زهير جمعة المالكي

حينما انطلق الأدميرال الصيني تشنغ خه بأسطوله المكون من 62 سفينة في القرن الخامس عشر الميلادي بسبع رحلات لم يكن يدرك أن تلك الرحلات ستكون ملهمة لحرب جديدة في بداية الألفية الثانية؛ فتلك الرحلات أخذت الأدميرال الصيني لزيارة عدة دول تقع على سواحل المحيط الهندي وجنوب آسيا وأفريقيا حتى وصل إلى منطقة الخليج والبحر الأحمر، وقد ألهمت تلك الرحلات عدة دول تسعى للسيطرة على التجارة في المحيط الهندي، وبحر الصين، والقرن الأفريقي الذي تمر عبرها 70% من تجارة العالم، وكانت بداية ذلك بعد سقوط الاتحاد السوفيتي حينما أدركت الصين أنها ستكون الهدف التالي؛ لذلك انطلق رئيس الوزراء الصيني لي بينغ عام 1994 في جولة في دول آسيا الوسطى في محاولة لإيجاد طرق بديلة لكسر أي طوق يمكن أن يضرب حصاراً عليها؛ مما أشعل حرباً قاسية هي حرب السيطرة على الموانئ، وإنشاء القواعد البحرية العسكرية التي تتداخل فيها المصالح الاقتصادية والسياسية.

وبعد الجولة التي قام بها لي بينغ طرح رئيس الوزراء الياباني هاشيموتو عام 1997 فكرة التعاون بين بلده ودول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز. وقد طرحت الهند عام 2002 استراتيجية ممر مواصلات شمال-جنوب لربط الهند بروسيا عبر إيران والقوقاز. واقترح الاتحاد الأوروبي عام 2009 ما عُرِفَ باسم “برنامج طريق الحرير الجديد” لمد خط أنابيب ينقل الغاز الطبيعي من آسيا الوسطى إلى أوروبا؛ بهدف تقليل الاعتماد على الغاز الروسي. ولم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن مثل هذه المبادرات، فقد اقترحت عام 2011 استراتيجية طريق الحرير الجديد أو ما عُرف في حينه باسم “طريق الحرير الحديدي”، الذي يهدف إلى بناء شبكة خطوط حديدية لتعزيز التعاون الاقتصادي بين أفغانستان وجمهوريات آسيا الوسطى ودول جنوب آسيا.

ومع تطور الأوضاع السياسية أدركت الصين أنها محاصرة بسلسلة من القواعد والتحالفات العسكرية الأمريكية التي تمتد من أستراليا إلى الباكستان فاليابان، وأن الفجوة الوحيدة التي تسعى الولايات المتحدة إلى غلقها أمام التوسع الصيني السياسي والاقتصادي هي الفجوة التي تمثلها إيران باتجاه البحر المتوسط، وازدادت تلك المخاوف مع الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008؛ مما دفع الدكتور شو شن دا نائب رئيس الهيئة الوطنية العامة للضرائب في الصين، إلى طرح فكرة مشروع مارشال صيني يقوم على أساس استخدام الاحتياطي الاستراتيجي الصيني من العملة؛ لمنح قروض إلى الدول النامية تستخدم لبناء مشاريع تنفذها شركات صينية في تلك الدول؛ وقد تطورت تلك الفكرة لتصبح استراتيجية متكاملة يطلق عليها استراتيجية (خط واحد حزام واحد)، وهي الاستراتيجية التي طرحها بصورة متكاملة الرئيس الصيني تشي جين بينغ عام 2013.

