صادق علي حسن

لقطاع الصناعة أهمية كبيرة؛ كونه القطاع الأكثر فاعليةً وديناميكيةً في القدرة على تحقيق متطلبات التنمية الاقتصادية وذلك من طريق توسيع قاعدة الإنتاج وتنويعها، وتوفير فرص عمل لرأس المال البشري بتقديم كفاءات ماهرة لإشباع متطلبات الاستهلاك، وتزداد أهمية هذا القطاع لقدرته على حل الاختلالات الهيكلية، وتنويع مصادر الدخل التي تتناسب مع لهيكل الاقتصادي بزيادة الطاقات الإنتاجية وتنميتها، واستغلال الإمكانيات المتوافرة سواء أكانت مادية أو بشرية.

 وتعمل أغلب الدول -زيادةً في الاهتمام والتركيز- على إنشاء قاعدة للصناعات الصغرى والمتوسطة وحتى الكبرى منها والثقيلة؛ لتحقيق جزء من الاكتفاء الذاتي من بعض المنتجات الصناعية المستوردة، وبطبيعة الحال فإن هذا الاهتمام سيوفر فرص عمل للعاطلين، وسد حاجة السوق، فضلاً عن إمكانية الوصول إلى المنافسة العالمية.
وفي زمن سقوط الحدود بين الدول بسبب الانفتاح الاقتصادي من طريق العولمة الاقتصادية وتكنولوجيا المعلومات أدت الى تغيُّر ميزان القوى التي عرفتها أغلبية البلدان النامية إلى إنهاء حلم التصنيع عبر سياسات إحلال الواردات، بسبب ضغوطات القوى الاقتصادية ولاسيما صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، منها انتهاج سياسات انفتاح اقتصادي تنسجم مع مقتضيات الاتفاقية العامة الخاصة بالتعرفات الجمركية والتجارة (اتفاقية الغات). وفي هذا السياق يؤكد المؤرخ الاقتصادي بول بيروك في كتابه المعنون “أساطير وتناقضات التاريخ الاقتصادي” أن البلدان الغربية (ولاسيما أوروبا والولايات المتحدة واليابان) طورت صناعاتها في ظل السياسة الحمائية، وليس في كنف التجارة الحرة على عكس ما هو شائع، وعملت الحكومات في هذه البلدان على تبني سياسات لإحلال الواردات، وذلك بإنشاء صناعات محلية تقوم بإنتاج السلع التي كانت تستورد في السابق، وإقامة حواجز جمركية أمام السلع المستوردة لجعل السلع المحلية أكثر تنافسية.

وأمام هذه التحديات، لم تجد البلدان النامية بدّاً من التنافس في استقطاب الاستثمارات الأجنبية لتكوين قاعدة صناعية محلية تستغل إمكانات السوق الداخلية، ولكنها تبقى في الوقت نفسه موجهةً نحو التصدير إلى الخارج، وقد شجعت المؤسسات المالية الدولية -فضلاً عن الحكومات الغربية- هذا التوجه، ولا تنفك تدعو إلى المضي في هذا الطريق الذي يضمن -على وفق زعمها- النمو الاقتصادي للجميع عبر الصادرات، وتعد كوريا الجنوبية والصين من الأنموذجين اللذينِ تكللت مساعيهما في هذا المجال بالنجاح، نظراً لتوافرها على يد عاملة ماهرة وغير مكلِّفة (مقارنة بالبلدان الغربية)، فضلاً عن انتهاجهما لسياسات حكومية محفزة للاستثمار، تمثلت في مشاريع البنى التحتية وتجهيز المناطق الصناعية وتشجيع البحث العلمي والابتكار[1].

وبطبيعة الحال لا تغيب الاعتبارات السياسية بهذه النهضة كونها تأخذ مجالاً رئيساً في هذه النجاحات، بفضل الدعم من أقطاب بتوجيه الاستثمارات ورؤوس الأموال إلى هذه البلدان وأعانتها تكنولوجياً، في إطار تحالفات تعمل على حفظ مصالحها الاستراتيجية.

