د. علي دعدوش
الملخص التنفيذي
تمثل البصرة اليوم واحدة من أكثر المدن العراقية ثراءً على مستوى الدخل الفردي، مقابل واحدة من أكثرها تدهورًا في البنى التحتية للمياه. وخلال زيارة ميدانية للمحافظة بتاريخ 13 تشرين الثاني 2025، تبرز المفارقة بشكل واضح حيث شوارع مزدحمة بالسيارات الفارهة، مطاعم وأسواق ممتلئة، حركة تجارية متدفقة، وفي المقابل مياه شديدة الملوحة تصل إلى المنازل بدرجات تتجاوز في بعض الأيام 10,000 – 20,000 TDS (وهي درجة غير صالحة للاستخدام البشري).
وقد زادت حساسية هذا الملف مع قيام الحكومة الاتحادية بإطلاق إجراءات وبرامج لتحلية المياه، بعضها دخل مرحلة التنفيذ، وبعضها ما زال متعثراً. ويلاحظ على الرغم من إطلاق الحكومة الاتحادية مشاريع تحلية كبرى خلال السنوات الأخيرة – مثل مشروع البصرة الكبير للتحلية (RO) ومشروع تحلية الفاو وإطلاقات المياه الإضافية – إلا أنّ الأزمة بقيت من دون حل جذري بسبب:
- ضعف الإدارة متعددة المستويات
- تعدد الجهات المسؤولة عن ملف المياه
- التلكؤ الفني والمالي
- غياب نماذج التشغيل والصيانة الحديثة
- استمرار الشبكات القديمة المتضررة
تشرح هذه الورقة أسباب هذا التناقض، الذي يعود إلى مزيج من العوامل:
- اقتصادية: هيمنة الريع النفطي وارتفاع الدخول غير الخاضعة للضريبة.
- بيئية – فنية: انخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات وتقدم اللسان الملحي.
- مؤسسية – إدارية: تشتت الصلاحيات، وضعف الإدارة، وتضخم عقود المقاولات.
- اجتماعية – سلوكية: توسع الاستهلاك الترفي مقابل ضعف الضغط الشعبي المنظم لتحسين الخدمات.
وتقترح الورقة خمسة حلول عملية تشمل: إنشاء سلطة مائية موحدة في البصرة، إصلاح التعاقدات، ربط محطات التحلية بالطاقة الشمسية، فرض ضريبة على السلع الترفيه لتمويل مشاريع المياه، وتقليص الاقتصاد غير الرسمي.
المقدمة
تُعد البصرة مركز الثقل النفطي للعراق، ومصدر أكثر من 85% من صادرات النفط الخام، (أكثر من 98% بعد توقف صادرات النفط عبر جيهان) ما يجعلها الأعلى دخلًا بين المحافظات. ورغم هذا الثراء، تعاني المدينة من أزمة مزمنة في المياه، حيث تتكرّر موجات اللسان الملحي كل عام تقريبًا، وتصل مستويات الملوحة إلى حدّ يهدد الزراعة والصحة العامة ويخلق حالة عدم رضا مجتمعي.
هذا التناقض بين رفاه فردي مرتفع وخدمة مائية متدهورة يستحق تحليلًا معمقًا، لأنه يعكس خللًا بنيويًا في نمط التنمية في المحافظة، وفي العلاقة بين الاقتصاد المحلي والبنية المؤسسية والخدمات العامة.
أولًا: رفاهية الأفراد في البصرة
- ارتفاع القوة الشرائية الفردية
أ. الاقتصاد الريعي النفطي تمثل البصرة مركز الإنتاج والتصدير النفطي للعراق. حيث يتولد عنها عدد كبير من الوظائف المباشرة وغير المباشرة، خصوصًا في شركات الخدمة النفطية، الحراسات، النقل، التجارة، والخدمات اللوجستية.
وتصل رواتب العاملين في الشركات النفطية الكبرى (Shell, BP, ENI) ما بين (2,000 – 10,000) دولار شهريًا.
