back to top
المزيد

    واحة البيان

    ازمة توزيع الموارد بين الإقليم والمركز من النفط الى الرواتب

    محمد الربيعي / باحث في الشأن السياسي

    مع تجدد ازمة الرواتب بين حكومة إقليم كردستان وبغداد والتي تكررت دائما منذ 2014 والى الان، تعود علينا هذه المرة ولكن بشكل متصاعد، وما بين الخلافات السياسية المتفاقمة والمؤثرة في حياة المواطن الكردي، والضغوطات الخارجية على حكومة المركز بغية استئناف تصدير النفط الإقليم وإعادة دفع الرواتب بشكل منتظم، كيف واجه موظفو الإقليم هذا الواقع؟ وما أسباب تعثر إيجاد حلول لهذه المشكلة؟ وهل تعد هذه الازمة هي واجهة لخلافات أعمق حول توزيع الموارد بين الإقليم وبغداد؟ فعلى خلفية النزاع المستمر حول تصدير النفط وتسليم الإيرادات الى خزينة الدولة واجهة موظفو الإقليم حالة متكررة من قطع الراتب الامر الذي أثر بشكل كبير في حياتهم المعيشية.

    أصل الخلاف:

    تعود جذور الازمة بين الطرفين الى قيام وزارة المالية بقطع تمويل الرواتب لشهر مايس/2025 عن إقليم كردستان، وتعزو ذلك الى تجاوز الإقليم على الحصة المقررة في قانون الموازنة الاتحادية والمحدد بنسبة (12,67%) بمبلغ (13,547) ترليون من اجمالي المصروف الفعلي الوارد في احكام المادة (11 أولا) من قانون الموازنة الاتحادية للسنوات 2023/2024/2025 ،كذلك اعتراض حكومة إقليم كردستان على  قرار المحكمة الاتحادية العليا المتمثل بتوطين رواتب المواطنين في إقليم كردستان على المصارف العراقية حسب قرارها ذي العدد (224 وموحدتها 269/ اتحادية / 2023) والذي أجاز لموظفي الإقليم توطين رواتبهم في احد المصارف الحكومية الثلاثة ( المصرف الحكومي للتجارة ، مصرف الرشيد ، مصرف الرافدين) ويعتبر هذا القرار بادرة لحل فتيل الازمة بين الإقليم و المركز، الا ان هذا القرار واجه معارضة من قبل حكومة إقليم كردستان لكونه يفضي الى التقليل من الصلاحيات الدستورية في الإقليم. وتستند حكومة كردستان في ذلك الى المادة (117) و (121) من الدستور العراقي في احقيتها في إدارة شؤونه الداخلية وخصوصاً ما جاء في المادة (121) اولاً: لسلطة الإقليم، الحق في ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وفقاً لإحكام هذا الدستور. كما تستند حكومة المركز على المادة (110) ثالثا من الدستور والذي وضح فيها اختصاصات السلطة الاتحادية والمتمثلة برسم السياسات المالية، والجمركية، واصدار العملة، وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الإقليم والمحافظات في العراق، ووضع الميزانية العامة للدولة، ورسم السياسة النقدية.

    وتفسير لما جاءت به هذه المواد من تحديد صلاحيات الحكومتين، فأن الحكومة الاتحادية في بغداد هي المسؤولة عن توزيع الموارد وتنظيمها على كافة افراد الشعب، بناء على ما جاء في المادة (110) من الدستور العراقي.

    وفي نفس السياق فقد تباينت وجهات النظر دخل الإقليم حول مسألة توطين الرواتب بين الحزب الديمقراطي الكردستاني ولاتحاد الوطني، فعلى الرغم من اعتراض الحزب الديمقراطي من خلال الكثير من أعضائه على هذا لأمر، الا ان هذا القرار لقى قبولا ملموسا في داخل حزب الاتحاد، تمثل في توجيه رئيس الحزب بافل الطالباني في الامتثال لقرار المحكمة الاتحادية الذي ينص على توطين الرواتب في المصارف الاتحادية حصراً. مع ذلك ان حكومة الإقليم لم تلتزم بتوطين الرواتب حسب القانون وقرار المحكمة الاتحادية بالرغم من مضي مدة طويلة، هذا بناء على ما جاء في كتاب وزارة المالية الاتحادية ذي العدد 14502 في 28/ 5/ 2025، والتي طالبت سابقاً عبر كتبها المرقم (9429 في 7/4/2024) حكومة إقليم كردستان بسرعة تزويدها بالبيانات المطلوبة لاستكمال إجراءات توطين رواتب موظفي الإقليم.