لقد أفضت تلك التطورات إلى ظهور قطبين جديدين في حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وأصبح الصراع الجيوسياسي متركزاً الآن بدرجة أكبر حول الاقتصاد انطلاقاً من إدراك الطرفين أن الحروب والمعارك العسكرية لا طائل من ورائها وتعد بمنزلة انتحار. أما الانتصار الحقيقي اليوم فيكمن في كبح جماح العدو من خلال صراع قوى يتركز أكثر حول جني مكاسب اقتصادية، ودخلت معهما دول أصغر تحاول أن تثبت أنها حليف لا يمكن الاستغناء عنه، وكانت ساحة تلك الحرب هي سواحل أفريقيا وآسيا؛ لذلك تسعى دول العالم إلى السيطرة على الموانئ في تلك المنطقة، وإنشاء قواعد عسكرية لخدمة أهدافها الاقتصادية.

وسنحاول في هذا المقال تتبع السباق الذي انطلق للسيطرة على الموانئ على طول خطوط التجارة العالمية ما بين آسيا وأفريقيا إلى أوروبا والأمريكيتين، فبعد صراع طويل تمكنت الإمارات العربية المتحدة عبر شركة موانئ دبي العالمية من توقيع اتفاقيتي امتياز مع الحكومة القبرصية للتشغيل التجاري للأنشطة ضمن ميناء ليماسول في جزيرة قبرص. وحازت «موانئ دبي العالمية – ليماسول» عقد امتياز لمدة 25 عاماً يمنحها حقوقاً حصرية لتشغيل المحطة البحرية متعددة الأغراض، التي تشتمل أنشطتها مناولة البضائع السائبة، والبضائع العامة، والشحن، إلى جانب تشغيل محطة الركاب. وحصلت شركة «بي أند أو ماريتايم قبرص» لخدمات الملاحة البحرية -الشركة التابعة المملوكة بالكامل لـ«موانئ دبي العالمية»- أيضاً على عقد امتياز لمدة 15 عاماً للتشغيل الحصري لقوارب القَطْر، وإرشاد السفن في ميناء ليماسول، ومنح حقوق الامتياز للمشروع المشترك بين «موانئ دبي العالمية» و«جي. إيه. بي فاسيلوبولوس» العامة المحدودة -شركة خدمات لوجستية مدرجة في بورصة قبرص-. وستمتلك شركة «موانئ دبي العالمية» 75% من حصص رأس المال في كل مشروعٍ مشترك، فضلاً عن حقوق الإدارة؛ وكان لهذا الفوز الإماراتي صدى في تحفيز تركيا للاستثمار في ميناء كيرينيا في الجزء التركي من قبرص، وقد سعت الإمارات العربية إلى الحصول على موطئ قدم في الموانئ التركية، وتعد محطة موانئ دبي العالمية (ياريمشا) أول مشروع للبنية التحتية في خليج إزميت التركي يدار من قبل مشغل دولي. وقد نجحت الإمارات كذلك في الحصول على عقد تشغيل ميناء بيروت اللبناني. أما في أفريقيا فقد حصلت الإمارات على عقود إدارة لعدة موانئ منها ميناء الجزائر العاصمة ميناء جن جن، وحاويات ميناء مابوتو في موزمبيق، وبورت دو فوتور في السنغال، ومحطة حاويات ميناء داكار.

لقد سعت جمهورية مصر العربية إلى توسيع قناة السويس، وإضافة تفريعة جديدة للقناة لاستيعاب مزيدٍ من السفن، وتقليل وقت انتظارها في منطقة القناة، وقد حصلت الإمارات العربية على عقد تطوير ميناء العين السخنة المصري، فضلاً عن استحواذ شركة موانئ دبي على شركة تنمية السخنة المالكة لامتياز محطة الحاويات ومحطة الصب السائل بميناء السخنة. ومن جهتها تحاول السعودية تعزيز نفوذها في البحر الأحمر من خلال الاستثمار في جزيرتي صنافير وتيران اللتين استعادتهما من مصر على وفق اتفاقية ترسيم الحدود البحرية الموقعة بين البلدين، ولكن تلك الاتفاقية حولت المياه الإقليمية التي كانت تعدُّ جزءاً من المياه الإقليمية المصرية إلى مياه دولية؛ مما حفز الشهية الإسرائيلية على إعادة التفكير بمشروع قناة البحر الأبيض التي من الممكن أن تؤثر بنحوٍ كبير على قناة السويس. وتعمل السعودية الآن على الترويج لمشروع إنشاء جسر بري يربط سيناء والموانئ المصرية بالأراضي السعودية، معلنة عن نيتها استثمار 25 مليار دولار في مدن القناة وسيناء، ولكن هذا المشروع أصبح الآن يتطلب موافقة كل من إسرائيل والأردن؛ كون مشاريع الربط تمرُّ بالقرب من المياه الدولية. وفضلاً عن تلك المشاريع فقد أعلنت السعودية نيتها في زيادة استثماراتها في الصومال، وأريتريا، وجيبوتي؛ بهدف تعزيز الحضور، والاستعداد للمرحلة الاقتصادية الجديدة.

