رامي الشمري
مع دخول شهر سبتمبر، تتسارع الأحداث في الشرق الأوسط بوتيرة تنذر بتحولات استراتيجية كبرى. التطورات المتزامنة – من الضغوط الدولية المتصاعدة على إيران، إلى انسحاب التحالف الدولي من العراق، واحتمال تفجر الشارع العراقي مجددًا – تشي بأن المنطقة تتجه نحو لحظة إعادة رسم التوازنات.
وسط هذا المشهد، يبرز العراق كلاعب محوري، لا بوصفه ساحة صراع كما كان خلال العقدين الماضيين، بل كطرف قادر – إن أحسن إدارة أوراقه – على لعب دور الوسيط، والضامن، والموازن.
إيران بين البند السابع والعزلة الكبرى
التحرك الأخير من جانب دول الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) نحو الأمم المتحدة، في مسعى لإدخال إيران تحت طائلة الفصل السابع بسبب عدم امتثالها للبرنامج النووي، يعكس تحولًا نادرًا في المزاج الغربي: نقطة اللاعودة مع طهران تقترب.
في حال رفض النظام الإيراني الشروط الدولية، فإن الخيارات المطروحة ستكون أكثر حدة، وقد تشمل:
- تشديد العقوبات الاقتصادية.
- دعم تحركات سياسية ضده في الإقليم.
- أو حتى مواجهة عسكرية عبر أذرع دولية أو إقليمية.
إيران، في هذا السياق، قد تلجأ إلى تفعيل أدواتها غير التقليدية، خصوصًا في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وهو ما سيزيد من هشاشة المنطقة.
انسحاب التحالف من العراق: فراغ أمني أم فرصة سيادية؟
الانسحاب المرتقب للتحالف الدولي من بغداد والمحافظات العراقية يطرح سؤالًا استراتيجيًا، هل يستعد العراق لملء الفراغ أم أنه مقبل على جولة جديدة من الفوضى؟
الفراغ الأمني قد تستغله:
- ميليشيات مدعومة من إيران.
- أو خلايا داعش التي لا تزال تتحين الفرص.
لكن بالمقابل، هذا الانسحاب يمكن أن يُعيد تعزيز السيادة الوطنية العراقية، بشرط أن يرافقه:
- إعادة هيكلة أمنية حقيقية.
- تعزيز للثقة بين الدولة والمواطن.
- وضبط لعمل الجماعات المسلحة خارج إطار الدولة.
موجة احتجاجات محتملة: الغضب الشعبي يعود؟
تزامن الانسحاب مع توقعات باندلاع مظاهرات جديدة في العراق يثير مخاوف جدية من عودة سيناريو تشرين، لكن هذه المرة ضمن سياق إقليمي مختلف:
- إيران تحت ضغط.
- التحالف الدولي في تراجع.
- والطبقة السياسية العراقية في أزمة شرعية دائمة.
الغضب الشعبي، إن وجد له قيادة موحدة، قد يتحول إلى قوة سياسية وطنية، تُعيد رسم قواعد اللعبة الداخلية وتدفع باتجاه نظام أكثر عدالة واستقلالًا.
أدوار جديدة: العراق يفعّل أدواته الإقليمية
اللافت في المرحلة الأخيرة هو أن العراق لم يعد ينتظر الحدث، بل بدأ يصنعه. فوزارة الخارجية العراقية تعيد تموضعها إقليميًا، عبر:
- إعادة ترتيب العلاقات مع إيران وتركيا وسوريا على أسس مصلحية واقعية.
- الدخول في مفاوضات أمنية واقتصادية متوازنة مع الجوار.
- والمساهمة في صياغة أجندة القمة العربية المقبلة، بما يعزز دور العراق كجسر لا كساحة صراع.
بالتوازي، بدأ جهاز المخابرات العراقي ينشط إقليميًا بهدوء، عبر زيارات تنسيقية إلى سوريا، مصر، الأردن، ودول خليجية، في إشارة واضحة إلى استعادة زمام المبادرة الأمنية، خصوصًا في ملف مكافحة الإرهاب.
العراق كممر استراتيجي بين الخليج وأوروبا
بفضل موقعه الجغرافي، يمتلك العراق فرصة فريدة ليكون عقدة ربط محورية بين الخليج وأوروبا عبر تركيا.
مشاريع النقل الإقليمي وخطوط الغاز العابرة يمكن أن تتحول إلى رافعة اقتصادية وسياسية، إذا ما أُديرت بتنسيق ذكي مع دول الجوار، لا بمنطق الصدام.
بدل أن يكون مجرد ممر، يمكن للعراق أن يصبح شريكًا رئيسيًا في إعادة تشكيل شبكة الطاقة والنقل في الشرق الأوسط، ما يمنحه نفوذًا استراتيجيًا متناميًا في الأسواق العالمية والقرار الإقليمي.
من محيط منقسم إلى أداة ضغط لصالح العراق
عبر التاريخ الحديث، استُخدم التنوع الديني والمذهبي داخل العراق كأداة إضعاف واختراق. اليوم، هناك إدراك متزايد داخل النخبة السياسية والأمنية بأن هذا التنوع نفسه يمكن أن يُوظف لصالح الدولة، عبر:
- بناء شبكات ضغط ناعمة في الخارج، خاصة في الولايات المتحدة وأوروبا.
- تفعيل دور الجاليات العراقية والمكونات الدينية في تشكيل لوبيات ضاغطة لصالح العراق، لا ضده.
- وتحويل “الطوائف” من نقطة ضعف إلى رافعة دبلوماسية وثقافية.
دروس داعش: العراق خط الدفاع الأول عن العالم
لا يمكن الحديث عن أمن المنطقة دون الاعتراف بالدور الذي لعبه العراق في هزيمة تنظيم داعش.
لو سقطت بغداد عام 2014، لكانت خارطة الشرق الأوسط اليوم مختلفة جذريًا، وربما شاهدنا امتداده إلى عواصم أوروبية وآسيوية.
هذا الانتصار لا يجب أن يُنسى، بل يجب أن يُستثمر سياسيًا ودبلوماسيًا في:
- تعزيز موقع العراق في التحالفات الدولية.
- المطالبة بدعم طويل الأمد لإعادة الإعمار.
- واعتبار بغداد شريكًا استراتيجيًا في الأمن العالمي، لا مجرد متلقٍ للمساعدات.
الخلاصة: العراق ليس تابعًا… بل مشروع توازن استراتيجي
العراق، إذا أحسن استثمار واقعه الجديد، يمكن أن يتحول من ساحة صراع إلى منصة توازن إقليمي.
ومع تصاعد الضغط على إيران، وانسحاب واشنطن من التموضع العسكري المباشر، فإن فرصة العراق لتأكيد ذاته كدولة ذات سيادة واستقلال قرار، لم تكن أقرب مما هي عليه الآن. لكن ذلك لن يحدث دون:
- دبلوماسية محترفة.
- إرادة سياسية مستقلة.
- وشبكات تأثير خارجية تدافع عن المصالح العراقية في واشنطن ومجلس الأمن.
في هذه اللحظة الفاصلة، العراق ليس ورقة بيد الآخرين… بل قد يكون المفتاح الذي يُغلق أبواب الفوضى ويفتح طريق الاستقرار للشرق الأوسط بأكمله.