    ومن الأمور التي أدت الى تفاقم الازمة ، ما جاء في كتابي ديوان الرقابة المالية المرقمين (1/1/9239 و 1/15/  13459) و المؤرخة في( 9/4/2025 و 25/5/2025) و المتضمن مقدار الإيرادات النفطية و غير النفطية المسلمة لخزينة الدولة ، وحسب تقارير ديوان الرقابة فأن حكومة الإقليم لم تقم بتسليم هذه الإيرادات الى خزينة الدولة، على الرغم من ان التمويل من وزارة المالية كان ضمن الحصة المقررة في قانون الموازنة الثلاثية، الا ان هذه الإيرادات التي امتنعت حكومة الإقليم عن تسليمها الى الخزينة العامة أدت الى تجاوز الإقليم لحصته المحددة وفق قانون الموازنة العامة وقرار المحكمة الاتحادية .

    : وتوضيحاً لما تم ذكره فأن حكومة إقليم كردستان ووفقا لتقارير ديوان الرقابة المالية، قد تخلفت بشكل واضح من تسليم إيراداتها النفطية وغير النفطية الى الخزينة العامة للدولة، وهذا منافي تماما لما تم ذكره في المادة رقم (12) ثانيا/أ من قانون الموازنة الاتحادية، الذي يقضي بالتزام حكومة إقليم كردستان بالتنسيق مع وزارة النفط الاتحادية، بشحن النفط الخام المنتج من الحقول الواقعة في الإقليم الى مخازن شركة تسويق النفط (سومو) في ميناء جيهان التركي، بما لا يقل عن (400) (اربعمائة ألف برميل يوميا). إضافة الى ذلك عدم تطبيقها للبند رقم (3) من الفقرة(ج)، والفقرة(د) من المادة نفسها)، إضافة الى المادة رقم (13 أولا /أ) من قانون الموازنة العامة وهذا يعد خرقا واضح من قبل حكومة إقليم كردستان.

    مشاكل الإقليم النفطية:

    تكمن مشاكل النفط في اقليم كردستان في عدم التعامل بشكل شفاف مع حكومة المركز، خصوصا في ما يتعلق بالكميات المنتجة و المصدرة من حقول الإقليم ، وعمليات التعاقد مع شركات نفطية بمعزل عن السلطة الاتحادية في بغداد، و تهريب النفط حيث تعد هذه الأسباب احد اهم المبررات لتفاقم الخلاف بين بغداد والاقليم ، فقد وجهت بغداد انتقادات لاذعة الى إقليم كردستان على اثر بيع النفط خارج السياق القانوني للدولة ، حيث اكدت وزارة النفط في بيان لها في( 5/6/2025): ان الاستمرار بعدم تسليم النفط يسبب خسائر مالية كبرى للعراق ويعرض سمعة العراق الدولية و التزاماته النفطية للضر، حيث أدى عدم التزام حكومة الإقليم بالدستور و القانون الى خسارة الصادرات النفطية العراقية و الخزينة العامة مرتين : الأولى بعدم استلام و تصدير النفط المنتج في الإقليم و الاستفادة من ايراداته ، و الخسارة الثانية باضطرار وزارة النفط الاتحادية لتخفيض الإنتاج من باقي الحقول النفطية خارج الإقليم، التزاماً بحصة العراق في منظمة أوبك التي تحتسب انتاج الحقول الواقعة في الإقليم ضمن حصة العراق مهما كانت المخالفات المؤشرة. كما حملت الوزارة حكومة إقليم كردستان المسؤولية القانونية عن عمليات تهريب النفط المستمرة الى خارج البلاد، في المقابل ردت وزارة الثروات الطبيعية بكردستان على اتهامات بغداد، معتبرة أنها “سياسة تبتعد كل البعد عن الحقائق الموضوعية”، كما اتهمت بغداد بالوقوف حجر عثرة امام إقرار قانون النفط والغاز الاتحادي لسنوات عديدة، كما اعتبرت وزارة الثروات الاتهامات الموجهة لها حول عمليات تهريب النفط “محاوله مكشوفة، لصرف الأنظار عن عمليات التهريب والفساد واسعة النطاق في مناطق أخرى من العراق”. وقالت “فأنتم من تهربون النفط من الجنوب، وتقومون بكل إشكالات الفساد على مسمع ومرأى الجميع، بشهادة التقارير المحلية والدولية التي تفضح حجم الهدر والفساد”. وفي وقت سابق أكد النائب وعضو اللجنة المالية مصطفى الكرعاوي حدوث عمليات تهريب للنفط، تصل الى نحو (286) ألف برميل يومياً، واستمرار تمويل الإقليم بالرواتب مع عدم التزامه بالفصاح عن الإيرادات والصادرات النفطية، وعدم التزامها بالدستور وقانون الموازنة العامة.

