جنان الجابري: مستشارة في السياسات الاجتماعية ودور منظمات المجتمع المدني في العراق. دكتوراه في السياسات الاجتماعية من جامعة باث في بريطانيا.

تتناول هذه المقالة مسألة العنف ضد النساء تحديداً، والكلفة الاقتصادية التي تترتب على الدولة في معالجة الآثار المترتبة على ذلك، إذ لا تلقي الآثار بظلالها على المرأة والأسرة والأطفال حسب، بل على المجتمع بنحو أوسع، وميزانية الدولة كذلك. لقد شرعت قوانين لإيقاف جريمة العنف ضد النساء في العديد من دول العالم، وكانت إحدى الأسباب التي أوردتها المنظمات النسوية من أجل ممارسة الضغط على حكوماتها بإقرار قانون لتجريم العنف ضد النساء هو الكلف الاقتصادية التي أوردتها تلك المنظمات والتي تسببها هذه الجرائم لميزانية الدولة في حال ترك موضوع العنف ضد النساء دون حلّ.

تقدّر الحكومة الكندية أن كلفة ممارسة العنف ضد النساء يقتضي الدولة تخصيص مبلغ قدره مليار دولار كندي سنوياً لتغطية نفقات الخدمات بما فيها الشرطة، والنظام القضائي، والعلاج النفسي، وتدريب ذوي الاختصاص([1])(يونسيف، 2000). ونُشرت إحصائية في الولايات المتحدة الأميركية بالعام 2003 قدرت كلفة العنف المنزلي من قبل الأزواج لزوجاتهم، أو شريكاتهم بنحو (8.3) مليار دولار سنوياً. وتُحسب هذه الكلفة على مصاريف المساعدة الطبية التي تقدم للضحايا، من مثل فقدان أيام العمل بسبب الأضرار المتسببة عن العنف، وكلفة تدخل الشرطة والمحاكم([2])(OECD, 2013).وقدرت قيمة كلفة العنف المنزلي لضحايا هذا النوع من الجرائم في بريطانيا وويلز لعام 2017 بمقدار (66) مليار جنيه إسترليني (70 مليار دولار أمريكي) (أوليفر وآخرين، 2019)([3])، خصص منها مبلغ يقدر بـ(47) مليار جنيه إسترليني لمعالجة الآثار النفسية من خوف وكآبة وقلق تولد نتيجة للعنف (المصدر السابق).

في أفريقيا -بعيداً عن الدول المتقدمة- أكدت كل من كلوديا كارسيا مورينو، وشارلوت واتس من منظمة الصحة العالمية أن “تكاليف العنف العائلي في أوغندا قدرت بنحو 2.5 مليون دولار أميركي في عام 2007”([4])(كلوديا كارسيا مورينو وشارلوت واتس، 2011).بل تذهب الباحثتان إلى أن تقديرات كلفة العنف المنزلي غير المميت ضد النساء والأطفال تبلغ معدلات أكثر ارتفاعاً من نسب الانتحار والهجمات الإرهابية والحرب مجتمعة (Anke Hoeffler، 2017)([5]).وأما التكاليف الاجتماعية الأوسع، فإنها -وبحسب تعبير الباحثتين مورينو وواتس- “عميقةٌ أيضاً وإن كان من الصعب قياسها كمياً، إذ من المرجح أن يقيّد جهود الحد من الفقر بخفض مشاركة المرأة في العمالة المنتجة، وقد يقوّض الجهود الرامية إلى تحسين فرص حصول المرأة على التعليم، مع مشاركة العنف والخوف من العنف في انخفاض معدلات التحاق الفتيات بالمدارس. وقد تبين أيضاً أنّ العنف العائلي يؤثر على رفاه الأطفال في الأسرة وتعليمهم (المصدر السابق).

