كانت سورية البلد الوحيد تقريباً الذي أعلن تأييده لـ «العملية العسكرية» الروسية في أوكرانيا، منذ اليوم الأول لها، فيما دعت المعارضةُ السورية الغربَ للرد على روسيا في سورية، وطلبت منه الدعم بالمال والسلاح ضد دمشق. وبرز استقطابٌ حاد نسبياً بين السوريين بشأن الأزمة، بين من عدَّها فرصة يجب اغتنامها، ومن عدَّها تهديداً يجب احتواؤه؛ ولو أنَّ القراءة المعمقة تُظهر أنَّهم عَدُّوها «فرصة وتهديداً» في آن واحد!
ينطلق التحليل من وجود «ترابط موضوعي»، و«تأثير متبادل» بين الأزمتين الأوكرانية والسورية، بوصفهما ساحتين للمنافسة والصراع بين روسيا والغرب، ربَّما أكثر منهما أزمتان محليتان أو داخليتان! ومن أنَّ الحرب ليست خياراً اعتيادياً بين روسيا وأمريكا. وقد أظهرت التجربة السورية منذ حدث العام 2011 والحرب التي تلته، إمكانية أن تسير التناقضات بينهما بقدر من الضبط والانضباط والرغبة في التفاهم. وحقَّق كلٌّ منهما مكاسب مهمة فيها.
وكان بإمكان التجربة السورية أن تمثِّل «إطاراً» أو «منوالاً» للتفاعل بينهما في أوكرانيا. لكن هذا لم يحدث حتى الآن، ولو أنَّ من المحتمل أو المرجَّح أن يعودا إليه، في أوكرانيا، وألَّا يغادراه في سورية، هذا بافتراض قراءة عقلانية للموقف من قبل فواعل السياسة وصنع القرار في موسكو وواشنطن.
ومثلما برزت مؤشرات على تطبيق خبرة الحرب السورية ودروسها في الحرب الأوكرانية، لجهة: تكتيكات الإعلام والدعاية، ووسائط الاتصال والتواصل الاجتماعي، والعمليات العسكرية، وسياسات النزوح واللجوء، والحصار والعقوبات، ودور الشبكات دولية النشاط، والمقاتلين الأجانب، وكل ما يُعرف بتكتيكات «الحرب الهجينة» وأدواتها؛ فقد برزت بالمقابل أسئلة وتقديرات حول منعكسات أو تأثيرات ممكنة أو محتملة للأزمة الأوكرانية على سورية، لجهة عدِّها: ساحة «مواجهة موازية»، والتراجع عن «التفاهمات الإطارية» بين روسيا وأمريكا حولها، و»إعادة إنتاج» الحرب فيها، وتسعيرها، ومضي كل طرف في رهاناته القصوى إزائها؛ أو ساحة «مفاضلة» بينها وبين أوكرانيا، أو ورقة «مساومة» محتملة في أي عملية للحل أو التسوية بين روسيا وأمريكا.
ومثل أي قراءة أو تحليل، يركِّز هذا النص على نقط أكثر من غيرها: روسيا وأمريكا بوصفهما فواعل رئيسة في الحدثين أو الأزمتين الأوكرانية والسورية؛ وتأثيرات الأزمة في أوكرانيا على الأزمة السورية في الجوانب السياسية والإستراتيجية، أكثر من الجوانب الاقتصادية، على أهمية الأخيرة؛ والمقاربة المركَّبة من منظور التهديد -الفرصة بالنسبة للنظام السياسي والدولة في سورية، والإشارات والتنبيهات حول الاستجابات الممكنة من قبل سورية وعدد من دول المنطقة -خصوصاً العراق وإيران- إزاء الأزمة.
أولاً- بين المواجهة والمفاضلة
لا تفضِّل روسيا وأمريكا الدخول في مواجهة مباشرة بينهما في أوكرانيا أو غيرها؛ بسبب وجود إكراهات كثيرة، منها أخطار الانزلاق إلى حرب كبرى من الصعب التنبؤ بمآلاتها، ومن ثَمَّ فإنَّ الطرفين مضطرَّانِ لاتباع سياسات مواجهة مركبة، لكنَّها غير مباشرة:
روسيا، بالمضي في العملية العسكرية لحين تحقيق عدة أهداف تتركز في: حياد أوكرانيا، ونزع سلاحها، وضمان مصالح روسيا فيها.
وأمريكا، بالمضي في دعم أوكرانيا، وتحويل التدخل العسكري الروسي فيها إلى «حرب استنزاف»، وتعزيز الحصار والخنق الاقتصادي، والإجهاد الأمني والعسكري، والعزلة السياسية.. إلخ.
أمَّا ا يتعلَّق بالمنعكس المحتمل للأزمة بين روسيا وأمريكا في أوكرانيا على الأزمة السورية؛ فيمكن الإشارة إلى مستويين أو نمطين محتملين رئيسينِ لذلك، الأول: هو عَدُّ سورية ساحة مواجهة وتوريط، أو مستنقع يحاول كل طرف أن يغرق به الطرف الآخر، الثاني: هو عدِّها ورقة، أو ساحة مساومة، أو مفاضلة.
«أفغانستان أخرى»!
أن تكون سورية ساحة مواجهة جانبية أو موازية، لكنَّها غير مباشرة، ويمكن لكل طرف أن يدَّعي قدرته على تحويلها إلى «أفغانستان أخرى «للطرف الآخر، إذ إنَّ «الدرس الأفغاني» ماثل لدى كل منهما، وإن لم يكونا سواء. وهكذا، فإنَّ التقديرات التي تركِّز على قدرة أمريكا وحلفائها على جعل سورية بمنزلة «أفغانستان أخرى» لروسيا، واستثناء أمريكا من ذلك، أي: استثناء قدرة روسيا على جعلها كذلك لأمريكا، هي تقديرات غير دقيقة.

لقراءة المزيد اضغط هنا