د. عماد رزيك عمر – كلية القانون والعلوم السياسية، جامعة الأنبار
 
جاء اغتيال (شينزو آبي) كحدث مأساوي تعرَّضت له اليابان قُبَيل الانتخابات التشريعية، وبه فقدت واحداً من أهم رؤساء الوزراء في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تُعدُّ إداراته للفترة (2012-2020) قطيعةً هيكليةً للسياسة الخارجية اليابانية بعد الحرب، والتي كانت من سماتها الضعف والتشتُّت والاعتماد اعتماداً كبيراً على الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنَّ (شينزو آبي) عن طريق يقظته الإستراتيجية أدرك أنَّ نظام توازن القوى متجه للتغيير، ويجب أن تخط اليابان إستراتيجيتها، وإلا ستجد نفسها رهينة التهديد الإقليمي؛ بسبب سرعة صعود الصين اقتصادياً، والذي بلغ حالياً ثلاث أضعاف الاقتصاد الياباني، وما يحمل هذا الصعود من انعكاسات على تطور الجيش الصيني، والذي يُغْدِيه واحداً من أكثر الاقتصادات نمواً، وما يمكن أن يجرَّ من خلل في التوازن الإقليمي والعالمي، حوَّل هذا القلق من طبيعة البيئة الإستراتيجية في اليابان؛ ممَّا دفع (آبي) إلى ضرورة التحضير لمنافسة طويلة مع جارتها، ويجب أن يرسِّخ القناعة، سواءً في الداخل أم الخارج، وأن تقومَ اليابان بأدوار عالمية، إلا أنَّ هذا الطموح اصطدم بصعوبة تحقيق هذا التنافس، خصوصاً على المستوى العسكري؛ بسبب قيود فرضها الدستور الذي وضع من قبل الولايات المتحدة الأمريكية عام 1947 عن طريق ما جاء في المادة (9) التي تمنع استخدام الحرب كوسيلة لتسوية النزاعات الدولية، وما تبع ذلك من حظر على امتلاك قوات عسكرية وتسلح فعال، وتمتلك اليابان -حالياً- قوات الدفاع الذاتي، والتي تقوم بحكم الواقع بدور الجيش، ولكن قاصرة عن أداء دور كبير خارج الحدود، ممَّا يجعل مصداقية اليابان أن تكون مركز استقطاب محل شك، وهذا الاستقطاب ضروري؛ لممارسة دور كبير في السياسة الدولية، وهنا وجد (شينزو آبي) نفسه أعزلاً حيال هذا الطموح، وهو يرى أنَّ الصين تريد إحكام الطوق على اليابان، فكان لزاماً عليه السعي إلى تطوير إستراتيجية تنافسية يتمكَّن عن طريقها الإمساك بقواعد اللعبة، وإعادة ترتيب الأوراق على المستوى الداخلي والخارجي، وتعديل المسارات الأمنية والإستراتيجية في اتجاهات عديدة.
أولاً: «مجمع البحرين» بناء إستراتيجية كبرى لليابان
ترتبط الإستراتيجيات الكبرى -عادةً- بالقادة ذوي الإرادة الصلبة، والإدراك العالي بالتغييرات التي ممكن أن تطرأ على ميزان القوى، وكان (شينزو آبي) متمتعاً بكل ذلك، إذ كان يراقب بحذر خطوط الصراع التي بدأت في التشكل في آسيا، إذ بدأتِ الصين بإطلاق مشاريعها العالمية، وأهمها الخطة الطموحة لتطوير طريق الحرير التي قدمها (شي جين بينغ) عام 2013، ويمرُّ هذا الطريق عبر المحيط الهندي، وأورآسيا، ومن ثَمَّ توسُّع نفوذ الصين عالمياً، وتمارس الصين -أيضاً- نهجَ الهيمنة في آسيا، فهي تضغط باستمرار على (هونغ كونغ، وتايوان)، وبدأت بالشروع فعلاً بعسكرة جزرها في بحر الصين الجنوبي التي أُنْشِئَت مؤخراً، وتسعى أيضاً إلى تقويض التقارب بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، لا تتمتَّع اليابان -في ظل هذه البيئة- بعلاقات مثالية مع كوريا الشمالية وروسيا، كما أنَّ اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقة شرق آسيا قدِ انخفض إلى حدٍّ كبير، والذي ينبِّئ بالحذر لليابان؛ لأنَّ المنطقة تمرُّ بمنعطف إستراتيجي، ربما تتغيَّر فيها قواعد اللعبة.
أدرك (شينزو) -في ظل هذه المتغيرات- أنَّ على اليابان أن تسهم في تشكيل البيئة الخارجية بدل الانتظار من الآخرين تحديد مساراتها، وأن تعرض إستراتيجية كبرى توازي خطوط الطول والعرض في علاقاتها الخارجية، وهو على وعي تام بالصعوبات التي تعتري هكذا مشروع خصوصاً بما يتعلق في موضوع الجدوى والجدية من هكذا إستراتيجية.
 من ناحية الجدوى يجب أن يُعْرَض تصوراً منطقياً يقنع الدول الأخرى بجدوى التعاون مع اليابان وان المشروع يمكن أن يحقق الأهداف المرجوة، أما من ناحية الجدية فيتعلق بضرورة نقل اليابان من الهامش إلى المركز؛ لكسب ثقة الأطراف بها، كما هو معروف كانت اليابان -ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية- غير متبنيةٍ إستراتيجية واضحة، بل كانت تدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية، والذي شعرت مؤخراً بأنَّ هذا النهج في طريقه إلى التآكل، وأنَّ آسيا في طريقها إلى أن تصبحَ بحيرة صينية.

لقراءة المزيد اضغط هنا