أحمد الجعفري، باحث واكاديمي في الإدارة والسياسة التربوية.

هنالك خمس دول تعد من الاوائل عالمياً في مجال التعليم الأساس، وقد اعتمد تصنيف هذه الدول على تقرير مؤشر بيرسون للتعليم والمهارات المعرفية والتحصيل التعليمي العالمي؛ وهو الذي بدوره اعتمد تحديد أفضلية الدول بناءً على عدة اختبارات دولية منها:

– اختبار مدى التقدم في القراءة والكتابة الدولي (بيرلز).

– اختبار الاتجاهات الدولية في الرياضيات والعلوم (تيمس).

– اختبارات برنامج التقويم الدولي للطلبة (بيزا).

وقد جاء ترتيب الدول العشر الأوائل على النحو الاتي: كوريا الجنوبية اولاً، اليابان في المركز الثاني، تلتها سنغافورة في المركز الثالث، وهونغ كونغ في المركز الرابع، أما فنلندا فقد تراجعت إلى المركز الخامس بعد أن كانت متقدمة في الأعوام السابقة، وجاءت في المركز السادس المملكة المتحدة، وأعقبنها كندا في المركز السابع، ومن ثم هولندا في المركز الثامن، ومن بعدها آيرلندا التي تبوّأت المركز التاسع، وفي المركز العاشر جاءت بولندا.

نلاحظ من خلال النتائج المذكورة أن أربع دول من شرق آسيا جاءت متفوقة في هذا التصنيف، واحتلت المراكز الأربع الأوَل من التصنيف. ويعتقد الباحثون أن سبب تفوق دول شرق آسيا يعود إلى المواءمة بين وضوح الأهداف والنظام الدراسي، فضلاً عن الاختبارات التي تقيس بوضوح قدرة الطلبة على فهم المناهج الدراسية وتطبيقها. وسنطلع على روح الأنظمة التعليمية في تلك الدول التي تحصلت على المراكز الخمس الأوّل؛ ومن ثم نستفيد من تجاربها وتطبيقاتها وافكارها التربوية من أجل التخلص من روح التخلف والجهل الذي يبحر بنا بعيداً عن ركب الحضارة والتقدم.

كوريا الجنوبية

حينما رحل اليابانيون عن كوريا الجنوبية كانت نسبة الآمية في هذه الدولة 78%؛ وذلك لأن التعليم كان مقتصراً على اليابانيين، ولم يسمح إلا لعدد قليل جداً من الكوريين للتعلم، ولم يكن هناك معلمون كوريون في المدارس الكورية. وبعد رحيل اليابان شرعت كوريا الجنوبية ببناء نظام تعليمي متطور وحديث على مدى عقود من الزمن ويوصف الآن بأنه الأقوى في العالم. ويمتاز النظام الكوري بالصرامة في التعليم. وإن مقدار ما يقضية الطلبة الكوريون في المدارس نحو 1020 ساعة سنوياً بمعدل 14 ساعة باليوم لمدة خمسة أيام بالأسبوع، وهي أعلى نسبة في العالم. وينام الطلبة الكوريون بأقل من 22 دقيقة من أقرانهم في بقية الدول. ويعمل النظام الكوري بمسار 3.3.6 وهو نظام شبيه جداً بالنظام العراقي من حيث الهيكيلة العامة، إلا أنه يختلف عنه في الإجراءات. وإن اكثر ما يركز عليه النظام الكوري هو: الرياضيات، والعلوم، واللغة الإنجليزية. وعلى الرغم من أن التعليم مجاني في كوريا إلا أن الآباء ينفقون ما نسبتة 25% من إجمالي دخلهم على الدروس الخصوصية لأبنائهم. بالمقابل إن الطلبة الذين لا يحققون توقعات آباهم يعاقبون بشدة، وإن عدم حصول الطالب على مقعد جامعي يعدُّ خيانة لعائلته؛ ولذلك يشعر الطلبة الكوريون بالضغط الهائل والتعاسة؛ مما يؤدي إلى حالات الانتحار.

