في ١٨ كانون الأول للعام ٢٠١٧ أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عما عُرف باستراتيجية الأمن القومي الأميركي، التي حملت شعار حملة ترامب الانتخابية “أميركا أولاً”، وجاء في الاستراتيجية الجديدة أن مصادر التهديد للولايات المتحدة وحلفائها تأتي من ثلاثة جهات: الأولى (روسيا والصين) أو القوى المنافسة، والثانية (إيران وكوريا الشمالية) أو “الدول المارقة”، والثالثة (التنظيمات الجهادية الإرهابية).

وتركز استراتيجية الرئيس ترامب إلى أربعة محاور رئيسة، هي:

الأول: حماية أراضي الولايات المتحدة وشعبها ونمط الحياة الأمريكية عبر مكافحة التطرف ومنعه من الانتشار داخل الولايات الأمريكية بالهجرة، وكيفية التعامل مع الأشخاص غير المرغوب فيهم بمنعهم من الدخول إلى الأراضي الأمريكية.

الثاني: تحقيق الرفاهية للأمريكيين.

الثالث: فرض “السلام باستخدام القوة”، وتطوير هياكل القوات المسلحة الأمريكية ومنظومة الدفاع الصاروخية.

الرابع: تعزيز النفوذ الاقتصادي للولايات المتحدة عالمياً بتشجيع القطاع الخاص والاستثمار.

وهنا، نتحدث عما يخصُّ الشرق الأوسط؛ إذ إن استراتيجية الرئيس ترامب الجديدة للأمن القومي وقراره عن القدس لا تنبئ بعلاقات جيدة للولايات المتحدة مع العالم الإسلامي عموماً والشرق الأوسط خصوصاً؛ وبات هذا جلياً في تغريداته على موقع تويتر بشأن قضايا الشرق الأوسط، وهو بذلك يزيد من تعقيد مشكلات المنطقة المعقدة أصلاً. وبدلاً من السعي إلى حلّ الأزمات الكبيرة -مثل الحرب في اليمن- اتجهت استراتيجية الرئيس ترامب لدعم المملكة العربية السعودية وتجاهل المأساة الإنسانية في اليمن. ولعلَّ الجانب الأهم في سياسته لعام ٢٠١٨ هو السعي إلى حل النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني على وفق الشروط الإسرائيلية مسبباً حالة من اليأس الفلسطيني التي ستستفيد منها حركة حماس وبقية المنظمات الإسلامية؛ لإثبات وجهة النظر القائلة إن عملية السلام كانت خطأً استراتيجياً للفلسطينين.

إن قرار ترامب بشأن القدس عزلَ الولايات المتحدة عن بقية العالم كما بدا في الرفض الدولي، فأصوات أعضاء مجلس الأمن الدولي كانت بنسبة (١٤ إلى ١)، أما الجمعية العامة فكانت (١٢٨ إلى ٩)، على الرغم من كل محاولات الدبلوماسية الأمريكية في الضغط على الدول للتصويت لصالح القرار الأمريكي. وقد ألغت الهيئتان قرار الرئيس ترامب بشأن القدس؛ وبالتالي صارت الولايات المتحدة -التي كانت الطرف الوحيد القادر على القيام بدور الوسيط والضغط على إسرائيل- تقف خصماً للفلسطينيين والدول المؤيدة لهم في الشرق الأوسط.

وهناك من يعتقد أن الرئيس ترامب تلقى إشارات من بعض الزعماء العرب تخلوا فيه عن القدس لصالح إسرائيل، وهذا اتهام وجهته تركيا لبعض دول الخليج، ولكن بعض الأنظمة العربية التي لم تهتم بالقضية الفلسطينية في العقود الأخيرة، وأنشأت علاقات مباشرة أو غير مباشرة مع إسرائيل، تجد نفسها أمام رفض شعبي عربي وإسلامي للقرار الأمريكي لما للقدس من رمزية عقائدية في الدين الإسلامي.

وترى إسرائيل أن أنموذج حلّ الدولتين لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع؛ لذا فهي تريد حلاً بديلاً آخر. وفي حقيقة الأمر، إن إدارة الرئيس ترامب في استراتيجيته لدعم إسرائيل بنحوٍ مطلق تواجه خيارين:

الأول: عودة الوضع إلى عام ١٩٨٧ أي ما قبل الانتفاضة الأولى واحتلال الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة؛ وبذلك تتحول إسرائيل إلى دولة عنصرية حسب القانون الدولي.

الثاني: إعلان الدولة الفلسطينية بكل ما للدولة من حقوق سيادية سياسية، واقتصادية، وثقافية، على أن تكون القدس الشرقية عاصمتها؛ ويبدو أن استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة تميل إلى الخيار الأول مع ما لها من تبعات خطيرة على أمن المنطقة.

أما في الشأن اليمني، فما تزال الولايات المتحدة صامتة عن المأساة الإنسانية باليمن بإعطائها الفرصة الكافية للمملكة العربية السعودية في تدمير البنية التحتية اليمنية وتعريض المدنيين لكارثة إنسانية، فتقارير المنظمات الدولية تتحدث عن موت جماعي للأطفال اليمنيين بسبب المجاعة ونقص الدواء؛ وما بات واضحاً من قراءة للاستراتيجية الأمريكية أن إدارة ترامب غير مهتمة بإنهاء هذا الصراع الكارثي، ولا تريد أن تستخدم نفوذها الكبير على المملكة العربية السعودية لبدء مفاوضات مع قيادات أنصار الله “الحوثيين” في اليمن.

