أدورد أوراها: باحث في الشأن السياسي.

انشغل العالم مؤخراً باتفاقيات التطبيع التي وقعتها إسرائيل مع دولتي الإمارات العربية المتحدة والبحرين، وهذا حدث يعد من أهم الأحداث السياسية في المنطقة إن لم يكن أهمها منذ اندلاع ما عرف بـ(الربيع العربي)، وقد تناولته المنابر الإعلامية والسياسية بالتحليل والتهليل والنقد والتهجم والتعظيم أو التقزيم كل حسب هواه وأمنياته ومدى موضوعيته، ولكن التعاطي مع هذه الاتفاقيات انطلق في جلّه من الزاوية التقليدية لاستقراء الأحداث في إطار صراع الشرق الأوسط المزمن؛ أي: الصراع العربي الإسرائيلي (أو ما تبقى منه)، والصراع الإيراني الإسرائيلي (وهو كذلك لم يتبق منه الكثير لأسباب قد نمر على ذكرها في التالي من السطور)، لكن هل هناك لاعبون آخرون على ساحة الشرق الأوسط ممن ستطولهم رياح التأثر بالمناخ السياسي الإقليمي والدولي الجديد؟

للإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإدراك أن إسرائيل هي القطب الرئيس في معادلات الشرق الأوسط في مقابل أقطاب متعددة تتفاوت في مساحة تأثيرها ودورها وفاعليتها السياسية؛ وبالتالي يكون من المنطقي أن يتم التحليل انطلاقاً من قاعدة كيف سيدير هذا القطب الملفات المتعلقة والناتجة عن اتفاقيات التطبيع (سواء كانت هذه الملفات تضم فرصاً أو تحديات).

من الناحية العسكرية تصنف إسرائيل على أنها تمتلك جيشاً  متمرساً فعالاً ذا خبرة قتالية وعقيدة قتالية أحد مبادئها تأمين العمق الإسرائيلي، وتكوين مناطق عازلة، وقد احتفظت إسرائيل بموقعها الثامن عشر على قائمة ترتيب القوة العسكرية في العالم حسب موقع Global Fire Power لعام 2020، في الوقت الذي ارتفع فيه تصنيفة الإمارات إلى الترتيب الخامس والأربعين لعام 2020، في حين هبطت البحرين في الترتيب الثالث والتسعين لعام 2020، وكما نعلم فالإمارت مرهقة عسكرياً بمغامرتها في اليمن التي لم تأت رياحها بما اشتهته السفن الإماراتية، وما يصح على الإمارات يصح بالأحرى على البحرين.

في ضوء الفارق في القدرات العسكرية والخبرات القتالية فالدولتان الخليجيتان لا تشكلان تهديداً فعلياً لإسرائيل ولم تشاركا قتالياً في أي حرب ضدها، وبالأخذ في الحسبان العقيدة القتالية الإسرائيلية القائمة على تأمين العمق، والسيطرة على المحيط الجغرافي، وإقامة مناطق عازلة. وكونها لا تؤمن بالقفز على الموانع الجغرافية، فلا نجد مردوداً كبيراً لهذه الاتفاقيات من الناحية العسكرية.

وما لم تقم به هاتان الدولتان قتالياً فقد قامتا به اقتصادياً من خلال وقفهما لتصدير النفط إلى إسرائيل والدول الداعمة لها (الولايات المتحدة الأمريكية بنحو خاص)؛ وبالتالي شكلت ضغطاً غير مباشر على إسرائيل، وهذا مؤشر على التحديات التي تقوم بغياب اتفاقيات تطبيع والفرص التي تأتي مع وجود تلك الاتفاقيات، وهذه الاتفاقيات ستكون متعددة الأبعاد، وهنا سنتناول بعدين يحملان قدراً كبيراً من الأهمية في المنطقة، هما: البعد العراقي، والبعد التركي.

