د. عدنان صبيح ثامر- باحث في الانثروبولوجيا
أثبتتِ الأزمة التي مرَّ بها العراقيُّون يوم 29-8-2022، والاقتتال المسلَّح الذي استمر أربع وعشرون ساعةً بعد سلسلة من الأحداث والصراع الخطابي، الذي بلغ ذروته منذ (10) شهور، تكمن ثيمة ذلك الصراع بين مَن يقول بالشرعية الدستورية القائمة على الانتخابات، وبين مَن يربط الحكم بالجمهور، وحصر معادلة الشرعية عن طريقه، معادلة يثبت تجاذباتها هو الفهم الخاطئ للعلاقة بين الجمهور والديمقراطية، والشرعية والانتخابات. مفاهيم تُرْجِمَت وَفْق مصالح تسير بها إلى طريق أوقع العراقيين في اقتتال كاد أن يحرق الجميع؛ لولا إلجامها بيومها الثاني، وانسحاب الصدريين بعد دعوة زعيمهم للانسحاب، إلَّا أنَّ السير بالنهج نفسه قد ينتج أحداثاً مشابهة، ولعلَّها ستكون أخطر على النظام السياسي الحالي.
تعود بداية الأزمة إلى ما بعد نتائج انتخابات (2021م) بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، إذ يتبادل الطرفان التلويحَ بالقوة الشعبية والوسائل الديموقراطية، فبدأها الصدريون بالحديث عن نتائج الانتخابات، وهي الديموقراطية التي يجب الاحتكام عندها، قابله الإطار بالتلويح بالجمهور كصاحب الحق الأول الذي يجب عدم التنازل عن حقِّه، ثمَّ انقلبت الرؤية بعد انسحاب الصدريين، فأصبح الصدر مهدداً بالقوة الشعبية، ويدعو بأنَّها صاحبة الشرعية، يقابله الإطار الذي يرى بأنَّ الديمقراطية تتمثَّل بما أنتجه التمثيل النيابي الحالي.
والحقيقة أنَّ الرأيين لا يمثِّلان الصحَّة الكاملة بأيِّ المرحلتين؛ فلا الانتخابات تمثِّل الديمقراطيّة، بل هي أداة من أدواتها، ولا حكم الجمهور يمثِّل الشرعية، فتلك عبارات استقتها دول العالم الثالث من الديمقراطية الحقيقية التي تعتقد بمجرد وجود انتخابات يعني بأنَّها حقَّقت الديموقراطية، علماً أنَّ كثيراً من الدول الديكتاتورية تقيم انتخابات دورية، فلا يعني أنَّها تحوَّلت إلى ديموقراطية، بل هناك دول يحكمها حزب واحد تجري انتخابات، فالانتخابات أداة من أدوات الديموقراطية، وهناك عدد من الشروط أهمها تقبُّل الجميع للانتخابات وَفْق مبادئ اتُفِقَ عليها، فضلاً عن مستوى ثقة الجمهور بالانتخابات وآلياتها، ودرجة المراقبة عليها، ونزاهتها وشفافيتها.
واحدة من المشكلات التي وقعت فيها القوى الماسكة للنظام السياسي في العراق هو التوقُّع الدائم أنَّ الديموقراطيّة تعني الانتخابات، وأنَّ ذلك التوقُّع تسرَّب إلى فئات كثيرة من الشعب منذ أول انتخابات أُجْرِيت في عام (2004م)، إذ ملأتِ الأفراح الشوارع، وهلهلت القنوات الفضائية، بدخول العراق في السياق الديموقراطي، وتناسوا أنَّ الانتخابات آلية من آليات الديموقراطية، تتطلَّب عدداً من الشروط؛ لتكون تلك الآلية ممثلة أهمها: هو يجب أن تؤول إدارة البلاد للذين انْتُخِبُوا فعلياً، بل ويكون القرار تاماً للمنتخبين.
ولم تكن تلك المشكلة خاصة بالعراق، بل أنَّ عديداً من الدول تمارس الآلية الانتخابية، إلا أنَّ هناك قراراً فوق المنتخبين كالدول الخليجية ذات النظام الملكي، التي يكون فيها الملك صاحب قرار يتجاوز قرار المنتخبين، وهناك دول فيها زعامات روحية تتحكَّم في التشريعات، وتوجِّه الأمة إلى قضايا بعينها من دون موافقة الأعضاء التنفيذيين المنتخبين من قبل الجمهور.
بعد خروج العراق من نظام شمولي يتحكم في جميع القرارات، ارتبط الجمهور ذهنياً بالسلطة؛ لأنَّها المسؤول عن إدارة الدولة في تشكيلاتها المختلفة؛ ولذا فإنَّ تعدُّد القرار لزعماء حاكمين تحت مسمَّى الوجود السياسي غير المرتبط بالانتخابات ذلك أنَّه يضع الحاجز أمام الثقة بتلك الانتخابات، وجدوى مخرجاتها.
وأمَّا المشكلة الأخرى فهي تتعلَّق بفهم الديموقراطية على أنَّها حكم الجمهور، وهذا الفهم استثمرته الأطراف المختلفة في أنَّ الجمهور هو الحاكم، أو القدسية للجمهور، متوارثين من حيث لا يعلمون مفاهيم رسَّختها الأنظمة الشمولية بدواعي الثورة وشرعية الجمهور، حتى إن تغيَّرت دلالته فأصبح حكم الجمهور عن طريق الانتخابات، غير أنَّ الحقيقة تقول إنَّ شرعية الجمهور في النظام الديموقراطي يجب أن تكون قائمة على عقد اجتماعي يضمن موافقة الجميع ويعطيها الشرعية، وبخلافه فإنَّها تُعْطِي مكانة أكبر للسلطة وزعمائها، بشرعية أنتجوها عن طريق السلطة والتنافس عليها، من دون توفر لآلياتها التي تجعلها سلطة ديموقراطية.

لقراءة المزيد اضغط هنا