اليـابـان

في العام 1868 ثار اليابانيون ضد حكومتهم التي كانوا يرونها فاسدة آنذاك. بعدها شرعت الحكومة الجديدة بإرسال وفود إلى  عدة دول منها: بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وأمريكا؛ من أجل الاطلاع على أفكارهم التربوبة؛ وبالفعل تم إنشاء نظام تعليم ياباني مبني على التوأمة بين أفكار تلك الدول والثقافة اليابانية. وبدأت اليابان تجني ثمار هذا النظام حتى الحرب العالمية الثانية. وبعد الحرب توجهت اليابان نحو عدة إصلاحات بالتعليم؛ مما عزز التطور الاقتصادي والتكنولوجي في اليابان. ويتبع نظام التعليم في اليابان مسار 3.3.6، ويركز على منهج التعلم الذي يعتمد على العمل الجماعي وحل المشكلات بدلاً من التعليم المباشر، ويتعلم الطلبة مناهج دراسية تتعلق بالرياضيات، والعلوم، وعلم الأخلاق لدرجة توازي مناهج الأخلاق العلومَ الأكاديمية؛ مما انعكس إيجاباً على سلوكيات الأفراد في المجتمع. وتتوقف سمعة المدرسة على أدائها الأكاديمي والسلوكي؛ فعلى سبيل المثال إذا ما قام أحد الطلبة بتجاوز القانون، فيتوجب على المعلم المشرف والهيئة التعليمية في المدرسة تقديم اعتذار رسمي للسلطات، ويرى بعض المحللين الأمريكان أن تبني أمريكا لنظام التعليم الياباني سيؤسس جيلاً قوياً يخضع لمؤسسة تعليمية قوية، ويحد من المشكلات التي تعاني منها المدارس الأمريكية.

سنغافــــــورة

تعد سنغافورة قصة نجاح استثنائية، إذ إنها بأقل من 50 عاماً تحولت من جزيرة فقيرة ومعدومة الموارد مع غالبية من الأمية، إلى دولة تضاهي الدول المتقدمة الأكثر تطوراً. فكانت سنغافورة تعاني من حالة التناحر والتنافر بين المكونات والجماعات العرقية في ظل الاستعمار وبعده. وبعد الاستقلال عن ماليزيا في عام 1965 أدرك رئيس الوزراء السنغافوري (لي كوان يو) أن التعليم هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يقضي على مشكلات المجتمع السنغافوري؛ وبالفعل شرع ببناء نظام تعليمي يتسم بالجدارة وقد شكل الأنموذج اللازم لتحقيق السياسة الاقتصادية التي وصلت عليها سنغافورة اليوم. ويمتاز النظام التعليمي السنغافوري بالمعلمين والمديرين ذوي الكفاءات العالية، والقادة الأقوياء الذين يتمتعون بالقدرة على صياغة رؤى بعيدة المدى.

تملك سنغافورة نظاماً يتبع مسار 2.2.6، ومناهج دراسية معدة بصورة جيدة وبمقاييس تتماشى مع أساليب التعليم الحديثة وطرق القياس والتقويم. وقد خضع النظام السنغافوري للعديد من حركات الإصلاح وكان أبرزها في عام 1997 حين أطلقت الحكومة حركة إصلاحية عرفت باسم (الأنموذج المركز على القدرة)؛ من أجل إنشاء مدارس جديدة عرفت بــ(مدارس التفكير). وركز هذا الأنموذج على أربعة محاور، هي: الاستناد إلى نوعية جيدة من المعلمين، واستقلال المدارس، وإلغاء نظام التفتيش، وتقسيم المدارس على أربع مجموعات. وفي عام 2006 طبقت سنغافورة الحركة الرابعة من الإصلاحات تحت نظام جديد عرف بــ (تعليم أقل، تعلم أكثر)؛ وبفضل هذاين النظامين حققت سنغافورة نجاحاً باهراً في الامتحانات الدولية واحتلت مراكز متقدمة بين الدول.

هــونغ كـــونغ

كانت هونغ كونغ مستعمرة بريطانية حتى عام 1997 ولديها نظام تعليم بريطاني، لكن بعد جلاء الاحتلال، وفي عام 2000 بدأت السلطات بتغيير النظام التعليمي والتحول الى نظام جديد يعتمد على مسار 3.3.6، وأدركت السلطات أن التعليم هو البوابة نحو المستقبل؛ لذلك ركزت على المتعلم كونه محور العملية التعليمية، وركزت على التعلم بدلاً من طرق التلقين والحفظ. واهتمت السلطات بشريحة المعلمين؛ مما حفزهم لبذل قصارى جهودهم نحو التعليم، وبفعل ذلك أصبح المعلمون ذوي شهره عالية توازي شهرة النجوم حتى يكاد أن ترى صور المعلمين في الطرقات والشوارع تقديراً لهم.