ومع تطور حرب اليمن التي مكنت إيران من الحصول على موطئ قدم قوي على باب المندب شهدت منطقة القرن الإفريقي الواقعة على مدخل البحر الأحمر الجنوبي تنافساً اقتصادياً وأمنياً محتدماً إقليميّاً ودوليّاً، حيث باتت حركة أنصار الله تسيطر على مساحات شاسعة في اليمن أبرزها العاصمة صنعاء، ومنطقة ميناء الحديدة الاستراتيجية عند باب المندب.

وبعد هجوم التحالف العربي على اليمن عام 2015، سيطرت القوات الإماراتية على ميناء عدن، وميناء المخا غربي محافظة تعز؛ وبذلك سيطرت الإمارات على ميناء باب المندب الذي تمرّ من خلاله 12% من التجارة العالمية  ولاسيما بعد حصول شركة موانئ دبي على عقد إدارة ميناء بربرا الذي فازت به عام 2014، وذلك بعقد امتياز لمدة 30 عاماً مع تمديد تلقائي لمدة عشرة أعوام أخرى لإدارة مشروع ميناء متعدد الاستخدامات في بربرة وتطويره، وقد أُسّس مشروع مشترك لإدارة ميناء بربرة والاستثمار فيه بالشراكة مع حكومة جمهورية أرض الصومال، ومن جهتها حصلت تركيا عبر شركة البيرق التركية على حق إدارة ميناء مقديشو بعد أن منحتها الحكومة الصومالية الفيدرالية حق تشغيل الميناء لعشرين عاماً في سبتمبر 2014، على أن تعطي 55% من عائداته السنوية لخزانة الحكومة الصومالية. وفي إريتريا حصلت الإمارات على حق إدارة ميناءي مصوع وعصب، عبر شركة موانئ دبي في عام 2015 لمدة ثلاثين عاماً مقابل أن تحصل إريتريا على 30% من عائدات الميناء الذي سيبدأ تشغيله في 2018، ومع الميناء حصلت الإمارات على مطار يحتوي على مدرج بطول 3500 متر، يمكن لطائرات النقل الكبيرة استخدامه في الإقلاع والهبوط، وقد استغلت الإمارات والسعودية ميناء عصب وقاعدته بنحوٍ فعّال للغاية في الهجوم على اليمن عام 2015، وحصلت موانئ دبي عام 2005 على حق إدارة ميناء جيبوتي الذي يقع على مدخل البحر الأحمر الجنوبي، وكذلك محطة حاويات دورالي في جيبوتي.

ومن جهتها دخلت قطر على خط المنافسة حيث اتفقت مع حكومة السودان على إنشاء ميناء في مدينة “بورتسودان” ليكون أكبر ميناء للحاويات على ساحل البحر الأحمر؛ وبناءً عليه يمكن وصف الخطوة القطرية لإنشاء أكبر ميناء للحاويات “بورتسودان” بالتحدي الكبير للمحور السعودي-الإماراتي كونها ستؤثر على ميناء “جبل علي” في دبي، وبقية الموانئ التي تسيطر عليها أبو ظبي في أفريقيا، ومن ناحية أخرى تمكنت تركيا من الحصول على حق إدارة جزيرة سواكن السودانية التي تقع في البحر الأحمر مقابل ميناء جدة السعودي، ويوجد في الجزيرة ميناء يعد الأقدم في السودان، وكان يستخدم في الغالب لنقل المسافرين والبضائع إلى ميناء جدة في السعودية.