    كذلك واحد من اهم المفاصل التي أبدت فيها الحكومة المركزية تحفظها هي عمليات تنظيم الاتفاقيات بين الإقليم والشركات الخارجية، فقد ابرمت حكومة إقليم كردستان عقدان مع كل من شركة (HGN Energy) الأمريكية وشركة (western zagros)، وكان قيمة العقدان يصل الى (110) مليار دولار. الامر الذي فجر الازمة بشكل كبير، ورغم بطلان العقود من الناحية القانونية التي نظمتها سلطة الإقليم، الا ان الولايات المتحدة عبرت من خلال وزارة الخارجية على موقعها في منصة اكس (X) عن سعادتها وتأمل في التوسع في العلاقات بين الجانبين، بتوقيع اتفاقيات مع شركات أمريكية ستعزز هذه الشركات انتاج الغاز.

    : وتحليلاً لما تم سرده يتبين ان الإقليم قد خرق كل من المادة (111) من الدستور العراقي، التي تؤكد على ان “النفط والغاز هما ملك كل الشعب العراقي في كل الأقاليم والمحافظات” وهذه المادة تثبت ان النفط والغاز، هو ملكية عامة لكافة افراد الشعب العراقي وليس ملكا لحكومة الإقليم. كما انها خرقت المادة رقم (112) /أولا التي تنص على ان ” تقوم الحكومة الاتحادية بإدارة النفط والغاز المستخرج من الحقول الحالية مع حكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة، على ان توزع وارداتها بشكل منصف يتناسب مع التوزيع السكاني في جميع انحاء البلاد “. كما يتبين ان حكومة الإقليم تحاول جاهدا التصرف بمقدرات الإقليم من دون الرجوع الى المركز، وهنا تبرز معاناة الموظف في الإقليم من خلال تحمل إجراءات قطع الراتب، من جراء السياسة التي تتبعها حكومة اربيل مع المركز، ومن الواضح ان الحكومة في إقليم كردستان تتعامل بندية مع الحكومة المركزية في بغداد وليس كأقليم يتبع دستورياً المركز.

    انفراج الازمة:

    مع احتدام الخلاف السياسي بين حكومة بغداد وحكومة أربيل، وتلويح الأخير بالانسحاب من الانتخابات النيابية المقررة في نوفمبر تشرين الثاني، في خطوة تهدف الى التصعيد تجاه ازمة رواتب موظفي الإقليم فقد يعتبر هذا الاجراء ضربة قوية للعملية الانتخابية، بعد انسحاب كل من ائتلاف النصر برئاسة حيدر العبادي ومقاطعة التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر من السباق الانتخابي. وقد أشار رئيس مجلس النواب محمود المشهداني الى ان: انسحاب الكرد من العملية السياسية لا يحمد عقباه ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البرزاني جاد بالانسحاب من العملية السياسية.

