في معظم البلدان النامية ينتشر الفساد بنحوٍ كبيرٍ بحيث يُصبح جزءاً من الحياة اليومية، ويتعلّم المجتمع كيفية التعايش معه ليكون جزءاً لا يتجزأ من ثقافته، إذ تساعد بعض الآليات على نشر الفساد وجعله ممارسة معتادة في بلدان العالم الثالث، بل إن الموظفين الذين يرفضون أخذ الرشوة قد يُعزلون من قبل المجموعة الفاسدة، حتى أن رجال الأعمال الذين يعارضون أعمال الفساد يُحاربون من المجموعة نفسها. ومع مرور السنين تتكون صورة للدولة التي بموجبها تعد الخدمة المدنية بعيدة كل البعد عن كونها هيئة موجودة لخدمة المواطنين، وتصبح هي الطريقة السريعة للثراء والأقل خطورة ليبدو الفساد طبيعياً في المجتمع.

من الناحية العملية، فإن البيئة التي يعمل فيها الموظفون العموميون والمؤسسات الفاعلة هي التي تسبب الفساد؛ لإن الإدارة العامة للمؤسسات في البلدان النامية تكون بيروقراطية وغير فعّالة. وهناك عدد كبير من الأنظمة المعقّدة والمقيِّدة إلى جانب الضوابط غير الكافية التي هي من سمات البلدان النامية التي يستطيع الفساد تجاوزها.

ولفهم الفساد لا يكفي التحليل المؤسسي فقط بل يجب أن يضاف إليه التحليل السياسي والاقتصادي كونهما مهمين جداً؛ لأن الفساد يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمؤسسات الحكومية، حيث تكون الصلة بين السلطة السياسية والاقتصادية مباشرة. وهناك أيضاً التراث والتقاليد إذ إن الوصول إلى السلطة السياسية يضمن الوصول إلى الامتيازات الاقتصادية، أو يمكن شراء موقع مائز وبيعه على حسب المحسوبية.

باختصار، تتأثر عملية توزيع المناصب الإدارية -ولاسيما تلك التي تتمتع بصلاحيات اتخاذ القرار بشأن تصدير الموارد الطبيعية أو تراخيص الاستيراد- بالمكاسب غير المشروعة التي يمكن تحقيقها منها، وهي ترسّخ الأسس السياسية لتبادل الامتيازات عبر الدعم السياسي أو الولاء.

وهناك سمة أخرى مشتركة بين معظم البلدان النامية وهي تخلفها علمياً ومعرفياً؛ مما يفضي إلى الفساد. وفي الواقع أن التخلُّف يشجع على الفساد؛ لأن الأجور المنخفضة في الخدمة المدنية تشجّع على الفساد بين موظفي الدرجات الدنيا، ولا يخفى أن الأفراد -وبسبب نقص الفرص في القطاع الخاص- يميلون إلى العمل في الخدمة العامة؛ مما يزيد من احتمال مشاركتهم في الممارسات الفاسدة. ومن الأسباب الأخرى أيضاً انخفاض مستوى التعليم في البلدان النامية إذ يجعل المواطنين يجهلون حقوقهم؛ مما يحرمهم من المشاركة في الحياة السياسية.

وعلى الرغم من هذا المناخ القاتم بسبب الفساد نستطيع تحديد مكان وجود العلاجات، إذ إن مزيداً من الشفافية والمساءلة وإدارة الموارد البشرية على أساس الجدارة في الإدارة العامة وتقليل تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي هي مبادئ أساسية في مكافحة الفساد. فعلى سبيل المثال: لجأت الحكومة السنغالية إلى إجراء إصلاحات في إدارة الجمارك، باستخدام اختبارات الاقتصاد القياسي، وتيسير هيكليتها، والحد من السلطات التقديرية لمسؤولي الجمارك، فضلاً عن إدخال الحوسبة؛ وكانت النتيجة مذهلة إذ ساعدت الإصلاحات على خفض مستوى الاحتيال بنسبة كبيرة.

لكن تحديد الاتجاه الذي يجب أن تتخذه الإصلاحات لا يشكل سوى جزء من المهمة؛ لأن الصعوبة الرئيسة تكمن في تنفيذها وهي تتطلب استراتيجية فعالة؛ وعادةً يواجه التنفيذ نوعين من العقبات:

– العقبة الأولى: اقتصادية، وتتضمن إنشاء هيئة تحقيق مع عدد كبير من الموظفين وأموال كثيرة؛ وبالتالي تستند عملية مكافحة الفساد إلى عملية التنمية نفسها.

– العقبة الثانية: سياسية، بسبب أن بعض السياسيين -بحكم وظائفهم ومكانتهم في منظومة الفساد- سوف يتخذون موقفاً ضد مكافحة الفساد.

وعند مراجعة الدول التي نجحت في مكافحة الفساد مثل: (إندونيسيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبوتسوانا، وغانا، وموريشيوس)، نجد أن هيئات المكافحة الناجحة اتّبعت بعض المسارات المشتركة للتغلُّب على الفاسدين؛ وتمكنت من بناء المصداقية المطلوبة.

