حيدر عبد المرشد – باحث
مدخل
كانت فلسفة إدارة الأمن في العراق على الدوام رهينة للمزاج السياسي؛ لطبيعة النظام وما يريده من المؤسسة الأمنية، أتحمي الدولة أم تحمي شاغل المنصب؟
انعكس هذا الارتباك سلباً على تشكيل المؤسسات الأمنية وطبيعة الواجبات المناطة بها، فحينما يقوم الجيش في فكرته الأساس على هدف حماية الدولة من المخاطر الخارجية، وعدم تدخُّله في السياسة، أو الواجبات الأمنية الداخلية، فإنَّه في العراق، ومنذ تأسيسه، كانت السياسة حاضرة فيه بقوة، وفي أقل الظروف وطأة كانت تناط به واجبات الأمن الداخلي، وهي ليست من صميم فلسفته، ولا تتفق مع التدريب الذي يتلقاه أفراده، جنوداً وضباطاً.
من جانب آخر، تداخل عمل المؤسسات الأمنية فيما بينها، وفي حقبة الديكتاتورية وهيمنة صدَّام حسين بصورة تامة على الدولة. التبست الواجبات ولم يعد أي جهاز يعرف حدود صلاحياته بصورة واضحة. هدف صدَّام حسين -وبنية قصدية- عن طريقها إلى عدم إتاحة القدرة لأي جهاز أمني؛ ليشكِّل خطراً على بقائه في السلطة، فأضعف الجيش، وشتَّت سائر الأجهزة الأمنية، وربطها بمكتبة بطرائق ملتوية، جعلتها ذات ارتباط مزدوج، تكون فيه ضمن تشكيلات وزارة أمنية ما، لكنَّها تقدِّم تقاريرها أولاً إلى مكتب الرئيس، قبل الوزير المسؤول حتى، كما كان عليه الحال في مديرية الأمن العامة مثلاً.
إنَّ النقاش بشأن تدخُّل العسكر في السياسة، والانحراف في المؤسسات الأمنية لصالح الديكتاتورية لا يمكن أن تحصره هذه الورقة، ولكن ما نناقشه هنا هو استمرار الارتباك في العمل الأمني، وتشتُّت الواجبات وتداخلها، بما ينعكس سلباً على أداء المؤسسات الأمنية لواجباتها.
الأمن ومؤسساته: فوضى الواجبات
مع ما ذكرناه سابقاً، فإنَّ تقاليداً معينة كانت متبعة فيمن يُكلَّف بالواجبات الأمنية قبل العام 2003، فضباط وزارة الداخلية وأفرادها كانوا يمارسون مهامهم مستندين على معايير معروفة، تتمتَّع بشيء من الثبات على الأقل بمن يلتزمون المستويات المتوسطة والدنيا من المسؤولية. كان كبار الضباط من خريجي أكاديمية الشرطة، والذين ترقوا عبر السلك الوظيفي ومراكمة الخبرات، وكذا الحال مع مديرية الأمن العامة التي كانت تمتلك أكاديمية مستقلة، ومركز للبحوث، وتطور ملاكاتها بدورات تخصصية متسقة مع طبيعية عملها، بغض النظر عن أنَّ الهدف هو حماية رأس السلطة، وليس الدولة.
ونادراً ما كان ضباط الجيش يتولون مسؤوليات في وزارة الداخلية، ولم يكن من المسموح التدرُّج في الرتب في الداخلية بما يعلو على رتبة اللواء؛ لأنَّ هذه الرتبة هي نهاية ما تحتاجه الوزارة، بما يرتبط مع طبيعية مهامها.
أمَّا بعد العام 2003، فقد حدثت فوضى كبيرة في تشكيل الوزارة، وفيمن ضم إليها، سواءً بمَن جاء للوزارة من خارج العمل المؤسسي حتى من خارج الجيش، أو من الضباط المسرَّحين من الجيش والذين أُعِيدوا للخدمة في وزارة الداخلية، لنشهد وجود ضباط من خريجي كلية الأركان يمارسون عملاً شرطوياً، ناهيك عن وصول الرتب في الوزارة حتى إلى درجة الفريق أول ركن، من دون أن تكون هناك حاجة لهذه الرتبة.
ولم تقتصرِ الحال عند هذه النقطة، فإنَّ الخلافات السياسة، وموقف القوى الكبرى المؤثرة في العراق بعد العام 2003 -الولايات المتحدة وإيران بصورة خاصة- من إعادة تأسيس الجيش العراقي -حتى أنَّهم اعتمدوا تسمية الحرس الوطني بدلاً عن الجيش لوصف التشكيلات العسكرية الأولى التي أُنْشِئَت بعد قرار رئيس سلطة الائتلاف المدني بول بريمي بحل الجيش العراقي- في ظل اختلال أمني كبير قاد إلى تأسيس وحدات عسكرية هجينة، متوسطة التسليح -فوج مغاوير الداخلية الذي تحوَّل في النهاية إلى قيادة الشرطة الوطنية- تناط بها مهام قتالية، وترتبط بوزارة الداخلية، التي يفترض أن تمارس مهامها أمنية غير قتالية، أو على الأقل تقاتل بطريقة تختلف عمَّا هو عليه الحال في الجيش.

لقراءة المزيد اضغط هنا