البعد العراقي

مركزياً.. تعج الساحة العراقية بوكلاء الجوار الإقليمي بشتى تصنيفاته فما بين وكلاء تركيا ووكلاء إيران ووكلاء الخليج السني أو القطري المتقارب مع إيران فمن المتوقع أن ترشح تداعيات التطبيع، وتجد أرضية لها في العراق، وبشكل يعمق التصدعات بين الفرقاء فكلٌّ سوف ينساق في اتجاه ظهيره الخارجي، فبين موالٍ لدول التطبيع وموالٍ لدول الرفض سوف تتفاعل الاختلافات بوجود عوامل مساعدة متمثلة بشارع عراقي ملتهب وضعف السلطة وعدم قدرتها على تشكل إطار ضاغط يضم الفرقاء؛ كون كل منهم يمثل امتداداً لأجندة ظهيره الخارجي، فالعراق قد يكون مقبلاً على تصعيد خطير يتواجه من خلاله والوكالة طرفان أساسيان أولهما تطبيعي متصاعد (وإن كان غير معلن في الوقت الراهن في العراق)، وطرف رافض و(أو مقاوم حسب ما يروق لمكوناته أن تصف نفسها)، وقد يتجاوز هذا التصعيد عتبة تأخذه إلى مرحلة يصعب فيها أن يتم إيقافه إلى أن يصل مداه المتمثل بانهيار ما تبقى من هيكل الدولة العراقية، فالطرف “المقاوم” قد يكون اقترب من استفاد خياراته للدمومة؛ وبالتالي سيفعل كل ما بوسعه من أجل إما استعادة شيء من قوته وإما إنهاك العراق بمجمله كي لا يكون خنجراً في خاصرة أرباب هذا التيار؛ وهذا الصراع إن حصل بهذه الصورة فسيمتد تأثيره على العلاقات الإسرائيلية الكردية كما سنتناوله لاحقاً:

 كردياً.. بناءً على ما سبق من سطور فالوضع العراقي طريقة إدارة الأزمة القائمة في العراق قد تتغير بنحو يٌفقد التفاوض السياسي العراقي-العراقي مكانته؛ وبالتالي سيفقد الطرف الكردي دوره الذي راهن عليه منذ عام 2003 إلى الآن بصفته صانعاً للحكام في العراق وصاحب دور في رسم ملامح الحكومات العراقية المتعاقبة منذ 2003؛ وبالتالي فمن المنطقي أن نفكك اللاقة الإسرائيلية الكردية في مرحلة ما بعد التطبيع انطلاقاً من معطيات اقتصادية.

تعتمد إسرائيل حالياً في احتياجاتها النفطية بنحو شبه كامل على النفط الذي يصدره الكرد في شمال العراق (تصل النسبة إلى 70%، وفي بعض الأوقات إلى أكثر من 75%)؛ وهذا يفسر الدعم الإسرائيلي للكرد وقياداتهم، وتوظيف إسرائيل لتأثيرها وتحالفاتها مع القوى الكبرى؛ من أجل تأمين حمايتهم, والحفاظ على وضعهم الراهن في مواجهة تحديات ضغوط إيران ووكلائها في السلطة العراقية المركزية, ولكن لا بد من إدراك أن المصالح والصداقات الإسرائيلية ليست زواجاً كاثوليكياً؛ بل إنها حالها حال دول العالم كافة تدير دفتها المصلحة الإسرائيلية العليا, ولاسيما في هذه الحالة أن هناك تيارات إسلامية متغلغلة في الأوساط الكردية لا تقوى الزعامات الكردية على استئصالها لتداخلها مع النسيج العشائري؛ ليشكلا أساس الزعامة القائمة (البرزانية)؛ وبالتالي فإنهاؤها يتعارض وجودياً مع ديمومة هذه الزعامة؛ وبالتالي تبقى جمرة الرفض لإسرائيل تحت رماد السلطة القائمة.

إن هذه المعطيات تجعل من مركز اللاعب الكردي كمزوّد لإسرائيل بالنفط مركزاً قلقاً عند مقارنته باللاعبين الجدد (الإمارات، والبحرين) اللتين تعدان مستقرتين اقتصادياً وشعبياً في حين أن الاضطرابات تضطرم علانية حيناً وخفية حيناً آخر في المناطق الخاضعة لسيطرة الزعامات الكردية, فالدولتان الخليجيتان تمتلكان قدرات إنتاجية أعلى، وسيوفر نفطهما وبنحو خاص الإمارات تأمينا أفضل وتكلفة؛ بعبارة أخرى: بعد أن كان الأكراد يلعبون ورقة توريد النفط إلى إسرائيل وسط دول غير مستعدة للقيام بذلك، فقد ظهرت دولتان قادرتان على توريد النفط في مناخ أكثر استقراراً, لا بل إن هاتين الدولتين قد تقدمان تفضيلات وتسهيلات في مقابل حماية أمريكية-إسرائيلية بالضد من الضغط الإيراني-التركي عليهما.