أما ما يخص السياسة الصناعية في العراق فإنها تعاني جملةً من التحديات والمشكلات التي تفرضها المتغيرات ذات الطابع الداخلي من مشكلة أساسية وجوهرية ذات تأثير الواضح والأساس في الوضع الاقتصادي الصناعي العراقي الهش والمتمثل في الهياكل الاقتصادية المتخلفة نتيجة العسكرة الصناعية التي كانت سائدة قبل عام 2003 وتهميش دورها في إعادة بناء الاقتصاد العراقي.

والمتغيرات الخارجية والمرتبطة بعولمة الاقتصاد العراقي من طريق إعادة هيكلة الاقتصاد بمختلف القطاعات الإنتاجية منها والخدمية ولاسيما بعد عام 2003، ونتيجة للقرارات التي اتخذها الحاكم المدني في العراق (بول بريمر) ليصبح نظاماً اقتصادياً حراً بعيداً عن سيطرة الدولة إلى سيطرة السوق، قابلها استمرار في عدم الاستقرار السياسي والأمني مما جعلت حالة الانهيار مستمرة في القطاع الصناعي حتى بدأ اختفاء الطبقة الصناعية في العراق وعدم ثبات الإطار المؤسسي الذي يمكن العراق من إدارة اقتصاده على النحو الذي يؤدي إلى توجيه الموارد الطبيعة والبشرية إلى استخدامات ذات النفع العائد الكفوء ولاسيما في المجال النفطي والزراعي والسياحي، وغيرها من الموارد المدرة للدخل؛ بسبب تخلف أدوات الإنتاج وضعف مستوى إنتاجية العمل للفرد الواحد، وكذلك ضعف دوره في الإنتاج المحلي الإجمالي؛ مما سبب الجهل والأمية والحروب منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى بعد عام 2003، التي أدت إلى تدهور عجلة الإنتاج، وتوقف عجلة التطور في مختلف القطاعات، وهذا يعد خللاً جوهرياً في البنية الاقتصادية، لأن طبيعة تحول النظام الاقتصادي في العراق كانت بصورة الصدمة المباشرة من الاقتصاد الريعي المنغلق إلى اقتصاد السوق لتحرير التجارة بنحوٍ سريع وواسع، رافقها تطبيق سياسات “الانفتاح الاقتصادي” التي كانت ذات آثار سلبية ولاسيما المنعكسة على القطاع الصناعي؛ لأن مثل تطبيق هذه السياسات يحتاج إلى أن يتم بتدرج وهدوء وعلى مراحل للحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي الداخلي؛ لأن الصناعات في العراق يكاد يكون مجمل عملها على الاكتفاء الذاتي العسكري وبعض الصناعات الاستهلاكية اليسيرة والبعيدة عن المنافسة الخارجية.

ويمكن إيجاز أهم المعوقات التي تواجه القطاع الصناعي في العراق والتحديات التي تعرقل أداءه التنموي بالآتي:

  1. انعدام الظروف الموضوعية والذاتية المجسدة في الاستقرار السياسي والتباين المستمر في وجهات النظر.
  2. تدني الإنفاق وانخفاضه على البحث والتطوير الذي يعمل على التدريب والتأهيل المهني الكفوء ولاسيما الابتكار التكنولوجي المستمر وهذا ما يزيد من تكلفة الإنتاج التي تضعف هيكلة القطاعات الصناعية في العراق.
  3. ضعف الرؤى المستقبلية وانعدام الاستراتيجيات العملية الآنية لمتخذي القرارات الصناعية؛ بسبب ضعف الدراسات المعمقة العلمية والعملية التي يمكن أن تتسع لجميع مشاكل هذا القطاع الحيوي والمهم في التنمية الاقتصادية والبشرية بالنسبة للاقتصاد الوطني[2].
  4. انعدام المنافسة بالعمل وعدم الإيلاء إلى نظرية (الميزة النسبية) للصناعة العراقية بسبب خصائص السوق العراقية بعدم الاهتمام بالصناعات الصغيرة والمتوسطة.
  5. تدني نصيب الفرد من ناتج الصناعة التحويلية بحيث لا يسهم في حل مشكلة البطالة.