بالإضافة الى تعويضات السكن والمخاطر والنقل تُضخ يوميًا في السوق المحلي بمبالغ كبيرة.
ب. تدفقات مالية غير رسمية
- عمالة غير مسجلة في العقود الثانوية.
- أرباح التجارة والاستيراد عبر الموانئ.
- تحويلات تجار البصرة العاملين في الخليج وتركيا.
ج. توسع التجارة والاستيراد حيث تعد البصرة مركز دخول البضائع عبر الموانئ، كما ان منفذ أم قصر والموانئ التجارية جعلت من المحافظة مركز استيراد وبيع ضخم يرفع الدخول ويخلق دورة استهلاكية قوية.
- ملف السيارات الفارهة والاستهلاك الترفي
أثناء الزيارة، لوحظ انتشار لافت للسيارات الحديثة والفارهة (Land Cruiser، BMW، Range Rover وغيرها من الشركات الفارهة) طراز 2025، وتزايد معارض السيارات الكبيرة على الطرق الرئيسة. ويرجع ذلك إلى:
- ارتفاع الدخل النقدي غير الخاضع للضريبة.
- توسع الاقتصاد غير الرسمي.
- ثقافة استهلاك تُعد السيارة رمزًا للمكانة الاجتماعية.
- سهولة الاستيراد عبر المنافذ البحرية.
هذا النمط الاستهلاكي يعكس رفاهًا فرديًا سريعًا لكنه غير مستدام، لا ينعكس على البنى التحتية العامة.
ثانيًا: ملف المياه في البصرة
- الأسباب الفنية
- تراجع الإطلاقات المائية من دجلة والفرات.
- تقدم اللسان الملحي من شط العرب لمسافة وصلت في بعض الأعوام إلى 120 كم.
- قدم شبكات الإسالة واعتماد محطات ضخ مكشوفة.
- تآكل الأنابيب وتهرب المياه بنسبة تتجاوز 35–40%.
- الأسباب البيئية
- تغيّر المناخ وارتفاع الحرارة (تجاوزت 52° في ذروة الصيف).
- ازدياد التبخر وانخفاض الأمطار.
- سحب المياه بصورة غير منظّمة للأغراض الزراعية.
- الأسباب السياسية والمؤسسية
- مركزية القرار المائي في بغداد.
- تضارب الصلاحيات بين المحافظة والوزارات.
- ضعف المفاوضات حول الحصص المائية مع دول الجوار.
- غياب إدارة موحدة للنظام المائي في المحافظة.
ثالثًا: مفارقة ملوحة المياه والمشاريع الحكومية
رغم إنفاق مليارات الدنانير على مشاريع المياه، إلا أن البصرة ما تزال تواجه أزمة مستمرة. ويمكن تلخيص أكبر المشاريع كالتالي:
- مشروع ماء البصرة الكبير RO: وهو مشروع استراتيجي لسحب المياه العذبة من منطقة البدعة. تضمن خطوطًا ناقلة ومحطات ضخ وتصفية. ورغم أهميته، واجه مشكلات كبيرة:
- تأخر التنفيذ.
- انخفاض طاقته التصميمية مقارنة بالنمو السكاني.
- مشاكل في نوعية المياه عند المصدر.
- مشروع تحلية مياه البحر في الفاو: وهو مشروع مصمم ليكون أكبر مشروع تحلية في العراق، لكنه متعثر منذ سنوات بسبب (التمويل. تباين الجهات المنفذة. الخلافات بين الحكومة الاتحادية والمحلية).
- مشكلة التشغيل والصيانة حيث ان العديد من مشاريع المياه تفتقر إلى:
- فرق صيانة متخصصة.
- نظام إدارة متكامل.
- آليات تشغيل مستدامة.
- الفساد والتعاقدات الثانوية وتتمثل بتضخيم كلف المشاريع وتعدد جهات التنفيذ يؤديان إلى:
- تأخر الإنجاز
- ضعف الجودة
- توقف المشاريع عند أول مشكلة مالية أو إدارية.