فنلنـدا

عانت فنلندا الكثير من الأزمات الاقتصادية عبر عقود من الزمن؛ بسبب محدودية الموارد، فعملت الحكومة الفنلندية على إصلاح الاقتصاد منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن اشتدت الأزمات الاقتصادية في تسعينيات القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وارتفعت معدلات البطالة إلى نسبة 20% وهي أعلى نسبة بطالة في البلاد، وأدركت الحكومة الفنلندية أن المحرك الأساس للنمو الاقتصادي هو التعليم؛ وعلى إثر ذلك قامت الحكومة بوضع استراتيجيات ساهمت كثيراً في تطور التعليم منذ 40 سنة، منها تدريب المعلمين في الجامعات الفنلندية وتأهيلهم، واشترطت حصول المعلمين على شهادة الماجستير، وإعطائهم الاستقلالية في العمل منها حق اختيار المنهج الدراسي بمشاركة الطلبة، ووضعت منهاجاً وطنياً شاملاً للإصلاح، واتخذت عدة إجراءات لهيكلة المدارس والتحول إلى مناهج تعليمية تحفز الطلبة نحو استخدام مهارات التفكير، وحل المشكلات، والعمل الجماعي. في عام 2000 صُدم غالبية الشعب الفنلندي حينما علموا أن أبناءهم تحصلوا على مراكز متقدمة جداً في الاختبارات الدولية، وقالوا قد “يكون الأمر مجرد صدفة”، ولكن في السنوات اللاحقة استيقنوا أن هذا التقدم هو انعكاس لتطور التعليم في فنلندا، وبفضل التطور في التعليم تطور الاقتصاد كثيراً وأصبحت فنلندا دولة اقتصادية تنافسية عالمية.

بعد الاطلاع على تجارب الدول الخمس الأوَل في التعليم نجد أنها عانت كثيراً من المشكلات الاقتصادية والسياسية والمجتمعية، ولكنها عادت ونهضت من خلال بناء أنظمة تعليم قوية ساهمت في نمو تلك الدول اقتصادياً ومجتمعياً؛ مما جعلها في مصاف الدول المتقدمة.

والجدير بالذكر أن هذا المقال لا يدعو إلى تطبيق التجارب التعليمية والتنموية بهذه البلدان حرفياً في العراق؛ لأن ذلك هو ضرب من العبث التنظيري والخطأ الفكري والمنهجي، بل الدعوة إلى دراسة تلك التجارب؛ من أجل تحفيز التسأول، وإثارة الانتباه نحو تحريك عجلة الإصلاحات في التعليم العراقي، مع تطبيق ما هو مناسب مع موروثنا الثقافي والأخلاقي والقيمي والحضاري هذا من جهة، أما من جهة أخرى فقد جاء العراق في المرتبة 20 باختبار الذكاء العالمي متفوقاً على جميع دول الشرق الأوسط؛ وهنا التساؤل هو: ماذا سيحصل لو أن هذا التفوق في الذكاء تم استثماره في نظام تعليم حديث ومتطور في العراق؟

من خلال الاطلاع على عدة تجارب تعليمية في دول مختلفة هناك بعض المقترحات والأفكار تُقدّم للمسؤولين عن الشأن التربوي وعلى رأسهم السيد معالي وزير التربية المحترم يمكن أن تساهم في تطور التعليم في العراق، وبالتأكيد أن تطور التعليم سيصب في مصلحة النمو الاقتصادي والمجتمعي كما حصل في تجارب بعض الدول؛ أما أهم الأفكار والمقترحات فهي:

1- إعادة هيكلة نظام التعليم الإساس بالعراق بما يتناسب مع التغيرات التي تحصل في العالم؛ لأن عملية التعلم والتعليم هي ليست عملية تتصف بالجمود، بل هي عميلة ديناميكية متغيرة تتصف بالمرونة؛ فتغيير النظام العراقي من (3,3,6) إلى (4,4,4) هو ليس الحل السحري لمشكلات التعليم في العراق، بل إن إعطاء الاستقلالية لمديريات التربية سيسهم كثيراً في خلق المنافسة بين المديريات العامة للتربية والمدارس. وكذلك بناء نظام إشرافي جديد يعتمد على روح الإبداع، والعمل على فصل الدوام الثنائي والثلاثي، وزيادة عدد ساعات الدوام من 4 ساعات يومياً إلى 6 ساعات يومياً على الأقل.