ومع اشتداد الصراع أصبحت منطقة القرن الأفريقي وباب المندب منطقة جاذبة للقواعد العسكرية البحرية حيث تتواجد قاعدة ليمونير الأمريكية التي تأسّست عقب هجمات 11 أيلول 2001 في أمريكا، وتقع على مقربة من مطار جيبوتي الدولي، وبالقرب منها القاعدة البحرية الصينية قبالة سواحل اليمن والصومال، وكذلك قواعد فرنسية وصينية ويابانية في جيبوتي، فضلاً عن قاعدة سعودية. وفي إرتيريا هناك قاعدتان عسكريتان لإسرائيل وإيران. ويوجد في الصومال القاعدة البحرية العسكرية التركية التي تقع خارج العاصمة مقديشو.

وفيما يخصُّ منطقة الخليج فهناك 37 ميناءً إلّا أن طاقتها الاستيعابية تنحسر غالبيتها العظمى في عشرة موانئ ثلثها في ميناء جبل علي الإماراتي يليه ميناء حمد الدولي القطري الذي يحتل المرتبة الثامنة خليجياً من حيث الطاقة الاستيعابية، وقد أعلنت الشركة القطرية لإدارة الموانئ -موانئ قطر- عن تدشين خط مباشر يربط ميناء حمد بميناء صحار في سلطنة عُمان، الذي يعدُّ واحداً من أكثر الموانئ نمواً في العالم؛ كونه يقع في وسط طرق التجارة العالمية بين أوروبا وآسيا، وكذلك حصلت قطر على عقد نقل حاويات بين ميناء حمد في قطر وميناء الشويخ في الكويت، فضلاً عن توقيع اتفاقية شراكة الاستراتيجية مع تركيا في قطاع الاقتصاد والاستثمار والنقل البحري، وإطلاق خدمة نقل مباشر للبضاعة المبردة بين قطر وتركيا.

أما السعودية فتمتلك تسعة موانئ تجارية وصناعية رئيسة تتكفّل بما نسبته 95% من صادرات المملكة ووارداتها، يتم مناولتها عبر تلك الموانئ (عدا النفط الخام)، ويضاف إليها الميناء الجاف بالرياض الذي يعتمد أساساً على ما يرد له من ميناء الملك عبد العزيز بالدمام.

ومن المعلوم أن الصين تعتمد في توفير 70% من وارداتها النفطية التي تأتي من منطقة الخليج عن طريق سفن تضطر لقطع مسافة 16 ألف كيلومتر حتى تصل إلى الميناء التجاري الوحيد لدى الصين في شانغهاي، ويستغرق الأمر قرابة ثلاثة أشهر كي تنقل النفط من خليج عمان عبر المحيطين الهندي والهادي، وهي تستورد أكثر من 60% من إمداداتها للطاقة عن طريق مضيق ملقا الواقع بين سنغافورة وماليزيا وإندونيسيا، ولكن مع اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية لوضع ثلاثة أرباع سفنها الحربية في منطقتي المحيط الهادئ والمنطقة الهندوآسيوية؛ عملت الصين على تأمين طرق بديلة.

وفي منطقة بحر الصين نجحت بكين عام 2015 في الحصول على عقد إنشاء منطقة كيافوك فيو الاقتصادية الخاصة في ولاية راخين غرب ميانمار وتطويرها، وهي تشمل ميناءً بعمق 16 متراً لاستيعاب الحاويات، ومنطقة صناعية على مساحة 1500 هكتار بجزيرة يانبياي بتكلفة مبدئية تتجاوز 200 مليون دولار، وكذلك مد خطوط أنابيب نفطية بين الصين وميانمار يمكن نقل النفط عبرها بين ميناء سيتوي في ميانمار إلى الصين بتكلفة لا تتجاوز ملياري دولار مختصراً ١٢٠٠ كلم من المسافة. ووقعت سريلانكا والصين أيضاً عقد إيجار ميناء هامبانتوتا جنوبي الصين الذي يقع بالقرب من طريق الشحن الرئيس من آسيا إلى أوروبا، ومن المحتمل أن تؤدي دوراً رئيساً في مبادرة “الحزام والطريق” في الصين.

