمية الأولى، مع مؤتمر باريس للسلام عام 1919، شكلت النظريات الكبرى أطرًا أساسية لتفسير ديناميكيات التفاعل بين الدول والكيانات غير الدولية. مما تولد لنا نظريات عديدة أبرزها أربع مدارس رئيسية هي الواقعية (Realism)، الليبرالية (Liberalism)، البنائية (Constructivism)، والماركسية/النقدية (Marxism/Critical Theory). كل منها يقدم منظورًا فريدًا يعكس السياقات التاريخية والفلسفية التي نشأت فيها؛ فالواقعية تركز على القوة والصراع، الليبرالية على التعاون والمؤسسات، البنائية على بناء الهويات الاجتماعية، والماركسية على التبعيات الاقتصادية وعدم المساواة. ومع ذلك، في عصرنا الحالي الذي يشهد تسارعًا في التطورات التكنولوجية، يبرز الذكاء الاصطناعي (AI) والخوارزميات كعناصر أصبحت فاعلة مسببة لتغير موازين القوة لا أدوات مساعدة، بل كفاعلين مستقلين قادرين على تشكيل السياسات الدولية، الاقتصادات العالمية، والأمن الجماعي. هذا التحول يثير تساؤلات جوهرية: هل تستطيع النظريات الكلاسيكية استيعاب هذه الظاهرة الجديدة، أم أننا بحاجة إلى نظرية خامسة تُدمج الذكاء الاصطناعي كعنصر مركزي؟
وفق رأي المتواضع سنستعرض النظريات الأربع التقليدية، مع التركيز على كيفية تفاعلها مع الذكاء الاصطناعي، ثم نقترح إطارًا نظريًا جديدًا يُعرف بـالنظرية الخوارزمية.. (Algorithmic Theory)، التي تعترف بالذكاء الاصطناعي كفاعل دولي يمتلك وكالة شبه مستقلة. سنعتمد على أمثلة معاصرة، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في الصراعات الجيوسياسية (كالحرب في أوكرانيا أو التوترات بين الولايات المتحدة والصين حول التكنولوجيا)، لتوضيح هذا الاقتراح.
(أولاً: الواقعية – القوة كأساس للنظام الدولي الفوضوي) الواقعية أقدم النظريات في العلاقات الدولية، وتستمد جذورها من أعمال كلاسيكية مثل الأمير لنيكول مكيافيلي وليفياثان لتوماس هوبز، الذين ساهموا برسم صورة للعالم كـحالة طبيعية مليئة بالصراع والفوضى. في العصر الحديث، طور هانز مورغنثاو في كتابه السياسة بين الامم مبادئ الواقعية الكلاسيكية، مؤكدًا أن الدول تسعى لتعظيم مصالحها الوطنية في نظام دولي فوضوي (anarchic international system)، حيث تكون القوة العسكرية والسياسية الضامن الوحيد للبقاء. أما كينيث والتز في نظرية السياسة الدولية، فقد طور الواقعية الجديدة (Neo-realism)، مركزًا على هيكل النظام الدولي كتعدد أقطاب أو قطب واحد، مع التركيز على ميزان القوى (balance of power) كآلية للاستقرار اما في سياق الذكاء الاصطناعي، تظل الواقعية كما وضحنا اعلاه، لكنها تحتاج إلى توسيع مفهوم القوة. لم يعد التركيز مقتصرًا على القوة الصلبة (hard power) مثل الجيوش والأسلحة النووية بل أصبحت القوة الناعمة والرقمية (cyber power) جزءًا أساسيًا. على سبيل المثال، في الصراع بين الولايات المتحدة والصين، يُعتبر الذكاء الاصطناعي أداة للردع الرقمي (cyber deterrence)، حيث يمكن للخوارزميات التنبؤ بالهجمات السيبرانية أو تنفيذها، كما حدث في هجمات ستوكس- نت على محطة نطنز للبرنامج النووي الإيراني عام 2010. هنا، يصبح الذكاء الاصطناعي امتدادًا للسيادة الوطنية، لكنه يعقد ميزان القوى بسبب عدم التماثل (asymmetry)، حيث يمكن لدول صغيرة أو حتى مجموعات غير حكومية استخدام الذكاء الاصطناعي لتحدي القوى الكبرى. ومع ذلك تفشل الواقعية التقليدية في شرح كيف أن الذكاء الاصطناعي نفسه قد يصبح فاعلاً مستقلًا، غير خاضع للدولة تمامًا، كما في حالات الذكاء الاصطناعي المتطور الذي يتخذ قرارات ذاتية في أنظمة الدفاع مثل برنامج where`s dad
