بعد أكثر من 25 عاماً من الحكم الذاتي عن حكومة العراق الاتحادية، وصل إقليم كردستان العراق إلى نقطة تحول يوم الاثنين الموافق 25 أيلول 2017 حينما صوت على استفتاء الاستقلال، وعلى وفق السلطات الكردية فقد صوت أكثر من 90 في المئة من المواطنين لصالح الانفصال في الاستفتاء غير الملزم من قبل حكومة بغداد، إلا أن النتائج النهائية لا تزال قيد المراجعة.

ويحتفل الأكراد بهذه النتيجة، ويرون أنها يمكن أن تكون خطوة نحو تحقيق حلمهم الأزلي في إقامة دولة كردية، ولكن السؤال الآن هو ما الذي سيأتي بعد ذلك؟ إذ تهدد المعارضة الداخلية والخارجية للاستفتاء بتصعيد التوتر، وإن الضغط على الحكومة الاتحادية في بغداد يتصاعد لإيجاد وسيلة لنزع فتيل الوضع الحالي، ومنع تفكك العراق. ويصرُّ رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني على أن الاستفتاء ليس حول وضع حدود لدولة كردية مستقبلية أو اتخاذ خطوة فورية نحو الاستقلال، وبدلاً من ذلك، قال إن هذا الاستفتاء يأتي كتأكيد على إرادة الشعب الكردي العراقي في تشكيل دولته في المستقبل.

وبهذا الصدد اتخذ رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي موقفاً صارماً، إذ أصرَّ على عدم دستورية الاستفتاء، وقال إن حكومته ستتخذ الإجراءات اللازمة لمنع تفكك البلاد؛ وهذا هو الهدف الأهم؛ فوجود عراق موحد أمر مهم للغاية في الوقت الحاضر، ولاسيما مع استمرار الحرب ضد تنظيم داعش؛ لأن التحركات الانفصالية الكردية تؤدي إلى زعزعة استقرار العراق.

وفضلاً عن ذلك، فإن للسيد العبادي سبباً وجيهاً للقلق بشأن كيفية إجراء الاستفتاء؛ إذ إن التصويت لم يُجرَ في المناطق الكردية ذات الحكم الذاتي فحسب، بل أيضاً في ما يسمى بالمناطق المتنازع عليها -المناطق التي تقع رسمياً ضمن حكم العراق الفيدرالي ولكنها تخضع لسيطرة حكومة إقليم كردستان والبيشمركة-، وتم التصويت في كركوك أيضاً -المحافظة التي لم يحدد وضعها بعد وفقاً للدستور العراقي فعلى ما تقدم يكون من حق بغداد أن ترى هذا كمحاولة من الأكراد لتثبيت الحقائق على أرض الواقع من أجل الاستيلاء على الأراضي وضمها لدولة الأكراد المستقبلية.

ولم تكن الحكومة الاتحادية العراقية وحدها المعارضة لهذا الاستفتاء، إذ تقف الولايات المتحدة -الحليفة للأكراد- ضد الاستفتاء؛ لاعتقادها أن التصويت لا ينبغي أن يتم قبل هزيمة تنظيم داعش، إذ أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أن الولايات المتحدة “تشعر بخيبة أمل كبيرة” تجاه الحكومة الكردية، وقد أعربت الأمم المتحدة عن قلقها إزاء “الآثار المزعزعة للاستقرار” بسبب الاستفتاء.

والجدير ذكره أيضاً هو أن أكثر الدول المعارضة للاستفتاء الكردي هما تركيا وإيران؛ إذ توجد في كلا هاتين الدولتين حركات انفصالية كردية تخشيان أن يتشجعوا على التحرك على منوال كردستان العراق، فقد صرّحت تركيا بأنها قد تغلق حدودها مع كردستان، بينما منعت إيران الرحلات الجوية من وإلى كردستان من استخدام مجالها الجوي، وهددت الدولتان بالعمل العسكري في حالة انفصال كردستان عن العراق، وإن آثار هذا التهديد واضحة، إذ أجرى البلدان تدريبات عسكرية بالقرب من الحدود مع العراق، وفي الوقت نفسه شاركت القوات العراقية بالفعل في مناورات عسكرية على الجانب التركي من الحدود العراقية أيضاً.