رابعا: تحليل مفارقة ظهور السيارات الفارهة مع وجود ملوحة المياه
تفسير المفارقة يستند إلى ثلاثة محاور:
- عدم الارتباط بين الرفاه الفردي وجودة الخدمات العامة
ان الدخل في البصرة فردي وليس جماعي حيث (الأفراد أغنياء – المؤسسات فقيرة او ضعيفة). كما ان الثراء لا يتحول إلى ضغط سياسي منظم لتحسين شبكات المياه.
- ضعف الحوكمة في قطاع المياه
حيث يلاحظ تعدد الجهات: (الحكومة الاتحادية، الحكومة المحلية، البلدية، الموارد المائية، البيئة) … الخ.
كما ان عقود المقاولات فيها شبهات فساد وعقود ثانوية مبالغ بأسعارها. فضلا عن غياب إدارة موحدة للنظام المائي في المحافظة حال دون حلحلة المشكلة.
- توسع الاقتصاد غير الرسمي
يولد العمل في هذا المجال دخولًا عالية غير خاضعة للضريبة. وهذه الدخول ترفع الطلب على السلع الفارهة، دون أن ترفد الإيرادات الحكومية اللازمة لتحسين البنية التحتية.
خامسا: التداخل بين الاقتصاد المحلي والفساد والاقتصاد غير الرسمي: المفارقة التنموية
يلعب الاقتصاد غير الرسمي في البصرة دورًا كبيرًا في تشكيل أنماط الرفاه. كما ان جزء من العمالة المرتبطة بالقطاع النفطي تعمل في عقود ثانوية لا تخضع للرقابة. فضلا عن وجود فساد الإداري يؤدي إلى:
- الرفاه الفردي لا يتحول إلى ضغط سياسي حيث ان دخل الأفراد مرتفع لكن المؤسسات فقيرة. بمعنى ان الرفاه الخاص لا يُترجم إلى مطالب جماعية لتحسين الخدمات.
- فجوة الحوكمة بمعنى تعدد الجهات المسؤولة يجعل (المسؤولية ضبابية والمحاسبة ضعيفة والمشاريع متعثرة).
- الاقتصاد غير الرسمي، اذ يلاحظ بان ارتفاع الدخول غير الرسمية يرفع الاستهلاك، لكنه لا يولد إيرادات حكومية لتحسين البنية التحتية.
خامسًا: رؤية سياساتية لمعالجة ازمة المياه
- إنشاء سلطة مائية موحدة في البصرة تضم الموارد المائية، البلدية، البيئة، وشركات التحلية، وخبراء مستقلين.
- إصلاح التعاقدات الحكومية ومنع المقاولات الثانوية، واعتماد عقود EPC وBOT وفق معايير جودة حقيقية.
- ربط محطات التحلية بالطاقة الشمسية لتخفيف التكلفة التشغيلية وتحسين استدامة المشاريع.
- فرض ضريبة على السلع الترفيه عبر تخصيص مباشرة لصندوق تحسين خدمات المياه.
- تقليص الاقتصاد غير الرسمي من خلال تسجيل العمالة وتنظيم الأسواق، مما يعزز موارد الدولة ويزيد الإنفاق على البنى التحتية.
الخاتمة
البصرة اليوم ليست مجرّد مدينة تعاني مشكلة مياه؛ بل نموذج كامل لخلل تنموي حيث تتشكل رفاهية فردية عالية فوق بنية خدماتية هشة.
ولكي تتجاوز المحافظة هذه المفارقة، تحتاج إلى إصلاحات دقيقة، تجمع بين الإدارة الموحدة للمياه، والشفافية في التعاقدات، وإعادة هيكلة الاقتصاد المحلي، وربط الرفاه الخاص بمشاريع تنمية جماعية. حيث إن معالجة أزمة ملوحة المياه ليست مسألة تقنية فقط.. بل قرار تنموي شامل يعيد تعريف علاقة البصريّ بدخله وبخدماته وبمستقبل مدينته.