(ثانيًا: الليبرالية – التعاون والمؤسسات كوسيلة للسلام) تنطلق الليبرالية من فلسفة التنوير، مع إيمانويل كانت في السلام الدائم، الذي افترض أن الديمقراطيات والتجارة المتبادلة تقلل من احتمالية الحروب. في القرن العشرين طور روبرت كيوهان وجوزيف ناي في القوة الناعمة والاعتماد المتبادل مفهوم الليبرالية الجديدة (Neoliberalism)، مؤكدين دور المؤسسات الدولية مثل منظمة التجارة العالمية (WTO) أو الأمم المتحدة في تعزيز التعاون وتقليل النزاعات من خلال الاعتماد المتبادل (interdependence). كما أضاف ناي في كتابه مفهوم القوة الناعمة (soft power) مع ظهور الذكاء الاصطناعي، تواجه الليبرالية تحديًا جديدًا: كيفية حوكمة التكنولوجيا العابرة للحدود على سبيل المثال، تحتاج الدول إلى مؤسسات دولية جديدة لتنظيم الذكاء الاصطناعي، مشابهة لاتفاقية باريس حول المناخ أو اتفاقيات التجارة.
وهنا يستوقفني سؤال الى اين تنتهي حدود الدولة الرقمية؟
في عام 2023، شهدنا مبادرات مثل إعلان بايدن-شي حول الذكاء الاصطناعي، الذي يهدف إلى تعاون دولي لمنع انتشار الأسلحة النووية وتكون السيطرة عليها من قبل البشر وليس الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك يبرز دور الشركات الخاصة مثل غوغل أو أوبن إيه آي (OpenAI) كفاعلين غير دوليين، مما يوسع مفهوم الاعتماد المتبادل ليشمل التعاون الرقمي (digital interdependence). هنا يمكن للذكاء الاصطناعي تعزيز التعاون، كما في تطبيقات التنبؤ بالكوارث أو الطب العالمي واحتياجات اخرى لكنه يثير مخاوف من التفاوت الرقمي بين الدول الغنية والفقير مما يتطلب إعادة صياغة الليبرالية لتشمل حوكمة عالمية للبيانات..
(ثالثًا: البنائية – بناء الهويات والأفكار في النظام الدولي) البنائية، التي برزت في الثمانينيات، ترفض الرؤى المادية للواقعية والليبرالية، مركزة على كيفية بناء الواقع الاجتماعي من خلال الأفكار واللغة والدين. ألكسندر وندت في كتابه البناء الاجتماعي للسياسة الدولية يؤكد بجملة الأشهر ((الفوضى ما نصنعه منها)) حيث تشكل الهويات والمعايير التصورات عن التهديدات أو التحالفات. كما ساهم أونوف في تعزيز هذا المنظور بتأكيده على دور اللغة في بناء القواعد الدولية في حين البنائية وعصر الذكاء الاصطناعي، تكتسب البنائية أهمية أكبر، إذ يصبح الذكاء الاصطناعي أداة لبناء هويات رقمية جديدة مثل الخوارزميات، وادواتها كوسائل التواصل الاجتماعي التي تشكل فقاعات تصفية تؤثر في المدركات الجماعية، كما في حملات التضليل الروسية خلال الانتخابات الأمريكية عام 2016. هنا يصبح الذكاء الاصطناعي بنائيًا او بناءً بمعنى أنه يعيد تشكيل الهويات الوطنية أو العابرة للحدود، مما يؤدي إلى ظهور هويات افتراضية تتجاوز الجغرافيا. ومع ذلك تفشل البنائية في شرح فلسفة الذكاء الاصطناعي حيث قد يتطور إلى مستوى يصنع أفكاره الخاصة، كما في نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي التي تتعلم من البيانات دون تدخل بشري مباشر..