وفي ضوء هذا الإطار النظري يمتلك السؤال الآتيشرعيته في حال كانت هذه هي الكلف الاقتصادية لممارسة العنف ضد النساء في دول جرّمت فيه قوانينها ممارسة هذا النوع من الجرائم، فكيف الحال في دول لم تجّرم فيها هذه الأعمال -مثل العراق-ولم تقر بهذا النوع من العنف جريمةً يعاقب عليها القانون؟ وتضع الإجراءات اللازمة لحماية المعنفات؟ ولم يقر المشرع في العراق قانون مناهضة العنف الأسري، على الرغم من مرور 8 سنوات على الشروع بطرح مسودته الأولى؟

بالتأكيد لا يمكن القول إن العراق لم يقر بوجود العنف الأسري، إذ إن استحداث قسم “الشرطة المجتمعية” بحد ذاته هو إقرار بوجود هذا النوع من الجرائم. وقد أقرت الشرطة المجتمعية ذلك في أهدافها التي طرحتها وهي “تفعيل دور المجتمع ومؤسسات الضبط الاجتماعي للوقاية من الجريمة؛ وذلك بتوفير آليات للتدخل المبكر والتصدي للقضايا والمشكلات الاجتماعية، وحلّها بطريقة ودية تعزز من فرص التسامح بين الأطراف المتنازعة، ولاسيما في قضايا العنف الأسري”، وأيضاً في فقرة أخرى أقرت بضرورة “تقديم خدمات التوعية والإرشاد الثقافي الوطني، وخدمات الإيواء للأطفال والنساء اللاتي يتطلب حمايتهم مدداًمؤقتة”، وإنها أكدت على “تقديم خدمات التماسك المجتمعي من قبيل: الخلاف الأسري، والعنف الأسري، وقضايا الاغتصاب، وهتك العرض، والشروع في الانتحار”([6])(صفحة وزارة الداخلية-الشرطة المجتمعية).

من جهة أخرى تناولت الحكومات السابقة نفسها العنف الأسري في استراتيجيتها المناهضة للعنف ضد النساء، وقد كان آخرها إصدار استراتيجية العنف ضد المرأة التي أطلقت في شهر كانون الأول من عام 2018 بالاتفاق مع الأمم المتحدة، إذ نصت هذه الاستراتيجية على “اتخاذ إجراءات ملموسة تهدف إلى الحيلولة دون وقوع العنف ضد النساء والفتيات، وحماية الناجيات من العنف”([7]) (,2018(UNFPA. بيد من الواضح -رغم إصدار تلك الاستراتيجيات التي تهدف “للحيلولة” دون وقوع العنف- أنها غير ملزمة للدولة قانوناً، وإن تلك الإجراءات لم ترتق لتكون مفروضة وبقوة القانون وعلى الدولة الالتزام بها، وإلا سيطرح السؤال الآتي: إذا كانت الدولة تصدر استراتيجيات لمنع العنف ضد النساء، لمَ لا تشرع ذلك بقانون، على الرغم من طرح مسودته منذ العام 2012؟ لذلك يجب التأكيد على أن صناع القرار بحاجة إلى البدء بدراسات معمقة بشأن الكُلف الاقتصادية للعنف ضد النساء، ولاسيما إذا عرفنا -من تجربتي ومشاهداتي ومقابلاتي مع المنظمات النسوية في بريطانيا- أن أحد الأسباب المهمة التي أقنعت صناع القرار في بريطانيا للنظر في مسألة العنف المنزلي كقضية “دولة” و”مجتمع” وليست شأناً عائلياً داخلياً، هو تقديم تلك المنظمات لإحصائيات اقتصادية عن الكلفة المالية للعنف الممارس ضد المرأة؛ ومن هنا -نظراً لعدم وجود قانون يجرم العنف الأسري- فمن الضروري طرح بعض المقترحات للمسؤولين للتباحث واتخاذ القرار بشأنها.

