ربما كانت الظروف الاقتصادية الصعبة في الوطن، أو القرارات غير الشعبية هي التي تهدد وتجعل الرئيس بوتين رجل النخبة بدلاً من رجل الشعب، ولكن ما رأيناه في المؤتمر الصحفي السنوي له في السابع عشر من كانون الاول، كان بوتين أكثر اهتماماً بالشرق الأوسط من الوطن. كان بوتين مفعماً بالحيوية أكثر من قبل، وتحدث لمدة أطول، وبدا جلياً أنه أكثر اهتماماً بمناقشة الوضع في الشرق الأوسط والسياسة الخارجية الروسية هناك، أكثر من أي قضية أخرى. كما بدا ايضاً أن بوتين يركز كل طاقاته على صنع إرثه الخاص بناءً على النجاح في الشرق الأوسط.

أشارت أحدى تعليقاته الى أن روسيا والولايات المتحدة هما الآن أقرب حول الوضع في سوريا أكثر من أي وقت مضى.  وأشاد بالجهود الأخيرة للوزير كيري لتنسيق السياسات حول سوريا ومحاولة تحقيق السلام، وألمح إلى إمكانية عقد تحالف بين روسيا والغرب من شأنه أن يجمع بين التحالفين الذين يعملان بشكل منفصل في سوريا. وهذا يعني اعتراف بوتين بجهود الولايات المتحدة للعمل معه، مثلما يعني أنه على استعداد لأن يكون براغماتياً وليس صاحب مقاومة أيديولوجية عنيد. قد ينبع هذا من حقيقة أنه الآن لديه وجود عسكري كبير في سوريا، وهو أمر لم يكن يتوقعه الغرب قبل ستة أشهر، ولكنه يعني أيضا أنه يثمن مزايا الصفقة. لقد شجع الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، بوتين على تبني سياسة شديدة من أجل كسب المزيد في المفاوضات، ولكن هذا قد يرسل إشارة إلى حلفاء روسيا، مفادها أن بوتين لا يمكن الاعتماد عليه حتى النهاية إذا ما قدمت له الولايات المتحدة عرضاً جيداً.

أما أكثر تعليقاته حدة، فقد خص بها تركيا، ومع وجود أنظمة دفاع جوي متطورة في سوريا الآن،  فإنه  قد تجرأ وتحداهم أن يحاولوا التعدي مرة أخرى ويسقطوا طائرة روسية أو أن ينتهكوا المجال الجوي السوري. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أنه أشار أيضاً إلى أن تركيا اسقطت الطائرة الروسية لأنها أرادت إرضاء الولايات المتحدة، ومن ثم أرادت أن تُدخل الى العراق قوة مدرعة بموافقة الولايات المتحدة. ويبدو أنه أراد أن يبين أن العدوان على روسيا لن يمر دون عقاب، وأنه سيجعل من تركيا عبرة لأنها تجرأت على مواجهته في سوريا. كما أتى على ذكر صعود الإسلامية السرية في تركيا، حيث زعم أن تنظيم داعش قد وُجِد لمحاربة النظام السوري والتغطية على مبيعات النفط غير المشروعة في العراق وسوريا.

وعلى الرغم من حضور أكثر من 1400 اعلامي  للمؤتمر الصحفي السنوي الذي استمر لثلاث ساعات، إلا أن تصريحاته لم تكن مفاجئة بل كانت على العكس متوقعة، لأن بوتين كان قد تحدث إلى وسائل الإعلام كثيرا خلال الأشهر القليلة الماضية (بسبب سوريا بشكل رئيس). لقد اتبعت سياسته الخارجية العامة في الواقع خطاً ثابتاً منذ خطابه الشهير في مؤتمر الأمن في ميونيخ عام 2007،  حيث اتهم الولايات المتحدة بتجاوز الحدود، وأشار إلى أن روسيا توشك أن تكون أكثر حزماً في الخارج، وأن يكون لها دور أكبر على المسرح العالمي. ويبدو من المرجح الآن أن بوتين، بعد أن استثمر الكثير في سوريا، وعقد شراكة مع إيران والعراق حول الأمن في الشرق الأوسط، لن يذهب بعيداً عن المنطقة أبداً، وأنه ينوي أن يجعل من الوجود الروسي بعيد الأمد لمواجهة الوجود الأمريكي. وهذا لأنه يريد أن يستند في صنع إرثه على النجاح في السياسة الخارجية، وأنه يجب عليه أن لا يفشل في سوريا، وأن لا يسمح لتركيا بتحديه علناً من ​​دون تداعيات. رجل روسيا القوي يريد أن يصبح رجل الشرق الأوسط القوي.