ويعدُّ ميناءا تشابهار وجوادر من أكبر الموانئ تاثيراً على الوضع الاقتصادي والجيوسياسي في المنطقة فهذان الميناءان بإمكانهما تقليص دور موانئ الإمارات العربية ولاسيما ميناء جبل علي؛ ومن هذا المنطلق ركزت الصين كل جهودها على الاستثمار في ميناء جوادر الباكستاني الواقع بين بحر العرب وخليج عمان ويعدُّ أقرب ميناء إلى الصين حتى من الموانئ الصينية نفسها، فضلاً عمّا يمتاز به من عمق بحري، وقد حصلت الصين من الباكستان على عقد استثمار لميناء جوادر لمدة أربعين عاماً؛ وبذلك تتخلص الصين من عنق الزجاجة الذي من الممكن أن يخنقها في أي وقت والمسمى خليج ملقا، وتبلغ المسافة من إقليم تشينجيانغ الصيني إلى الخليج حوالي 3000 كيلومتر، وقد استثمرت الصين حوالي 46 مليار دولار، وتتحمل قطر حوالي 15% من إجمالي الاستثمارات في ميناء جوادر.

أما ميناء تشابهار الإيراني فيحتوي على مرفأين، هما: مرفأ شهيد كالانتار، ومرفأ شهيد بهشتي، ولكل منهما خمسة أرصفة، وتعمل الذراع الاستثمارية للمشروع التابعة لوزارة الشحن -الهند بورتس غلوبال- على إقامة شراكة بين شركة (جواهر لال نهرو بورت تراست) وميناء (غوجارات كاندلا بورت)؛ لتطوير ميناءين للحاويات بطول 640 متراً، وثلاثة أرصفة متعددة الشحنات باستثمار 85 مليون دولار أمريكي.

وتزداد أهمية ميناء تشابهار للهند لأنه يمكنها من تجاوز باكستان في نقل البضائع إلى أفغانستان، وهو يعدُّ المدخل الرئيس لممر النقل الدولي بين الشمال والجنوب الذي يضمُّ خطوطاً بحرية وبرية بين الهند، وروسيا، وإيران، وأوروبا، ووسط آسيا؛ وهذا سيعود بالنفع على الهند، ويزيد حجم استيراد خام الحديد والسكر والأرز، وستشهد تكلفة استيراد النفط للهند انخفاضاً كبيراً، وزادت الهند بالفعل من شراء خام النفط من إيران منذ رفع الحظر المفروض على إيران، وسيساعد الميناء على تخطي الوجود الصيني في بحر العرب.

وبعد هذا الاستعراض للتصارع الدولي للسيطرة على الموانئ والقواعد البحرية نصل إلى تأثير ذلك الصراع على الوضع في العراق، ومن المعلوم أن الموانئ العراقية تعدُّ صغيرة مقارنة بالموانئ المحيطة بالمنطقة، ويمتلك العراق في البصرة موانئ بحرية تجارية وصناعية تطل على الخليج العربي مثل: أم قصر، وخور الزبير، وأبو فلوس، والمعقل وجميعها لا يتجاوز عمقها 13 متراً، أي إن أعماقها متوسطة. وتضم البصرة أربعة موانئ أخرى فضلاً عن ميناءي المعقل والفاو، ففي عام 1965 أنشئ ميناء أم قصر، وشهد عام 1989 إنجاز مشروع بناء ميناء خور الزبير الذي يحتوي على أرصفة صناعية ومخازن لخامات الحديد والفوسفات وسماد اليوريا، وفي عام 1976 أنشئ ميناء أبو فلوس على الضفة الغربية لشط العرب ضمن قضاء أبي الخصيب، ويعدُّ حالياً من أنشط الموانئ التجارية على الرغم من صغر مساحته، وعدم قدرته على استيعاب البواخر الكبير.

