د. رفيف أياد حسن/ جامعة النهرين
تواجه كثير من البلدان، على اختلاف أيديولوجياتها ودرجات تقدمها الاقتصادي، ظاهرة انحراف بعض نشاطاتها الاقتصادية عن مساراتها الصحيحة نحو قنوات غير ظاهرة للإدارة الاقتصادية. وقد عُرفت هذه الظاهرة بالمعاملات المالية الدولية في الاقتصاد الخفي، التي تمثل جزءاً من الاقتصاد المخفي عن مرأى السلطات، وذلك لتجنب الضرائب والأنظمة والقوانين، أو لأن السلع والخدمات التي ينتجها تكون غير قانونية. ولأن النشاط الاقتصادي الخفي لا يكون معلناً، فقد تم حذفه من إجمالي الناتج المحلي الخام. ويوجد شبه اتفاق بين دارسي الاقتصاد الخفي على أن هذه الظاهرة تشترك فيها دول العالم كافة، المتقدمة منها والنامية.
إنَّ مفهوم المعاملات المالية في الاقتصاد الخفي من المفاهيم التي طُرِحت في السنوات الأخيرة، من خلال انقسام النشاطات الاقتصادية في دول العالم إلى نشاطات رسمية (مُعلنة) ونشاطات غير رسمية (غير مُعلنة)، وهي التي تكون ضمن هذا الاقتصاد الخفي. وقد استعمل الباحثون مفاهيم عديدة في التعبير عن هذا القطاع من الاقتصاد، مثل: الاقتصاد التحتي، والاقتصاد الأسود، والاقتصاد غير المرئي، والاقتصاد المغمور، والاقتصاد السفلي، والاقتصاد غير الرسمي، والاقتصاد الثاني، والاقتصاد غير المسجّل، والاقتصاد المقابل، وأخيراً الاقتصاد الخفي واقتصاد الظل. ويرجع هذا التعدّد والتنوع في مسمّيات هذا المفهوم إلى تعدد المداخل والأيديولوجيات التي سعت إلى تعريفه، مما جعل مفهومه يختلف من باحث إلى آخر بحسب تقويمه للنشاطات التي تُمارس في هذا الاقتصاد، إضافةً إلى انتشاره في دول العالم كافة على اختلاف أنظمتها. وتوجد تعريفات مختلفة للتدفقات المالية غير المشروعة، لكنها تنشأ أساساً من الأساليب والممارسات والجرائم التي تهدف إلى تحويل رأس المال إلى خارج الدولة بما يتعارض مع القوانين الوطنية أو الدولية.
لقد حقق تطوّر الاقتصاد العالمي والعولمة مكاسب هائلة في الرفاه الاقتصادي، لكن هذا التطور احتوى دائماً على مخاطر، من بينها الإرهاب وارتفاع عدد الهجمات الإرهابية على مستوى العالم، فضلاً عن الفساد المالي والحروب الأهلية وتصاعد مستويات الفقر. . . إلخ.
واليوم، تعتمد مكافحة التدفقات المالية غير المشروعة على جودة القوانين واللوائح الوطنية وتنفيذها، ومدى امتثالها لأفضل الممارسات الدولية. ففي كل عام، يتم تحويل مبالغ كبيرة من المال من البلدان النامية بشكل غير قانوني، وهذه التدفقات المالية غير المشروعة تهدر الموارد التي كان يمكن استخدامها لتمويل الخدمات العامة التي تحتاج إليها مجتمعات تلك البلدان، متمثلة بالأمن والعدالة الاجتماعية والخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم. وهنا تؤدي تلك التدفقات إلى إضعاف الأنظمة المالية والإمكانيات الاقتصادية لتلك الدول.
وتحدث مثل تلك الممارسات في جميع البلدان، وهي بلا شك ضارة من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية، ويكون تأثيرها أشد على البلدان النامية بالنظر إلى مواردها الأصغر وضعف أسواقها، فضلاً عن طبيعة الأنظمة السياسية القائمة فيها.
وتتفاوت الدول فيما بينها في أحجام اقتصادات الظل بداخلها، وينطبق الحال على الدول المتقدمة والدول النامية. وإذا تزايدت في الأخيرة، فهذا لا يعني أن البلدان المتقدمة قد قضت على هذا النوع من الاقتصادات، وهو ما دفعنا إلى التركيز على بعض الدول في قارات مختلفة لتكون نموذجاً للدراسة من أجل إدراك حقيقة تلك الاقتصادات وأحجامها، والتي تتفاوت سنوياً وتبعاً لمتغيرات عدة.
لقد انعكس التطور العلمي والتكنولوجي الذي يشهده العالم بشكل مباشر على مختلف المعاملات المالية الدولية، المشروعة منها وغير المشروعة.
وقد سهل التطور التقني ورقمنة المعاملات المالية الدولية كثيراً من العمليات المالية، إلا أنه في الوقت نفسه تسبب في تعقيد تتبع حركات رؤوس الأموال، وخصوصاً أن كثيراً من الدول قد حاولت إخفاء حركة رؤوس الأموال وعدم شفافيتها، محاولة بذلك تحقيق الأرباح المتحققة من الأموال المهربة من تلك الدول. ومن ثم، فقد ساعد التطور الرقمي كثيراً في شرعنة حركة رؤوس الأموال وانتقالها من اقتصاد إلى آخر.
قد تنوّعت المعاملات المالية الدولية في ظل الرقمنة، وبالمقابل ازدادت الأزمات المالية وتنوّعت أشكالها، وهو الأمر الذي يتطلب أن تكون هناك سبل لمواجهتها إقليمياً ودولياً، ما فرض نمطاً جديداً داخل منظومة العلاقات الاقتصادية الدولية، يتمثل في عقد الاتفاقيات والالتزام بالتعهدات الدولية، وفرض العقوبات الاقتصادية على الدول المخالفة أو التي لا تلتزم بالمواثيق الدولية.
جدير بنا أن نذكر أنه في ظل تنوّع المعاملات المالية الدولية غير المشروعة، نشأت أساليب متنوعة للتهرّب من العقوبات الاقتصادية، أو الملاحقة القانونية، أو التتبع من قبل المنظمات والمؤسسات الدولية.
تعالج الدراسة إشكالية تأثير ظاهرة المعاملات المالية الدولية داخل الاقتصاد الخفي في ظل تشابك العلاقات الاقتصادية والمالية وتنوّعها، وصعوبة تقدير حركتها وتناميها بسرعة، فضلاً عن فهم انعكاسها على الاستقرار السياسي والاقتصادي.
فالدراسة تهدف إلى تسليط الضوء على حجم المعاملات المالية الدولية وتطورها داخل الاقتصاد الخفي وتنامي الأخير داخل النظام الاقتصادي العالمي، فضلاً عن اتساع ظاهرة المعاملات المالية الخفية وتنوّع انعكاساتها السياسية والاقتصادية في الدول المتقدمة والنامية. كما تستهدف الدراسة كشف العلاقة بين الاقتصاد الخفي والعديد من الظواهر المالية والاقتصادية السلبية داخل المجتمعات.