توصيات لصناع القرار لمعالجة العنف الأسري:

أولاً:إقرار قانون العنف الأسري في الدورة البرلمانية الحالية (2018-2022)، وعدم ترحيله إلى دورات أخرى، ولاسيما أن مسودة هذا القانون قد مرت بمرحلة اختمار كافية في قبة البرلمان. ومن المعلوم بعد تشكيل الحكومة الجديدة، فإن رئاسة الوزراء أمام تقديم المسودة القديمة للبرلمان، أو تقديم مسودة قانون جديدة؛ من أجل ألّا يعاد اكتشاف العجلة من جديد، ومن أجل ألّا تذهب جهود المنظمات النسوية التي بذلتها على امتداد ثماني سنوات جنباً إلى جنب مع عدد من الوزارات (مثل: وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووزارة الصحة) سدى، فإن مسودة القانون التي قدمت، يمكن عرضها للمناقشة مرة أخرى.

ثانياً:لقد أكدت عدد من الأبحاث الأكاديمية -مثل بحث الاكاديمية شذى نجاح بلاش من جامعة القادسية (2017) ([8])– عن العنف ضد النساء، بضرورة تعديل القوانين التي تسمح بالعنف ضد النساء مثل قانون رقم 111 لسنة 1969، وكذلك المادة 41 من قانون العقوبات النافذ، التي لا ترى وجود أي جريمة في حال استعمال الرجل للعنف كونه “حقاً من حقوقه” (مقابلة أجريت مع الخبيرة القانونية بشرى العبيدي في آذار 2019)؛ لذلك فإن إعادة النظر بالنصوص التي تسمح بالعنف يصبح ضرورة من أجل وضع الاستراتيجيات المناهضة للعنف موضع التنفيذ.

ثالثاً:ضرورة توفير الإحصائيات والأدلة عن الكلف الاقتصادية للعنف ضد النساء أو العنف الأسري، من أجل أن يكون صناع القرار على بيّنة وبالدراسات الميدانية التي تشمل مسوحاً على المؤسسات التي تقصدها النساء المعرضات للعنف والتابعة إلى وزارات مثل: وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وزارة الصحة، وزارة العدل؛ ومن الضروري إيضاً تشجيع منظمات المجتمع المدني على توفير هذا النوع من التقارير والمعلومات.

رابعاً:تقوية دور الشرطة المجتمعية والتعريف بدورها وتزويد الشرطة بالملاك النسوي المختص والمدرب ولاسيما من خريجات الكليات المختصة بعلم الاجتماع، وعلم النفس، وبقية الاختصاصات ذات الصلة، والدعاية الواسعة لدور هذا القسم من الشرطة؛ من أجل الاستفادة القصوى من الفرص المتاحة لدعم النساء أو بقية أعضاء الأسرة.

خامساً: استخدام وسائل الإعلام الرسمية لرفع وعي المواطن بأضرار العنف على المرأة والأسرة والمجتمع. وتسخير الأعمال الفنية والدرامية، والسينما والمسرح، ومعارض الرسم، ومختلف الوسائل الأخرى لزيادة الوعي، والتثقيف بخطورة هذه الجرائم لردع الأفراد عن استخدام أياديهم في معالجة العنف، ومن أجل أن تأخذ الدولة وقوانينها بالحسبان أن ممارسة العنف في داخل المنزل هو جريمة بقدر ممارسته خارجه.


[1]-https://www.unicef.org/malaysia/ID_2000_Domestic_Violence_Women_Girls__6e.pdf

[2]-https://www.oecd.org/els/soc/SF3_4_Family_violence_Jan2013.pdf

[3]- https://assets.publishing.service.gov.uk

https://www.oecd.org/els/soc/SF3_4_Family_violence_Jan2013.pdf

[4]-https://www.who.int/bulletin/volumes/89/1/10-085217/ar/

[5]-https://journals.sagepub.com/doi/abs/10.1177/1470594X17714270

[6]- https://moi.gov.iq/index.php?name=Pages&op=page&pid=120

[7]- https://iraq.unfpa.org/ar/news

[8]-http://qu.edu.iq/repository/wp-content/uploads/2017/02/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%B6%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A1-.pdf