ومن خلال دراسة الخرائط للتجارة الدولية نجد أن موقع العراق يقع في عقدة خطوط الموصلات، فكل طرق التجارة البرية بين الشرق والغرب تمرُّ حتماً من خلاله، وأن خطوط الغاز المستقبلية سواء أكانت ضمن مشروع نورث ستريم الروسي أو مشروع نابكو الأمريكي تمرُّ خلاله أيضاً، وأن مشروع مد أنابيب الغاز القطرية إلى أوروبا عبر تركيا يجب أن تمر من خلال العراق بحيث إن الاستثمار الصحيح لهذا الموقع يمكن إن يحول البلاد إلى أهم بقعة على وجه الكرة الأرضية، فالاستثمار القائم على أسس علمية يمكن أن يغيّر من خارطة النقل البحري العالمية؛ لأنه سينقل البضائع من جنوب شرق آسيا إلى أوروبا عبر العراق بالاستثمار في إنشاء القناة الجافة التي يمكن أن تتكون من خطوط سكك حديدية، وطرق مواصلات سريعة لنقل البضائع بدلاً عن قناة السويس، بحيث يتم الربط السككي بين الموانئ الإيرانية والموانئ العراقية إلى الحدود السورية في ربيعة، ليمرَّ في الأراضي السورية وصولاً إلى الرابط بالمنفذ الحدودي التركي مع سورية، بطول متباين يتجاوز 1120 كيلومتراً؛ وبذلك فإن الهدف كبير وتكاملي ليتعزز الربط مع الشبكة العالمية للسكك الحديد داخل الحدود التركية؛ لذا يجب الإسراع في إنشاء ميناء الفاو الكبير الذي سيؤدي إلى تقليص دور ميناء جبل علي حيث إن الربط السككي بين ميناء تشابهار الإيراني والربط مع ميناء جوادر الباكستاني سيوفر بديلاً برياً رخيصاً عن النقل البحري المكلف عبر ميناء جبل علي الإماراتي، أو ميناء حمد القطري، وحتى ميناء مبارك الكويتي، ولعلَّ هذا الأمر يفسر حجم التآمر الذي يتم لتعطيل إنشاء ميناء الفاو الكبير، بل إن الأمر وصل إلى محاولة الحصول على عقود استثمار للموانئ العراقية من قبل شركة موانئ دبي الذي يُخشى في حال حصوله على إصابة الموانئ العراقية بما أُصيب به ميناء عدن.

وكانت آخر محاولة للتأثير على مشاريع التطوير العراقية هو المشروع (الكارثي) الذي أعلنته وزارة النقل العراقية، وهو مشروع حفر قناة من الخليج إلى محافظة النجف، وهو المشروع الذي إن تم تنفيذه فسيؤدي إلى تدمير الأراضي الزراعية في المنطقة ما بين البصرة والنجف التي هي أكثر الأراضي الزراعية في العراق خصوبةً، فضلاً عن تدمير خزين المياه الجوفية في منطقة جنوب العراق التي تعاني أصلاً من فقر مائي نتيجة لحتمية تسرب مياه البحر المالحة إلى المياه الجوفية، فضلاً عن عدم الجدوى الاقتصادية للمشروع؛ كون رفع مياه الخليج التي تقع في المنطقة الواطئة إلى المنطقة المرتفعة في النجف يجعل من المشروع لا يجدي نفعاً، وسيضيّع على العراق مصدراً للثروة يعادل في أهميته الثروة البترولية، أي: مشروع القناة الجافة الذي سيساعد على تأمين إيرادات كبيرة تخدم ظرف العراق الحالي وستجعل منه عنصراً فاعلاً ومؤثراً في السياسة الدولية.