هل نشهد انحساراً للدعم الإسرائيل؛ وبالتالي الأمريكي للكرد وزعامتهم في ظل انحسار أهمية دورهم النفطي؟

البعد التركي

تؤدي تركيا حالياً (أو ما قبل التطبيع) دوراً حيوياً بالنسبة لإسرائيل من الناحية الاقتصادية، فإسرائيل تعتمد في وارداتها النفطية بالدرجة الأولى على النفط المستورد من أذربيجان والأكراد في العراق، حيث تعدّ المستورد الأول في العالم للنفط منهما، ويُنقل هذا النفط باتجاه إسرائيل عبر أنابيب تعدّ الأراضي التركية باتجاه الموانئ التركية على البحر المتوسط، ومن ثم ينقل في البواخر باتجاه الموانئ الإسرائيلية.

وفضلاً عن ذلك فحركة الشحن المتجهة من الموانئ التركية باتجاه ميناءي حيفا وعسقلان في إسرائيل حركة نشطة جداً، سواء تأتّى ذلك من حجم الصادرات والواردات بين البلدين، أو لغرض الترانزيت إذ إن نسبة كبيرة من البضائع الإسرائيلية المصدرة إلى أوروبا تمر عبر الموانئ التركية قبل الوصول إلى وجهاتها الأوروبية براً، وتأتي البضائع المتجهة من تركيا باتجاه مناطق غرب آسيا عبر إسرائيل أيضاً, ولا بد من الأخذ بالحسبان النقل الجوي, إذ تعدُّ تركيا من أهم المحطات التي تمر بها الرحلات التي تقصد إسرائيل.

 ولكن هذه الصورة قد تتغير مكوناتها وملامحها قريباً جداً, فقد بدأت بالفعل موجة من الأفكار والمشاريع والاتفاقات تأخذ مكانها على خريطة العمل والتخطيط الاقتصادي  لمرحلة ما بعد التطبيع, وقد بدأت بوادر التغيير تظهر, فقد نشرت غلوبس الإسرائيلية الخاصة المختصة بالشأن الاقتصادي على موقعها أن تل أبيب ستعرض على أبو ظبي، بناء ممر بري يربط بين إسرائيل ودول الخليج؛ ليكون حلقة وصل لنقل نفط وغاز الخليج إلى دول أوروبا وأميركا الشمالية.

يأتي ذلك بما ورد في نص اتفاق التطبيع إذ تضمن مادة تقول إن الأطراف ستعزز وتطور التعاون في المشاريع بمجال الطاقة، بما في ذلك أنظمة النقل الإقليمية؛ بهدف زيادة أمن الطاقة.

أما على صعيد النقل البحري فقد وُقّعت عدة اتفاقات بين شركتي “دوفرتاور” الإسرائيلية و”موانئ دبي العالمية” الإماراتية للتعاون في أنشطة الشحن والموانئ, وذكرت “دوفرتاور” أنها ستدخل في شراكة أيضاً مع “موانئ دبي العالمية” لتأسيس خط شحن بحري مباشر بين دبي وإيلات.

عند وضع هذه الخطوات في مقابل التوجه الذي تتخذه القيادة التركية بالتوجه نحو إيجاد نفوذ في العالم الإسلامي قائم على العداء لإسرائيل (وهذا التوجه يخلق موجة شعبية مناهضة لإسرائيل قد يمتد تاثيرها إلى أكثر من موقع الرئاسة التركية), عند وضع كل ذلك قبالة بعضه يصبح جلياً للمتابع أن البساط بدأ يسحب من تحت الاقدام التركية وأن الأوراق التي كانت توظفها في إدارة علاقتها القلقة مع اسرائيل قد بدات تحترق ورقة تلو الأخرى لصالح دول خليجية صديقة لإسرائيل أو على أقل تقدير فإن الموقف التركي لم يعد بتلك القوة بل بات -وإلى حد بعيد- موقفاً قلقاً لا تحسد عليه.