وفي هذا السياق، فإن تنفيذ سياسات التصنيع الدخلية أمر محفوف بالصعوبات؛ بسبب اشتداد المنافسة بين الصناعات الداخلية التي لا تمتلك قدرة على المنافسة وحتى الصمود أمام الصناعات الخارجية القادمة من الدول الأجنبية التي تمتلك خبرة وأكثر رسوخاً في سوق التنافس العالمي؛ لأن الصناعة العراقية تواجه حالة من الشلل ولاسيما الشركات المملوكة للدولة، إذ إن أغلب هذه الشركات تخسر إلا باستثناءات ربحية يسيرة يقتصر ربحها على التمويل الذاتي للشركة من طريق توفير الرواتب للموظفين؛ لغياب التخطيط والبرمجة للنهوض بالواقع الاقتصادي العراقي والاعتماد على الريع النفطي.

 إن فتح السوق العراقية على مصراعيها أمام البضائع المستوردة الخارجية فضلاً عن سياسة الإغراق التي اتبعت في الأسواق العراقية من قبل دول الجوار، أدى إلى توقف أغلب الصناعات الصغيرة والمتوسطة وبعض الصناعات الشعبية، التي حُدَّ من مـن قدرتها على المنافسة سواء في الداخل أمْ في الأسواق العالمية، كذلك أثرت سياسة الإغراق في العراق على مستوى القوى العاملة فـي العراق ولاسيما الفنيـة والمتخصصة فإما أن تتحول إلى أعمال غير فعالة وإما أن تفكر في الهجـرة، فـضلاً عـن تـأثير الإغراق في منظومة الأمن الغذائي للمستهلك والصناعات ذات العلاقة باستخدام الغذاء كوسيلة هيمنة من لدن الدول الصناعية، وعدم توافرها بالأسعار المعتدلـة ولا بـالجودة الملائمة وهذا ينعكس جميعه بالنهاية على توازن السوق المحلية وبالتـالي رفاهيـة المـستهلك.

وعلى هامش الصناعة الوطنية فمثلاً أن معمل القطن الطبي ينتج علبة من القطن الطبي للاستهلاك المحلي، وسعر هذه العلبة (5000) دينار وبنفس الوزن والمواصفات يتم استيراد هذه العلبة بـ(2000) دينار من لدن التاجر العراقي وهذا ينعكس على واقع السلع في العراق، ويرجع سبب ارتفاع أسعار الإنتاج المحلي لأن المواد الأولية كلها تأتي من الخارج، فضلاً عن ارتفاع أجور اليد العاملة وتكاليف الكهرباء وهذه كلها عوامل ترفع من تكلفة السلعة المحلية.

وهنا يضطر المستهلك العراقي للبحث عن المنتج المستورد لانخفاض سعره وارتفاع جودته مقارنة بالمنتج المحلي وهو الأمر الضروري الذي يجب أن تواجهه الدولة بكل حزم، وبذلك يمكن اللجوء لجملة من التدابير والإجراءات التي تشجيع الأنشطة الإنتاجية الصناعية داخل العراق لحماية الصناعات الناشئة من المنافسة العالمية (الخارجية المستوردة)، أو توجيه الاستثمارات إلى قطاعات صناعية معينة نظراً لأهميتها الاستراتيجية أو لعوائدها المرتفعة، وتتراوح الأدوات التي تتخذها الحكومات لتحقيق أهداف سياستها الصناعية بين فرض الرسوم الجمركية المرتفعة ووضع القيود غير الضريبية مثلاً (معايير تقنية أو صحية) على بعض الواردات للحد منها، وتقديم الدعم والمساعدات المالية للمقاولات الصناعية، وتوفير الطاقة والسلع الأولية لها بأسعار تفضيلية.

