نجحت إيران مؤخراً في تحقيق اختراقات دبلوماسية مُهمة على صَعيد العلاقات العربية الإيرانية، فبعد سنوات من القطيعة وحروب الوكالة، توصّلت إيران في الأشهر الماضية إلى صيغة توافقية تُنهي من خلالها صِراعها مع السعودية، مستغلة الحاجة الاستراتيجية السعودية لإنهاء الحرب باليمن، وأهداف استراتيجية أخرى، وفي الوقت ذاته الحصول على «هدنة إقليمية» من أجل الانصراف لمعالجة الأزمات الداخلية التي تعيشها، بعد أشهر من الاحتجاجات في العديد من المدن الإيرانية.
وفيما يتعلق بالعلاقات المصرية الإيرانية، يمكن القول بأنها لا تقل تعقيداً عن العلاقات السعودية الإيرانية، بل الأكثر من ذلك، هي علاقة يتداخل فيها القومي والديني والحضاري، وهو ما يجعل المسار التوافقي بين الطرفين أكثر تعقيداً، إذ تنظر إيران إلى مصر نظرة مركبة، من جهة هي حالة حضارية لا تقل أهمية عن الحضارة الفارسية، ومن جهة أخرى هي حالة قومية عربية تمثل ضداً نوعياً للقومية الفارسية، ومن جهة ثالثة هي حالة دينية تنافسية في العالم الإسلامي، خصوصاً عن الحديث عن ثنائية (قُم والأزهر)، وهو ما يجعل السياق العلاقاتي بين البلدين يواجه تحديات كبيرة، رغم البيئة الإقليمية والدولية المواتية لبناء علاقات أكثر تعاوناً بين البلدين في الوقت الحاضر.
إنَّ البناء على فرضية المضي نحو توافق إيراني جديد مع أحدى القوى العربية المنافسة، على شاكلة ما حدث مع السعودية، يبدو نوعاً ما بعيداً عن المنطق الاستراتيجي، فالعلاقات بين مصر وإيران علاقات مبنية بالأساس على حالة عدم الثقة، ومن ثم، فإنَّه يمكن القول بأنَّه حتى في حالة التوافق، ستكون العلاقة مُعرّضة للعديد من الهزات، ليس بسبب حالة عدم الثقة فحسب، وإنما لارتباط هذه العلاقة بأكثر من ملف وعلى أكثر من صعيد، والتي يأتي في مقدمتها العلاقة مع إسرائيل والقضية الفلسطينية وأمن البحر الأحمر، والأهم من كل ذلك نظرة مصر للدور الإيراني في المنطقة.
مما لا شكَّ فيه، إنَّ الصيغة التوافقية التي يمكن أن تنتج عن التقارب المصري الإيراني، هي بالأساس نابعة عن حاجات استراتيجية متبادلة من كلا الطرفين، حيث أنَّ كلاًّ من مصر وإيران تعيشان ظروف اقتصادية متشابهة، إلى جانب تعقيدات جيوسياسية متداخلة، والأهم أنَّ كلا البلدين يواجهان حالة إقليمية غير مواتية، تتمثل بصعود أدوار إقليمية جديدة على حساب الأدوار التقليدية التي كانت كلا الدولتين تقومان بها، ما يهدد بدوره في حالة عدم نجاح مسار التقارب بينهما، بإمكانية تعاطيهما مع ترتيبات أمنية وتوازنات استراتيجية، لن يكونا المركز فيها، بل أطراف، والأكثر من ذلك، قد تكونا مجبرتان على التعاطي معها، من مُنطلق الضرورة الاستراتيجية، وليس من مُنطلق الدور الإقليمي الفاعل.
مصر في المدرك الاستراتيجي الايراني
شكّلت العلاقات المصرية الإيرانية أحدى أبرز حالات التنافر الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ولعل ما يميز هذا التنافر أنَّه مبني على أبعاد ومجالات متعددة، جعلت من مصر أحدى أبرز المعوقات الاستراتيجية في وجه استراتيجية إيران الاقليمية، فإلى جانب البعد القومي والتاريخي، والمركزية الدينية–الأزهرية، تبرز الكاريزما السياسية والثقل العسكري لمصر كمحددات استراتيجية في مسارات العلاقات التنافسية المصرية الإيرانية في جيوبوليتيك المنطقة، فمنذ عهد الأسرة البهلوية وحتى الوقت الحاضر، استقرت العلاقات المصرية الإيرانية على خاصية عدم الاستقرار؛ بسبب ارتباط هذه العلاقات بديناميات داخلية وخارجية متعددة، انعكست سلباً وإيجاباً على مستقبل هذه العلاقات وتفاعلاتها.
وفي هذا الإطار لا بُدّ من القول بأنَّ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، أدخل العلاقات التنافسية بين مصر وإيران في عهد جديد، فبعد هذه الثورة تم تعديل النظرة الرومانسية للماضي الإيراني، عن طريق إيجاد حل وسط تم التوصّل إليه بين الأبعاد الوطنية والدينية للهُوية الإيرانية، وفي الواقع، فإنَّ القومية الدينية هي نسخة معدلة ومتوازنة من الهُوية الإيرانية، بحيث يتم الحفاظ على قوميتها، ولكن مع إضافة مسحة إسلامية عليها، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ القومية الإيرانية الجديدة لم تخلُ من كلّ المشاعر السلبية تجاه القومية العربية، وهو توجّه إيراني لترسيخ فكرة أنَّ إيران تشتهر بمكانتها في الحضارة الإسلامية، وليس بمجد ما قبل الإسلام، ومع ذلك فهذه المرة هناك عاملان مهمان للإيرانيين للتحرك داخل العالم الإسلامي هما: مساهمة كبيرة في الحضارة الإسلامية، وعدم اعترافها بالحضارة العربية، أي عدم اختزال الحضارة الإسلامية بالحضارة العربية، وهو ما يُنعش التناقضات بين أن تكون إيرانياً وعربياً، ومن هنا وجدت إيران بوصلة تنافرها الاستراتيجي مع مصر، فمصر باعتبارها قلب العالم العربي، أصبحت الموضوع الرئيس لمثل هذه المشاعر الإيرانية، وعلى الرغم من أن مصر لديها حضارة قديمة، وأسست دولة ونظام اجتماعي يعود تاريخها إلى عصر ما قبل الاسلام، إلا أنّها كانت مركزاً للتطورات الفكرية والاجتماعية في العالم العربي، وحقيقة أنَّ عدداً من الاتجاهات السياسية في العالم العربي من القومية العربية إلى الإسلامية، ظهرت لأول مرة في مصر، وجعلت هذا البلد دولة ذات حضارة عربية في نظر الإيرانيين، وعليه، فإنَّ حقيقة أنَّ القومية العربية ولدت وازدهرت في مصر، قد وضعت هذا البلد في بؤرة الصراع الحضاري مع إيران.

لقراءة المزيد اضغط هنا