ولا يعدُّ التدخل الخارجي هو السبب المحتمل والوحيد للتصعيد، إذ طالب البرلمانُ العراقي السيدَ العبادي بإرسال القوات العسكرية لتأمين كركوك والمناطق المتنازع عليها رداً على الاستفتاء. وبينما أوضح رئيس الوزراء أن القوات الحكومية لن تستخدم ضد كردستان، بيد أنه طلب من الجيش أن يكون “مستعداً لحماية المواطنين الأكراد”. وتسعى عدة فصائل شيعية منضوية تحت قوات الحشد الشعبي إلى إنهاء السيطرة الكردية على المناطق المتنازع عليها، إذ تتواجد الآن بالقرب من هذه المناطق، وتعهدت بمنع الانفصال، وإعادة كركوك إلى سيطرة الحكومة الاتحادية؛ وهذا الأمر يمكن أن يؤدي بسهولة إلى القتال مع البيشمركة.

يواجه السيد العبادي الآن مهمة صعبة جداً، إذ يجب عليه أن يبقي العراق موحداً، وعليه طمأنة تركيا وإيران بما يكفي لعدم القيام بالتدخل، وفي الوقت نفسه، ينبغي ألا يعاقب الملايين من العراقيين الأكراد الذين يرغبون في التعبير عن تطلعاتهم من أجل تقرير المصير. وللمضي قدماً؛ ينبغي على السيد العبادي والحكومة في بغداد أن تفرق بين أعمال السياسيين الأكراد والرغبات العاطفية للأجيال والشعب الكردي بالحصول على دولتهم.

وإذا عملت بغداد مع جيرانها، فإنها تستطيع إعادة التوازن للعلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الاقليم، والحفاظ على السيطرة السلمية على الوضع، مع عدم التأثير على المواطنين في كردستان، ويمكن أن تستعيد الحكومة العراقية السيطرة على صادرات النفط -التي تعدها بغداد غير شرعية- عبر تركيا من حكومة إقليم كردستان؛ وهذا يتوافق مع ما أشارت إليه تركيا، ومن شأنه أن يجمد مصادر تمويل الحكومة الكردية ويجبرها على العودة إلى بغداد للحصول على التمويل.

وكانت الحكومة العراقية قد أمرت الحكومة الكردية يوم الثلاثاء 26 أيلول من العام الحالي بتسليم المنافذ الحدودية العراقية مع إيران وتركيا والمطارات بحلول الساعة السادسة مساءً من يوم الجمعة الذي يليه إلى الحكومة الاتحادية، وإذا رفض الأكراد الانصياع لذلك، فقد هددتها بغداد بإغلاق المجال الجوي الكردي، ويبدو أن تركيا وإيران حريصتان على تطبيق هذا الطلب. وستؤدي هذه الإجراءات إلى فرض الضغط على القيادة الكردية للموافقة على بعض شروط بغداد، بما في ذلك انسحاب القوات الكردية إلى حدودها الرسمية، وإعادة حقول النفط العراقية التي استولى عليها الأكراد بعد عام 2003 إلى سيطرة بغداد.

ومن شأن هذه التدابير أن تخفف من الضغوط الشعبية على الحكومة الاتحادية العراقية، وأن تساعد أيضاً على تهدئة المخاوف التركية والإيرانية من عدم الاستقرار، لكن هذا لن يؤدي إلى الإجابة عن الأسئلة حول التطلعات الكردية من أجل الاستقلال، أو فيما يتعلق بمصير كركوك؛ إذ يجب أن يتم الردّ على هذه الأسئلة من خلال مفاوضات صعبة بين بغداد والحكومة الكردية، ويتحتم أن تكون الحلول مبنية على أساس قانوني في الدستور العراقي. وقبل ذلك، ينبغي أن تظل الشراكة بين بغداد وأربيل -بدعم من التحالف الدولي- التي أدّت إلى الهزيمة شبه الكاملة لداعش في العراق وهو محور اهتمام الجانبين.

ويمكن أيضاً أن تؤدي بلدان أخرى -ولاسيما الولايات المتحدة- دوراً إيجابياً من خلال دعم جهود بغداد لمنع الصراع، وتشجيع الحكومة الكردية على أن تكون أكثر مرونة في تعاملها مع الحكومة الاتحادية، إذ يمكن للولايات المتحدة وغيرها من الأطراف أن تجمع الجانبين معاً؛ ومن شأن ذلك أن يجنب إعطاء تركيا وإيران -المهتمتان بحماية مصالحهما أكثر من اهتمامهما بمستقبل العراق- دوراً أكبر في هذه القضية؛ فقد تكون هذه هي الطريقة الوحيدة للتوصل إلى حل سلمي وإنهاء حالة التوتر في المنطقة التي تعاني من العنف أصلاً.

المصدر :