فراس طارق مكية/ باحث سياسي
أدَّى انهيار النظام الشمولي إلى انهيار الدولة العراقية الأولى 1921 – 2003 وكان إيذاناً رسمياً بفشل مشروع الدولة، وفشل النخب السياسية والنخب الثقافية معاً في التوصُّل لهوية وطنية تعبِّر عن صيغة عادلة ومرضية؛ لتقاسم السلطة والثروة بين مكونات الشعب، بعد أن أُسِّست الدولة على أسس التمييز الطائفي والقومي الذي وصل إلى حد الإبادة الجماعية في الانتفاضة الشعبانية والأنفال.
بُنِيَ النظام السياسي للدولة العراقية الثانية -كردِّ فعلٍ على هذا الفشل- كما رسمه دستور 2005 على الديمقراطية التوافقية؛ لانعدام الثقة بين المكونات خشية استئثار إحداهما بالسلطة، واحتكارها بما يعيد مأساة التجربة السابقة المرة.
وقد ضمنت الديمقراطية التوافقية تقسيم السلطة والدولة بين المكونات بما لا يسمح بعودة العسكرتارية، أو الشمولية، أو الدكتاتورية، أو الأوتوقراطية مرةً أخرى، ووفَّرت بذلك التوازن الضروري في السلطة الذي يمنع من احتكارها، أو الاستئثار بها من قبل أي طرفٍ كان.
إلا أنَّ الديمقراطية التوافقية هي عنوان آخر للفشل في بناء الهوية الوطنية؛ قادَ -كما هو المتوقَّع- إلى الفشل مرةً أخرى في بناء الدولة، إذ تمنع نشوء دولة قوية منسجمة وتعزِّز الانقسامات الموجودة فعلاً فقط للحيلولة دون الانهيار الذي وقع بالفعل مرتين في 2006 و2014، ومع ذلك استمر النظام بمعجزة تاريخية تثير الدهشة.
بيد أنَّ متغيرات الواقع السياسي التي حكمت معادلات تأسيس النظام قدِ اختلفت كثيراً بما أنتج تخلخلاً في التوازنات التي أبقت على منظومة توزيع السلطة طوال العقدين الماضيين، فقد تفتَّتتِ القوى السياسية المسيطرة على تمثيل المكونات الطائفية والقومية، وانكسر احتكارها لتمثيل مكوناتها التي استيقظت على اللعبة الحزبية، ومتاجرتها بالهويات الأساسية للمكونات وبدأت القوى الحزبية تصطف خلف محاور سياسية أخرى دون أن يعني ذلك بالطبع تجاوز الواقع الطائفي والقومي، أو تجاوز واقع انعدام الثقة، وإنْ خفَّ منسوبه إلى حدٍّ كبير؛ إذ لا يمكن بسهولة أن تذوب الحساسيات بين المكونات بالكامل في بلدٍ قلقٍ مثل العراق مهما علت الشعارات الوطنية.
أربكَ تبدُّل معادلات تداول السلطة التوازنات في توزيع السلطة بشدَّة، وهذا يقود بالضرورة إلى حتمية تبديل هذه المعادلات بما يضمن الحفاظ على التوازنات، ويمنع احتكار السلطة من قبل طرفٍ ما بأساليب مشرعنة ديمقراطياً، ما لم يُعالجْ هذا التناقض الحاصل بين التوازنات التوافقية التي رسمها دستور 2005، وبين الواقع المتغيَّر في 2021، فإنَّ الصراع على السلطة قد لا يستمر ضمن معادلات التداول السلمي لها كما تلوح بوادره بين الفينة والأخرى.
يجب أن تتوازى أسس التوازنات الجديدة مع متغيِّرات اللعبة السياسية التي بدأت بالتحوُّل إلى صراع حزبي، وهذا تطوُّر سليم للعملية السياسية فيما لو كانت الأحزاب السياسية أحزاباً برامجيةً حقيقيةً، وليس مجرد تكتلات انتخابية تتمحور حول زعامات شخصية. وتختلف التوازنات القائمة على الأسس الحزبية بالطبع عن تلك القائمة بين المكونات، وهذا ما يفرض الانتقال من الديمقراطية التوافقية إلى ديمقراطية الأغلبية، وما الانسداد الحالي إلا إرهاصات لهذا الانتقال الذي ينبغي أن تستوعبه القوى السياسية.

لقراءة المزيد اضغط هنا