لذلك فإن قطاع الصناعة بحاجة إلى حماية من المنتجين الأجانب الأكثر تطوراً والباحثين عن سوق استهلاكية وذلك يمكن أن يكون من طريق الدعم الحكومي بأنواع المساعدة الأخرى، كتعشيق القطاع العام والخاص للمشاركة في السوق العراقية حتى يتمكنوا من إتقان التكنولوجيا المتطورة وبناء مؤسسات صناعية فاعلة.

 وعلى غرار”نظرية الصناعات الوليدة” التي تعمل على تطبيق (سياسية حماية الصناعات المحلية) وما هو غير مشهور عنها أن واضع هذه النظرية هو أليكساندر هاملتون، أول وزير اقتصاد (سكرتير المالية) للولايات المتحدة الأمريكية الذي توجد صورته على ورقة الـ10 دولارات ففي البداية لم يقتنع بنظرية هاملتون إلا القليل من الأمريكيين، وذلك لأن (آدم سميث) أحد مؤسسي علم الاقتصاد كان قد حذَّر من قبل من رعاية الصناعات التي لا تنشأ بنحوٍ طبيعي؛ ولكن مع الوقت بدأ الناس يقتنعون بنظرية هاملتون واتجهت الولايات المتحدة إلى العمل بها للنهوض بواقع الاقتصاد الأمريكي[3] .

     ومما تقدم يمكن للعراق أن يعمل على سياسة حماية الصناعة الوليدة لأنها توصل إلى نتيجة رفع مستوى التنمية الاقتصادية التي تتطلب تعرفيات جمركية وقيوداً على الاستثمار الأجنبي ليس للرفض لكن لمساعدة الصناعات العراقية وقوانين تسمح لحماية المنتج بالمنافسة العالمية إلى جانب سياسات أخرى تساعد المنتجين على إحداث تراكم في القدرات الإنتاجية.

والأكثر عقلانية لدعوى حماية الإنتاج، هو حينما يكون المنتج الوطني حديث الولادة، ولا يستطيع الوقوف في وجه المنافسة العالمية، ومن مسؤولية الدولة هو حماية هذا المنتوج بفرض ضرائب على السلعة الأجنبية المنافسة له لمدة محدودة، ربما أربع أو خمس سنوات، وخلال هذه المدة يستطيع المنتج الوطني الاستفادة من سنوات الحماية لتطوير إنتاجه، وتطوير الخبرات، والتسويق، والإنتاج، والشحن، الإدارة ، واستخدام التكنلوجيا، فضلاً عن خفض كلفة إنتاج الوحدة الواحدة بسبب الإنتاج الواسع أو الكبير[4].

وبالتالي، فإن السياسة العراقية ينبغي لها أن تعمل مع مراكز صنع القرار الاقتصادي (منظمة التجارة العالمية، صندوق النقد والبنك الدوليين، وسواها) أو حتى الدول ذات المكانة الرئيسة في الاقتصاد العالمي للمساعدة في تحقيق النمو الاقتصادي بنحوٍ أسرع؛ وذلك لأن النمو الأسرع في الدول الفقيرة يعني زيادة في التجارة وفرص الاستثمار، وإن ذلك سيصب في النهاية في صالح الدول الغنية أيضاً.

المصادر:


[1]http://www.aljazeera.net/encyclopedia/economy/2016/3/21/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A9

[2] http://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=22339

[3]http://www.independent.co.uk/news/business/comment/ha-joon-chang-protectionism-the-truth-is-on-a-10-bill-5334137.html

[4] http://www.sotaliraq.com/printerfriendly-articles.php?id=206306