ولم تتضمن استراتيجية الرئيس ترامب أي تعهد أمريكي لتعزيز العملية الديمقراطية في العالم أو الدفاع عن حقوق الإنسان، على النقيض من الاستراتيجيات الرؤساء السابقين الذين يرون أن الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية تخدم المصلحة الأمريكية، فيما يرى ترامب أن الولايات المتحدة لن تفرض قيمها على الآخرين.

وفيما يخصُّ الشأن السوري وما بعد هزيمة تنظيم داعش بنحوٍ كامل في سوريا، نرى أن استراتيجية ترامب ترفض الاعتراف بواقع بقاء بشار الأسد رئيساً للنظام؛ لذا فإن الدبلوماسية الأمريكية غابت عن تحديد مستقبل سوريا لأنها باتت عاجزة أمام تحالف (روسيا – إيران – تركيا) الأطراف الوحيدة التي تناقش مستقبل البلاد وهي تكتفي فقط إدارة ترامب بدعم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا المتحالف مع حزب العمال الكردستاني، وهو ما يغضب تركيا.

وفي الشأن الإيراني، تصرُّ إدارة الرئيس ترامب على تبني استراتيجية تنقض فيها تعهدات الولايات المتحدة للاتفاق النووي، والانطباع السائد عن ترامب والمتحدثين باسمه تبيّن أنهم يريدون إلغاء الصفقة مع إيران، مدعين انتهاك طهران للاتفاق، وكانت سياسة إدارة الرئيس السابق باراك أوباما تتضمن فصل القضية النووية الإيرانية عن السياسات الإقليمية الأخرى التي تتنافى مع المصالح الأمريكية في المنطقة. ويبدو أن توجه الديمقراطيين كانت في التوصل إلى اتفاق نووي، ثم التفاوض مع طهران على القضايا الأخرى، بما في ذلك الأزمة السورية، وحزب الله، واليمن، وقضايا الإرهاب؛ لكن إدارة ترامب رفضت هذا الفصل بين الملفات.

إن هذه الاستراتيجية لن تخدم المصالح الأمريكية في المنطقة؛ لإن السعي إلى تحقيق الأمن والاستقرار في الخليج على المدى الطويل يتطلب من إدارة ترامب ألا تتجاهل إيران، وبحسب هذه الاستراتيجية، تهدف الولايات المتحدة إلى ألّا يتحوّل الشرق الأوسط إلى ملاذ آمن للإرهابيين، وأن لا تكون أي قوة معادية للولايات المتحدة الأعلى نفوذاً، وأن تبقى المنطقة مصدراً مستقرا لتدفق النفط والغاز.

لقد حاولت إدارة بوش انتهاج استراتيجية تحويل الأنظمة الحاكمة إلى أنظمة ديمقراطية، وجاءت من بعدها إدارة أوباما التي تبنت استراتيجية فك الارتباط بالمنطقة والتخلي عن فرض الديمقراطية، واليوم تعلن إدارة ترامب عن استراتيجية “أمريكا أولاً” التي هي في حقيقتها لا تقدم حلولاً لأزمات المنطقة، بل تحمّل الإدارتين السابقتين مسؤولية تضاؤل النفوذ الأمريكي لصالح إيران وانتشار الفكر الجهادي.

وذهبت استراتيجية ترامب تتحدث عن الشرق الأوسط بأنها موطن التنظيمات الإرهابية في العالم مثل داعش والقاعدة، وأن إيران قد استغلت هذا الوضع الأمني والسياسي لتوسيع نفوذها في المنطقة، وأنها تواصل تهديد استقرار المنطقة؛ فضلاً عن تطويرها لبرنامج الصواريخ الباليستية وقدراتها السيبرانية لشن الهجمات الإلكترونية.

وأشارت الاستراتيجية إلى مسألة التحالفات الدولية مع الولايات المتحدة؛ حيث أرادت الاستراتيجية الجديدة عدم دخول الولايات المتحدة في تحالفات دولية لا يتقاسم فيه الحلفاء أعباء التحالف، وأن تكون الكلمة الأخيرة للرئيس ترامب. لكن تعترف هذه الاستراتيجية ضمناً بنهاية عالم القطب الواحد وعودة المنافسة بين الدول العظمى؛ وهذه النظرية تقلق حلفاء الولايات المتحدة من انتهاج إدارة ترامب لبعض السياسات الخطرة مثل كيفية التعامل مع إيران بتهديد الاتفاق النووي.

إن التخلي عن التعهدات الأمريكية السابقة في الشأن الفلسطيني ودعم إسرائيل بنحوٍ مطلق، وإن تخوف الدول الأوروبية من سياسات ترامب في الشرق الأوسط جعلت الحلفاء الأوروبيين يتساءلون عن جدوى قيادة إدارة ترامب للمعسكر الغربي، حيث تولدت قناعة لدى الأوروبيين أن ترامب يؤمن بأن أوروبا تشكل “منافساً حميداً” للولايات المتحدة وليس حليفاً، وأن على الأوروبيين إطاعة إدارة ترامب لأنه يرأس أعظم قوة في العالم، والحقيقة أن القوة لا تحل أعقد المشكلات وأصعبها ما لم تكن هناك دبلوماسية قوية تعتمد التعاون مع الدول المنافسة.