    وفي ضل التحركات الجادة لحلحلة الازمة، كان للقاء رئيس حكومة إقليم كردستان السيد نيجرفان برزاني مع رئيس مجلس النواب محمود المشهداني، تركيزا كبيرا على جهود الوساطة لمعالجة ازمة الرواتب بشكل قانوني. ومع الضغوط الخارجية والداخلية على حكومة محمد شياع السوداني في حل هذه الازمة، كان اخرها اتصال وزير الخارجية لأمريكي ماركو روبيو مع الرئيس محمد شياع السوداني في (22/يوليو/2025): أشار الوزير الى أهمية دفع رواتب إقليم كردستان العراق بشكل منتظم واستئناف صادرات النفط الإقليم.

    وبعد سلسلة من التفاهمات والحوارات المتبادلة عقد رئيس مجلس الوزراء السيد محمد شياع، جلسة استثنائية في( 17/ تموز/2025 ) والمتعلق بحل الملفات المالية والإدارية مع حكومة إقليم كردستان، قرر فيها على ضرورة ان تبدأ حكومة الإقليم بتسليم كامل النفط المنتج من حقول النفط في الإقليم الى شركة تسويق النفط (سومو) لغرض تصديره ، وتلتزم وزارة المالية الاتحادية بتسديد سلفة لحكومة الإقليم مقدارها 16 دولار (عيناً او نقداً) عن كل برميل مستلم بموجب قانون الموازنة، على ان لا تقل الكمية المستلمة عن ( 230 )الف برميل يومياً ، وبحسب التقارير الصادرة عن الإقليم فأن الكمية المنتجة من النفط حالياً تصل الى 280 الف برميل ، يخصص منها (50 )الف برميل للاستهلاك المحلي ويسلم الباقي البالغ 230 الف برميل ، كما يشكل فريق عمل من وزارة المالية الاتحادية وديوان الرقابة المالية الاتحادي بالتنسيق مع ديوان الرقابة المالية في الإقليم لغرض تصنيف الإيرادات غير النفطية وتدقيقها وتحديد حصة الحكومة الاتحادية منها ابتداءً من شهر أيار المقبل كذلك تشكيل فريق من وزارة المالية الاتحادي و ديوان الرقابة المالية الاتحادي بالتنسيق أيضا مع ديوان الرقابة المالية في الإقليم لغرض تحديد مقدار التجاوز الحاصل في حصة الإقليم من الانفاق الفعلي وكيفية معالجته بناء على قانون الموازنة العامة الاتحادية على ان يتم رفع تقرير هذه اللجنة خلال مدة أسبوعين الى مجلس الوزراء الاتحادي كما تباشر وزارة المالية بصرف رواتب موظفي الإقليم لشهر أيار كبداية لتطبيق الاتفاق بعد تأييد شركة (سومو) استلام كامل كمية النفط المذكورة .

    على أثر ذلك بآشرة وزارة المالية الاتحادية عملية تمويل رواتب شهر أيار، تنفيذا لقرار مجلس الوزراء المرقم (550)، فيما أعلنت حكومة الإقليم في الثاني والعشرين من تموز الجاري، ايداعها للمبالغ المتحصلة من الإيرادات غير النفطية والبالغة مئة وعشرين مليار دينار في الحساب المصرفي التابع لوزارة المالية لدى فرع البنك المركزي في أربيل.

    الخاتمة:

    في الختام ان ازمة الرواتب في إقليم كردستان ليست مجرد خلاف مالي عابر بين حكومتين، بل هي انعكاس حقيقي ناتج عن اهتزاز العلاقة بين المركز والاقليم، وغياب كل مظهر من مظاهر الثقة والشفافية المتبادلة في ادارة الموارد ومحاولات احتكار الثروات، وقد انعكست هذه الازمة في تداعياتها على حياة الموظف الكردي ومست شرائح واسعة من المجتمع في الإقليم وزادت من حدة التوترات والخطابات المتطرفة.

    وما لم يتم إيجاد صيغة قانونية واضحة تلتزم على أثرها الحكومتين في توزيع الإيرادات بصورة عادلة، وتضمن رقابة دستورية، فأن هذه الازمة سوف تبقى تتكرر مهددةً وحدة البلاد واستقراره، ان الحل لا يكمن في المناورات السياسية وانما في بناء بلد يحفظ حقوق كل مواطنيه ويقوم على أساس العدالة في توزيع ثرواته وموارده.

    اقرأ ايضاً