وتمكّن آلياتُ الرقابة الداخلية القوية وآلياتُ المساءلة هيئاتِ مكافحةِ الفساد من تنفيذ مهامها، وتجنّب سوء استخدام الصلاحيات التي يمكن أن تضرَّ بمصداقيتها، كالإجراءات المفيدة التي تركز على التوظيف، والتدريب، والإدارة الفعالة والنزيهة، فضلاً عن ضمان أعلى المعايير الأخلاقية من قبل إدارة هيئة مكافحة الفساد.

وليس المطلوب الاستعجال في ملاحقة الفاسدين بقدر ما هو مطلوب جمع الادلة الكافية لإثبات الفساد. على سبيل المثال، لم تعلن هيئة مكافحة الفساد في إندونيسيا عن أول حالة لها إلا بعد عام من إنشائها، حيث أمضت ذلك الوقت في اختيار موظفيها من خلال المنافسة الشفافة، مع إرساء قواعد أخلاقية عند تدريب المحققين، ووضع إجراءات داخلية شاملة. وإن تجنب مثل هذا النهج في بناء مؤسسة أساسية للدولة قد يسبّب فساداً داخلياً في الهيئة التي من المفترض أنها تحارب الفساد.

ولا يخفى ما لدعم بقية مؤسسات الدولة من أمر حاسم في مكافحة الفساد، والتغلّب على الفاسدين الأقوياء؛ وهنا تظهر قوة وسائل الإعلام في تقديم دعمها، ولكن على المدعين العامين في هيئة مكافحة الفساد تلقّي التدريبات الكافية في شؤون العلاقات الإعلامية ونيل المهارات المطلوبة للتحدث إلى وسائل الإعلام.

ومن جانب آخر، يمكن لهيئة مكافحة الفساد تشجيعُ منظمات المجتمع المدني المحلية لمساعدتها في مواجهة الفاسدين، ويمكن للهيئة التواصل مع مركز الشفافية الدولية للحصول على دعم أكبر. ومن بين الأطراف الأخرى التي تستطيع تقديم الدعم والإسناد مؤسساتُ الدولة، مثل: السلطة القضائية، أو الهيئات المسؤولة عن المعلومات والاتصالات، أو الجهات الفاعلة الدولية، مثل: الأمم المتحدة، والمنظمات المانحة.

إن بعض هيئات مكافحة الفساد لديها من الأدوات والدعم ما تستطيع أن تتناول قضايا بارزة تشمل مسؤولين رفيعي المستوى، ومجموعات المصالح البارزة، ولكن كثيراً ما تتمتع هيئات أخرى ولاسيما الحديثة منها بقدر أقل من المصداقية والقدرة السياسية.

وفي كلتا الحالتين، ينبغي على مسؤولي هيئات مكافحة الفساد أن يَزِنُوا إيجابيات مقاضاة كل حالة وسلبياتها بدقو وبحذر شديدين؛ لأن رد الفعل العكسي غير المتوقع والانتقام يمكن أن يضعفا أو يدمرا الهيئة، كما حصل مع دائرة التحقيقات الخاصة في ليتوانيا بعد التحقيق مع سياسيين في المدة التي سبقت الانتخابات عام ٢٠٠٤، إذ لم يكن لديها من تغطية وسائل الإعلام والدعم العام اللازم لتجاوز الضغط الذي واجهته. وعلى إثرها استقال مدير الهيئة، وتسببت الحادثة في نهج ضعيف الرؤية يؤكد تيسيرَ العمليات البيروقراطية في الحكومة.

وتتطلب المحاكم درجةً عاليةً من الأدلة لإدانة شخص ما لجريمة فساد، وأكثر من ذلك إذا كان الأمر يُعالج من قبل سلطة عالية المستوى مثل مجلس النواب؛ لذا فإن أساليب التحقيق الخاصة -مثل التنصت على المكالمات الهاتفية- ضرورية للغاية للتحقيق في قضايا الفساد، حيث إن المحاكم في دولة مثل تشيلي على استعداد لقبول المكالمات كدليل واضح أكثر من الافتراضات.

ولذلك، يجب أن تكون هذه الأنواع من الأساليب متاحة دائماً؛ للسماح للمدعين العامين ببناء قضية قوية يمكنها التغلُّب على المعايير العالية التي تتطلبها المحاكم للإدانة؛ وتبرز هنا أهمية التشريعات النيابية في إدخال مثل هذه التقنيات في متابعة قضايا الفساد.

وهناك شيء واحد مؤكد هو لا يمكن حل مشكلة الفساد في البلدان النامية مثل العراق بسهولة عن طريق تطبيق هياكل مشابهة لهياكل مكافحة الفساد التي تعمل في البلدان المتقدمة؛ إذ إن الخبرة التي اكتسبتها البلدان المتقدمة من حيث التشريع، وقوانين المشتريات العامة، وإجراءات الرقابة هي قيّمة، ولكنها مجرد عنصر تقني في عملية تغيير أكثر تعقيداً بكثير، وإن الفساد يعتمد على التنمية الاقتصادية؛ وبالتالي يتعيّن على العراق أن يضع استراتيجيته الخاصة التي من خلالها يمكن أن تؤدي إلى دورة فاعلة من التنمية والحكم الرشيد.