back to top
المزيد

    واحة البيان

    البيت الأبيض بين المطرقة والميزانية : مشروع ترامب الضخم يُربك واشنطن

    مرام مازن حاتم

     

    بين جدران البيت الأبيض المتصدّعة سياسياً ، وفي قلب واشنطن المتأرجحة بين الضرورات المالية والتحديات الإستراتيجية ، طُرح في أواخر يونيو 2025 مشروع إقتصادي وصفه بعض أعضاء الكونغرس بأنه ” زلزال تشريعي” ، في حين رآه آخرون بأنه ” قنبلة مالية مؤجلة” . إنه مشروع رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترامب الجديد ، الذي أعاد تشكيل الخطاب الإقتصادي الأمريكي ، وفتح سجلاً جديداً بين أنصار “الدولة المحدودة” ومناصري “العدالة الإجتماعية” .

    جاء هذا المشروع الذي يُعرف إعلامياً ب “مشروع المطرقة” ، في توقيت دقيق تُواجه فيه الولايات المتحدة إرهاقاً مالياً داخلياً ، وتحديات إستراتيجية حادّة في الخارج ، خاصةً بعد الإشتباك العسكري الكبير بين إيران والكيان الصهيوني . وهنا ، تصبح السياسة المالية إمتداداً عضوياً للسياسة الخارجية ، ويغدو كل بند في الميزانية رسالة دولية مضمرة .

    ويأتي السؤال هنا هو مشروع ترامب: إنقاذ إقتصادي أم مغامرة سياسية؟

    إذ إن المشروع يقوم على ثلاث ركائز رئيسية :

    1. خفض ضريبي شامل: يتضمن تقليص الضرائب على الشركات بنسبة 25% وعلى الأفراد بنسبة 30% ، بدعوى تحفيز النمو و الإستثمار.
    2. خفض حاد في الإنفاق الإجتماعي: خاصة برامج الرعاية الصحية والتعليم والدعم الغذائي، بزعم تقليص الإعتماد على الدولة.
    3. زيادة ميزانية الدفاع بنسبة 5% : مع التركيز على برامج تطوير الأسلحة الإستراتيجية ، والأنظمة السيبرانية ، والتوسّع العسكري خارج الولايات المتحدة.

    هكذا ، يُعيد المشروع إنتاج فلسفة “إقتصاد القوة” (Power-Based Economy) حيث يصبح الإنفاق العسكري أولوية على حساب الخدمات الأساسية ، في ظل خطاب قومي يُبشّر ب “أمريكا أولاً” وبأقوى شكل.

    ولكن هذه الرؤية لم تمر دون معارضة ، حيث إعتبر الديمقراطيون المشروع محاولة لإعادة إنتاج سياسات إقتصادية أثبتت فشلها في تضييق الفجوة الطبقية ، وزيادة عبئ المعيشة على الفئات محدودة ومتوسطة الدخل ، وتزامن طرح المشروع مع تقارير تحذيرية من وزارة الخزانة تتحدث عن خطر تخطي الدين العام الأمريكي لحاجز 40 تريليون دولار بحلول 2026 ، مما يجعل المشروع سيفاً ذو حدين.

    إضافة الى ما شهدته منطقة الشرق الأوسط في يونيو 2025 بتصعيد غير مسبوق بين إيران وإلكيان الصهيوني ، بلغ حدّ المواجهة العسكرية المباشرة ، وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار في 23 يونيو، فإن تداعيات الحرب لا تزال قائمة، من حيث التوازنات الإقليمية والمصالح الأميركية.

    في هذا السياق، لا يمكن عزل مشروع ترامب المالي عن تلك الحرب، بل يُمكن اعتباره جزئيًا إستجابة إستراتيجية غير مباشرة لتغيّرات البيئة الإقليمية. فالزيادة المقترحة في الإنفاق العسكري تُقرأ كرسالة مزدوجة: داخلية مفادها “الحزم والردع” ، وخارجية مفادها أن واشنطن تستعيد زمام المبادرة، بعد ما إعتبره بعض المراقبين “تراجعًا في التأثير الأميركي لصالح قوى إقليمية” .

    فهذا المشروع ليس فقط خطة إقتصادية ، بل هو وثيقة سياسية تُمثل رؤية ترامب لأمريكا ، وهذا التوجه يُنبئ بتغيّر مُحتمل في أولويات السياسة الخارجية، خصوصاً تجاه الشرق الأوسط، حيث تزداد إحتمالية تقليص الدعم الإنساني وزيادة التمويل العسكري لإسرائيل، بما يفاقم الأزمات الإقليمية القائمة.

    كما أن رفع الدعم عن برامج خارجية، خاصة تلك المرتبطة بالمساعدات التنموية، يعكس توجّهًا جديدًا نحو “تقليص الدبلوماسية الناعمة لصالح الردع الصلب” ، وهو ما قد يُحدث فراغًا دبلوماسيًا في مناطق مشتعلة مثل الخليج، والعراق، وسوريا .