إن تأثير هذه المعطيات سينسحب إلى مركز تركيا كلاعب إقليمي مهم، وقد ينحسر هذا الدور إلى حد كبير، ولاسيما إذا كاملنا المعطيات الحالية مع الضعف الإيراني المتزايد تحت وطأة الضغوطات الاقتصادية والسياسية الناجمة عن العقوبات الأمريكية، وعمليات التطبيع.

إن صورة الشرق الأوسط قد بدأت بالفعل بالتغيير لصالح شرق أوسط جديد وما يعتبره البعض اليوم من المسلمات السياسية لن تبقى كذلك، وستحل محلها معطيات جديدة، وهذه التغييرات ستخلق فراغات وفجوات في التركيبة السياسية للشرق الأوسط المقبل, وسيملأ هذه الفراغات والفجوات من يدرك منذ الآن الأبعاد غير الظاهرة لعمليات التطبيع التي من المتوقع أن تستمر وتتصاعد.


المصادر:

  1. 2020 Military Strength Ranking. (n.d.). Retrieved from Global Fire Power: https://www.globalfirepower.com/countries-listing.asp
  2. Sheppard, D., Reed, J., & Raval, A. (n.d.). Israel turns to Kurds for three-quarters of its oil supplies. Retrieved from financial Times:

 https://www.ft.com/content/150f00cc-472c-11e5-af2f-4d6e0e5eda22

  1. العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي.. الثوابت والمتغيرات. (اغسطس, 2018). – موقع جريدة المجد الإلكترونية:http://almajd.net/2018/08/09
  2. بثينة اشتيوي. (20 مايو, 2014). من أين تأتي إسرائيل بالنفط؟! – موقع ساسة بوست: https://www.sasapost.com/sources-of-oil-in-israel/
  3. بشرى نور بغتشه جانلي، و غوكتشه طوبباش. (01 09, 2020). نفط الإمارات بديل استراتيجي متوقع لإسرائيل (تحليل).

https://www.aa.com.tr/ar

  1. حلمي موسى. (اعسطس 25, 2015). إسرائيل تعتمد بشكل شبه كلي على نفط كردستان. – موقع شبكة نوى.. شبكة نسوية اخبارية تابعو لمؤسسة فلسطينيات:  https://www.nawa.ps/ar/post/21507
  2. خاص: إسرائيل أكبر مستورد للنفط الكردستاني. (11 اوكتوبر, 2017). – موقع I24NEWS الاسرائيلي: https://www.i24news.tv/ar
  3. خالد بشير. (17 06, 2020). أبرز 5 مجالات للشراكة الاقتصادية بين تركيا وإسرائيل. تاريخ الاسترداد 17، من موقع حفريات الاليكتروني:

 https://hafryat.com/ar

  1. خط شحن بحري مباشر بين دبي وإيلات. (16 سبتمبر, 2020). – موقع الوطن – بوابة اليكترونية شاملة: https://www.elwatannews.com/news/details/4980713
  2. سايمون هندرسون. (04 نيسان, 2018). البحرين تنضّم إلى دول النفط الكبرى. – معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى: https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/bahrain-enters-the-oil-big-league
  3. سلام زيدان. (01 08, 2020). فتح تحقيق بوصوله إلى تل أبيب.. جدل تصدير نفط كردستان العراق لإسرائيل يعود للواجهة. – شبكة الجزيرة الاعلامية: https://www.aljazeera.net
  4. صحيفة: إسرائيل تعتزم بناء ممر بري يربطها بدول الخليج. (17 09, 2020). – شبكة الجزيرة الاعلامية: https://www.aljazeera.net
  5. محمد محمود فايد. (5 اوكتوبر, 2018). «مواقف لا تُنسى».. مساعدة الأشقاء العرب لمصر خلال حرب أكتوبر. – موقع بوابة اخبار اليوم , مؤسسة اخبار اليوم: https://akhbarelyom.com