(رابعًا: الماركسية/النقدية) الماركسية تركز على الاقتصاد السياسي، مستمدة من أعمال كارل ماركس وفريدريك إنجلز، الذي يصف النظام الرأسمالي كهيكل يقسم العالم إلى مركز وهامش، مع استغلال الجنوب من قبل الشمال. كما أكد أنطونيو غرامشي بمفهوم الهيمنة، حيث تسيطر النخب الرأسمالية على الوعي الجماعي. مع الذكاء الاصطناعي، تكشف الماركسية عن الرأسمالية الرقمية (digital capitalism)، حيث أصبحت البيانات النفط الجديد، كما وصفها كلاوس شواب (Klaus Schwab) في منتدى دافوس. الشركات العملاقة مثل أمازون وعلي بابا تستخرج بيانات الملايين ممن يرغب بالعمل بالتجارة الالكترونية، مما يخلق بروليتاريا رقمية خاصة في دول اسيا وبالتحديد الشرق الأوسط. بينما في أفريقيا تعتمد الدول على خوارزميات غربية للزراعة أو الصحة، مما يعزز التبعية كذلك..
((في القرن العشرين كان النفط هو أداة للشراكة الاقتصادية فهل يمكن للرقائق والخوارزميات والذكاء الاصطناعي ان يكون اداتها للقرن الحادي والعشرين هذا سؤال جاء بعد طرح كلاوس شواب ونظرة الماركسية للذكاء الاصطناعي))
(خامسًا: النظرية الخوارزمية – الذكاء الاصطناعي) بناءً على تحليل النظريات السابقة والتقدم الخارق للتكنولوجيا الذي صعب على العقل البشري السيطرة عليه، نقترح هنا النظرية الخوارزمية كمدرسة خامسة ضرورية لفهم المتغيرات الانية والقادمة. تركز على الذكاء الاصطناعي كفاعل دولي يمتلك وكالة شبه مستقلة هذه النظرية لا تنفي النظريات السابقة، بل تدمجها في إطار جديد، مستوحى من أعمال معاصرة مثل تلك لنيك بوستروم في كتابه الذكاء الفائق: المسارات، المخاطر، الاستراتيجيات، يناقش فيه أخطار الذكاء الاصطناعي إذا وصل الى مرحلة فائقة من الذكاء قد يتحول الى كيان مستقل لا يخضع لإرادة البشر ولأيمكن السيطرة عليه ويعاملنا كمعاملتنا للحيوانات ياما بالاستغلال او التجاهل. الفرضية الأساسية: الذكاء الاصطناعي لم يعد أداة ثانوية بل فاعل يشكل النظام الدولي من خلال القوة الخوارزمية التي تقاس بالسيطرة على البيانات، الخوارزميات، وسلاسل التوريد الرقمية. بعض المفاهيم الجوهرية لنظرية الخوارزمية..
القوة الخوارزمية: تتجاوز القوة التقليدية، كما في استخدام الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالأزمات الاقتصادية أو السيطرة على الإعلام والحروب
الردع الرقمي: موازٍ للردع النووي، لكنه يعتمد على القدرات السيبرانية، كما في استراتيجيات الجيش الأمريكي للذكاء الاصطناعي.
السيادة الرقمية: حق الدول في السيطرة على بياناتها، كما في قوانين الاتحاد الأوروبي
ما بعد الوعي: اندماج الوعي البشري والاصطناعي، مما يغير صناعة القرار الدولي.
النظام الدولي أصبح متعدد خوارزميات ليست مقتصرة على جانب معين، حيث تتنافس الخوارزميات الصينية (مثل تيك توك) مع الأمريكية للسيطرة على الإدراك الداخل الأمريكي. هذه النظرية تتيح فهم ظواهر مثل الحروب الهجينة (hybrid wars) التي تجمع بين العسكري والرقمي والجندي الهجين كما أطلق عليها الباحث مقتدى عثمان في مقال عن (الحروب السايبور-جية، عندما يصبح الجندي مزيج بين الانسان والالة)
في الختام، تبقى النظريات الأربع الكلاسيكية أدوات قيمة لتحليل نظريات العلاقات الدولية، لكنها تحتاج إلى تكييف مع عصر الذكاء الاصطناعي الواقعية تفسر القوة الرقمية، الليبرالية تدعو لحوكمة عالمية، البنائية تسهم لتشكيل الهويات الافتراضية، والماركسية تكشف الاستغلال الرقمي. ومع ذلك تتطلب هذه التحولات نظرية خامسة النظرية الخوارزمية التي تعترف بالذكاء الاصطناعي كفاعل مستقل يعيد رسم خريطة العالم. هذا الاقتراح ليس نهاية النقاش، بل دعوة لمزيد من البحث الأكاديمي لفهم كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يساهم في سلام مستدام أو صراعات جديدة.