    وقد شكّل التصويت على المشروع داخل مجلس الشيوخ إختباراً صعباً لوحدة الحزب الجمهوري ذاته، حيث إنقسم بعض الجمهوريين الوسطيين بين ولائهم الحزبي وتحفظاتهم على جدوى المشروع. وقد إستغلت الإدارة الديمقراطية هذا الإنقسام لتأجيج الخطاب حول “اللامسؤولية المالية”  التي تنتهجها حملة ترامب، مُعتبرة المشروع إمتداداً للخطاب الشعبوي الذي يتجاوز حدود الواقعية السياسية.

    وتم التصويت على المشروع في نهاية يونيو وبداية يوليو، فقد تم تمرير المشروع بأغلبية ضئيلة

    50-51 ، وفي مجلس النواب جرى التصويت النهائي على نسخة معدّلة من المشروع وصوّت لصالحه 218 نائب جمهوري مقابل 214 ضد ، بموافقة جميع الديمقراطيين تقريباً وبدعم جمهوري ضيّق جداً ، ثم أُرسِلت النسخة النهائية الى البيت الأبيض ، وتم توقيعها رسمياً في 4 يوليو 2025 .

    ويمكن تحليل آثار هذا المشروع بما يأتي :

    1. 1. نمو اقتصادي مصطنع: يمثل بالزيادات الكبيرة في الإنفاق على البنى التحتية والدفاع ستُحدث دفعة مؤقتة للنمو، لكن بدون قاعدة إنتاجية متينة، والشركات الكبرى ستستفيد من التخفيضات الضريبية، ما قد يزيد من التوظيف في بعض القطاعات على المدى القصير.

     2.ضغوط تضخمية: تتمثل بضخ الأموال في السوق دون تغطية كافية سيرفع الأسعار تدريجيًا، خصوصًا في قطاع السكن والرعاية الصحية والطاقة.

     3.إضطرابات في سوق السندات: يتمثل بتوقعات بإرتفاع معدلات الفائدة، نتيجة إرتفاع العجز وإستدانة الحكومة ، ما سيؤثر على الاستثمار والاستهلاك المحلي.

     4.تراجع الخدمات الإجتماعية: كتقليص برامج الرعاية الصحية والغذائية والتعليمية سيُضر بالطبقات المتوسطة والفقيرة، ويزيد الفجوة الاجتماعية.

    1. 5. تصاعد العجز والدين العام: سيصل الدين الفيدرالي إلى مستويات حرجة تقيّد قدرة الحكومات المقبلة على تمويل الاستحقاقات الحيوية (التقاعد، الضمان الاجتماعي، برامج التوظيف).

     6.ضرب الاستقرار المالي الأمريكي: قد تتراجع الثقة بالدولار كعملة احتياط عالمية، في حال استمرار السياسات المالية التوسعية غير المضبوطة.

     8.احتمال حدوث أزمة اجتماعية: الانقسام الاقتصادي قد يتحول إلى انقسام سياسي ومجتمعي أكبر، خاصة مع تصاعد اليمين المتطرف ومعارضة داخلية واسعة

    ومن الأسئلة الفكرية والتحليلة التي تُطرح :

    1. 1. هل تستطيع النخبة الأمريكية إيقاف المسار الشعبوي المالي قبل أن يتسبب بأزمة شاملة؟

     2.ما إنعكاسات هذا المشروع على مكانة أمريكا في النظام الدولي، خصوصًا إذا تفجرت أزمة ديون داخلية؟

     3.هل سنشهد في الانتخابات المقبلة صراعًا على طبيعة الاقتصاد الأمريكي: ليبرالي منضبط أم شعبوي غير مقيد؟

    1. هل تبدأ مرحلة جديدة من الحرب الباردة المالية بين أمريكا وباقي القوى الكبرى بسبب فقدان الثقة بسياساتها الاقتصادية؟

    برأيي، تعكس ميزانية ترامب لعام 2025 تحوّلًا إستراتيجيًا يرفع من أهمية الأولويات الداخلية ضمن سياق سياسي معقّد، يتسّم بتحديات إقتصادية وإجتماعية متعددة الأبعاد ، وهذا التوجه يستوجب إدارة دقيقة وتوافقاً سياسيًا فاعلًا يوازن بين طموحات النمو الإقتصادي والإستدامة المالية ، مع ضمان إستقرار النسيج الإجتماعي ، و فهم الأبعاد المتشابكة لهذا المشروع ضروري لتجنّب الإنزلاق نحو أزمات محتملة ، ويُعدّ مدخلاً حيويًا لإعادة صياغة السياسات بما يتلائم مع متطلبات المرحلة الراهنة والمستقبلية .

    اقرأ ايضاً