back to top
المزيد

    هندسة الردع إعادة تشكيل ميزان التهديد في الشرق الأوسط

    أحمد حسن / باحث وأكاديمي

    لطالما كان مفهوم الردع حجر الزاوية في هندسة الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط، حيث اعتمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها، وخاصة إسرائيل، على مزيج من التفوق العسكري، والتهديد الضمني بالتصعيد، والمنظومات الدفاعية المتطورة لضمان توازن القوة لصالحهم. لكن الحرب التي استمرت اثني عشر يوماً بين إيران وإسرائيل كشفت عن تصدّع خطير في هذه المعادلة. لقد دخل الردع، كما يُفهم تقليدياً في الأدبيات الاستراتيجية الأمريكية، مرحلة إعادة هيكلة تتسم بعدم اليقين وتعدد الفاعلين.

    الردع الكلاسيكي، الذي كان يقوم على معادلة: “رفع تكلفة الهجوم إلى حدّ يصبح فيه غير مقبول”، لم يعد كافياً. فقد أثبتت إيران أنها مستعدة لتحمّل مستويات عالية من المخاطر الاقتصادية والسياسية، مقابل الحفاظ على قدرتها على المبادرة والهجوم. هذا التغيّر يعكس فشل سياسات “الضغط الأقصى” التي اعتمدتها إدارة ترامب، والتي سعت إلى فرض عزلة خانقة على طهران بهدف تقييد قدراتها الردعية.

    وفي الحالة الإيرانية، الردع لم ينهار فحسب، بل تم قلبه لصالح طهران التي استطاعت   من خلال تحريك أذرعها الإقليمية واستخدام تكتيكات هجينة أن تجعل إسرائيل والولايات المتحدة في موقع المدافع. فما يميز البيئة الأمنية الجديدة هو بروز الردع غير المتماثل. فإيران لا تحتاج إلى مضاهاة القدرات الإسرائيلية أو الأمريكية تكنولوجياً أو كمياً. بدلاً من ذلك، طورت طهران شبكة معقدة من الوكلاء (Proxy Network) قادرة على تهديد المصالح الحيوية لإسرائيل والولايات المتحدة بتكلفة منخفضة وبقدرة على الإنكار السياسي (Plausible Deniability). هذه الشبكات تشمل، حزب الله في لبنان والفصائل المسلحة الاخرى في العراق والحوثيين في اليمن والجماعات الفلسطينية في غزة. إلى أن إيران عززت قدرتها على شن “ضربات متزامنة” عبر عدة جبهات، مما يُجبر إسرائيل على توزيع جهودها الدفاعية، ويزيد من احتمالية الاختراقات الأمنية.

    وفقاً للأدبيات الاستراتيجية الأمريكية، كما لدى توماس شيلينغ وكينيث والتز، فإن الردع الفعّال يعتمد على وضوح نية المعاقبة، ومصداقية التهديد، والسيطرة على تصعيد الصراع. ما أظهرته إيران هو القدرة على إرباك سياسات التحكم في التصعيد (Escalation Control) لدى الولايات المتحدة و(الكيان الصهيوني). لذلك، فإن إسرائيل، التي لطالما بنت عقيدتها العسكرية على مبدأ “الرد الحاسم والفوري”، اضطرت للقبول بوقف إطلاق النار بعد أيام قليلة من التصعيد. وقد تم تأويل هذا القبول، في المنطقة والعالم، على أنه دليل على أن إسرائيل لم تعد قادرة على إدارة تصعيد مفتوح ضد خصم يتمتع بمرونة استراتيجية وقدرة على خوض حرب طويلة الأمد.

    الردع في المرحلة القادمة لن يكون محصوراً بين الدول الوطنية، بل سيمتد إلى “شبكات الردع” التي تديرها قوى غير حكومية عبر وكلاء إقليميين. وقد استطاعت إيران أن تؤسس نظام ردع موزّعاً (Distributed Deterrence)، بحيث إن الهجوم على أحد أذرعها لا يضمن تفكيك قدرتها الهجومية، وتصبح تكلفة الهجوم غير قابلة للحساب الدقيق، فيما يتّسع هامش المناورة سياسياً وعسكرياً. وبهذه المنظومة، تفرض إيران معضلة استراتيجية على الولايات المتحدة وإسرائيل: كيف يمكن ردع شبكة لامركزية، عابرة للحدود، دون الدخول في مواجهات مفتوحة مع عدة دول وجماعات في آنٍ واحد؟

    بالتالي، فإن هذه التحولات تفرض على الولايات المتحدة إعادة تقييم جدوى سياسات الاحتواء التقليدية، إضافةً إلى تقييم فعّالية التحالفات الأمنية القائمة في إدارة الردع ضد فاعلين من نمط جديد (شبكات هجينة، وكلاء غير حكوميين، قوى تتبنى استراتيجيات حرب العصابات). وقد تجد واشنطن نفسها مضطرة إلى تطوير نماذج ردع أكثر مرونة، تشمل أدوات اقتصادية مركبة، وهجمات سيبرانية موجهة، وعمليات سرّية تستهدف قيادات الشبكات، وذلك لتعزيز الدفاعات متعددة الطبقات لدى الحلفاء. لكنّ أيّ خطأ في الحساب قد يؤدي إلى انهيار تدريجي لنظام الردع الأمريكي التقليدي في المنطقة، وهو الخطأ الذي وقع مؤخراً مع إيران. وهكذا، انتقل الردع في الشرق الأوسط من كونه معادلة صلبة يمكن التحكم بها، إلى معادلة مرنة، مفتوحة على التعقيد والتداخل. لقد أثبتت إيران أنها لا تسعى فقط إلى رفع تكلفة الهجوم ضدها، بل تعمل على إدارة الردع كأداة هجومية ووسيلة لفرض معادلات سياسية جديدة. وهذا ما جعل التحدي اليوم أمام صناع القرار في واشنطن يتمثل في كيفية تطوير نموذج ردع يتكيّف مع بيئة تهديدات شبكية ومتعددة الجبهات، من دون الانزلاق إلى حروب استنزاف طويلة.

    لقراءة المزيد اضغط هنا