2- إعادة تدريب المعلمين ومديري المدارس وتأهيلهم، على أن تكون برامج التدريب في الجامعات العراقية تحت إشراف أساتذة كفوئين. ويتوجب إرسال وفود من المعلمين للتدريب في كوريا الجنوبية، واليابان، وسنغافورة، وفنلندا بدلاً من إرسالهم إلى مصر ولبنان وغيرهما من الدول التي لا فائدة منها. ومن الضروري أن يكون مُدرسو المرحلة الإعدادية من حملة شهادة الماجستير على الأقل بدلاً من البكالوريوس؛ وذلك لأهمية هذه المرحلة. فضلاً عن حثِّ جميع المعلمين على الحصول على شهادة البكالوريوس بدلاً من شهادة الدبلوم التي يحملها جيوش منهم، على أن تمنح شهادة البكالوريوس من الجامعات العراقية فقط وليست من الكليات المفتوحة التي تديرها وزارة التربية، والتي لا تجدي نفعاً.

3- إنشاء نظام حوافز جديد يعمل على تحفيز المعلمين والمديرين؛ من أجل بذل قصارى جهودهم في أثناء عمليات التعليم؛ على سبيل المثال: المعلم الذي يحقق نسبة نجاح عالية في الامتحانات العامة يتحصل على منحة دراسية لدراسة الماجستير في الجامعات العراقية أو إعطاؤه مبلغاً من المال، وكذلك مكافأة مديري المدارس الذين تحقق مدارسهم نسبة أداء عالية في الامتحانات بمبالغ مالية كما يحصل في أمريكا.

4- التحول من نظام التعليم المباشر الذي يعتمد على المعلم في طرح الأفكار والمعلومات إلى نظام التعليم غير المباشر الذي يتمحور حول المتعلم بتزويدة بمهارات التعلم الفردي وحل المشكلات والعمل الجماعي؛ إذ إن جميع الدول التي حصلت على مراكز متقدمة في الامتحانات الدولية والدول المتقدمة تطبق نظام التعليم غير المباشر.

5- إلغاء تطبيق النظام الإحيائي والتطبيقي؛ لأن هذا النظام غير فعال، وغير مطبق في كثير من الدول المتقدمة.

6- إلغاء الامتحانات العامة الحالية لأنها امتحانات غير فعالة وإنما هي امتحانات تقيس مدى قدرة الطلبة على حفظ المحتوى فقط، بينما الأنظمة العالمية تمتلك أنظمة امتحانات تقيس المهارات العليا للطلبة، وتتحدى قدراتهم الذهنية، وتقيس مدى قدرة الطالب على فهم المواد الدراسية وتحليلها وتطبيقها.

7- إجراء تغييرات كبيرة في المناهج الدراسية التي لم تعد ملائمة لروح العصر الحالي، والتركيز على بناء مناهج دراسية تهتم بتزويد الطلبة بمعلومات وأفكار جديدة تتحدى قدراتهم الذهنية بدلاً من مجرد ملء عقولهم بمعلومات لا معنى لها، هذا من جانب، ومن جانب آخر نحتاج إلى مناهج تركز على الأخلاق من أجل بناء مجتمع فاضل يسودة روح الاحترام والتقدير بين أبناء الشعب ولاسيما بعد مرور المجتمع بأزمات كثيرة وعلى رأسها الطائفية، وحثهم على احترام الانظمة والقوانين وطاعتها. فنحن نحتاج إلى تلك المناهج لأن هناك أزمة أخلاقية حقيقية يعاني منها المجتمع العراقي على أن ترافق تلك المناهج الطلبة إلى المرحلة المتوسطة. فعلى وزارة التربية أخذ دورها التربوي في تعزيز الأخلاقيات الصحيحة والسليمة في نفوس الأفراد.