back to top
المزيد

    نحو إطار نظري لمكافحة الفساد في العراق

    تخاض الحرب ضد الفساد على عدة جبهات دولية ومحلية مع تحقيق درجات متفاوتة من النجاح، وقد درس العديد من الباحثين الفساد في العراق، وقد ركزت بعض الدراسات على عراق ما بعد عام 2003 دون الأخذ بالحسبان جذور الفساد الممتدة إلى النظام البعثي[1]، وعلى العكس من ذلك، عزت دراسات أخرى الفساد في العراق إلى عدة عوامل، بما في ذلك تركة نظام صدام حسين، والحوافز التي تشجع على الفساد، وضعف المؤسسات.[2]

    وبدلاً من الخوض في الخلافات حول تعريف الفساد، وقياس حجمه، وتحديد طبيعته المتعددة الأوجه، تحاول هذه الورقة دراسة تجارب البلدان الأخرى في مكافحتها للفساد، وطالما أن لكل بلد سمات ثقافية واقتصادية وسياسية فريدة من نوعها، فإن ليس من الحكمة تكرار تجارب البلدان الأخرى دون إدخال تعديلات تلائم البلد المعني بالدراسة؛ ولذلك ستسلط هذه الورقة الضوء على الأساليب الناجحة التي اعتمدت في الحرب ضد الفساد. وإن الدراسات التجريبية أبرزت ثلاثة شروط مسبقة حاسمة لأي جهود ناجحة لمكافحة الفساد هي: الإرادة السياسية القوية، وتعزيز المؤسسات، والجهود المبذولة للحد من الحوافز والفرص التي تشجع على الفساد، وينبغي أن يوجه مثل هكذا إطار أي جهود للحد من الفساد في العراق.

    إمكانية الإصلاح: حالة العراق:

    من المعروف أن نظام صدام حسين شيد شبكة معقدة حكمت الدولة العراقية وحولتها إلى شركة عائلية، إذ هيمن ابن عمه علي حسن المجيد، وأخوه غير الشقيق وطبان إبراهيم، وابناه عدي وقصي، وبعض من الذين كانت لهم روابط الدم مع صدام على الدولة العراقية ومثلوا قاعدة السلطة للنظام.[3] لقد عملت هذه الشبكة على تحشيد الصلات العشائرية، والسيطرة على الأمن والجيش لإدامة النظام[4]، وكان صدام على رأس هذه الشبكة، وسيطر على كل مراكز السلطة؛ لذلك قد تطابق تعريف الفساد مع مفهوم سارة شاييس بكونه “نظاماً لتشغيل الشبكات المتطورة”[5].

    على الرغم من محاولة العديد من المبادرات المحلية إزالة هذه الشبكة، إلا أن هذا النظام نجح في الحفاظ على كيانه، ومثلت انتفاضة عام 1991 إحدى أكبر التحديات للنظام حينما أنهى المنتفضون سيطرة نظام صدام على المناطق الجنوبية والشمالية من العراق، وعلى الرغم من ذلك، فشلت هذه المبادرة في تحقيق هدفها المتمثل في إزالة شبكة صدام الكليبتوقراطية[6]؛ نتيجة لذلك واصلت هذه الشبكة إعادة توزيع “الموارد اللازمة بين مؤيديها في حين واصلت قمع المعارضين لها”[7]، مما أسفر عن غياب إمكانية تطوير او تحقيق إصلاحات حقيقية.

    وعلى الرغم من تدمير البنى المادية للنظام البعثي في ​​عام 2003، إلا أن البعثيين حافظوا على إبقاء دور لهم، على الرغم من تشريع قانون اجتثاث البعث الذي نص على أنه لن يكون لحزب البعث مستقبل سياسي في العراق بعد عام 2003؛ مما دفع الحزب على العمل على تدمير هذا النظام السياسي الجديد من خلال تبني العديد من الأساليب، بما في ذلك التكتيكات الإرهابية، واعتماد خطاب تهميش بعض المكونات لتجنيد الأفراد وضمهم إلى شبكته السرية.

    إن تطور الروابط بين البعثيين والإرهابيين منذ عام 2003 كان واضحاً في جميع مراحل الإرهاب المختلفة في العراق، إذ بدأ مع إنشاء مجموعات إرهابية مختلفة، مثل تنظيم الطريقة النقشبندية بقيادة نائب صدام حسين عزت الدوري، الذي اندمج فيما بعد مع حركات متطرفة أخرى في العراق[8]. وفضلاً عن ذلك هناك العديد من العوامل التي مكنت البعثيين من الحفاظ على دورهم في البلد، مثل القوى الإقليمية التي تدعم أي جهود لإحباط مسار النظام الديمقراطي في العراق، إذ ينظر إلى نجاح هذا النظام كتهديد وجودي للدكتاتوريات القائمة في المنطقة.

    وقد مكن الفراغ السياسي الناجم عن إزالة صدام حسين عام 2003 العديد من القوى المحلية بدعم إقليمي ودولي من إقامة شبكات جديدة، ورغم ذلك فإن هذه الشبكات لم تحمل أهداف حزب البعث نفسها؛ لأن الحفاظ على الترتيب السياسي الجديد ضروري لوجودها، وقد اعتمدت هذه الشبكات على العديد من التكتيكات للمنافسة: كالخطاب الطائفي، وتعطيل العمل الحكومي عمداً، ومهاجمة شرعية الحكومة باستمرار من أجل تحقيق مكاسب مالية واقتصادية وسياسية.

    وأدى تباين هذه الشبكات والتنظيمات في أهدافها إلى منع هيمنة أي منها، كما أن هذه الشبكات لا تمتلك بنية مادية واضحة يمكن تحديدها؛ لأنها تعمل خلف الكواليس، لذلك هناك نافذة للقيام بالإصلاح إذ لم تنجح أي شبكة في السيطرة على الدولة العراقية، ولكن مكافحة هذه الشبكات أكثر صعوبة نظراً لطابعها السري. ان فشل جهود مكافحة الفساد في العراق منذ عام ٢٠٠٣ ربما يعزى لعدة أسباب منها نظام المحاصصة والذي يوفر الحماية لكبار المفسدين، غياب رؤية استراتيجية وحلول واقعية، وضعف الإرادة السياسية. لذا فإن تحقيق إصلاحات حقيقية ومجدية أمر ممكن، ولكنه صعب للغاية في عراق بعد عام 2003.

    ضرورة الإصلاح:

    توجد أسباب كثيرة تستدعي إعطاء الأولوية للحرب ضد الفساد في العراق، لعل أهمها:

     أولا: الأزمة المالية التي نتجت بسبب الانخفاض الكبير في سعر النفط من 115 دولاراً للبرميل إلى أقل من 40 دولاراً للبرميل على الرغم من الزيادة في إنتاج النفط إلى 3.27 مليون برميل يومياً من حقول تدار من قبل الحكومة المركزية[9]؛ مما أدّى الى استحالة تغطية المستويات السابقة من الإنفاق الحكومي، ويستلزم الأمر التقليل من الاعتماد على النفط وتنويع الاقتصاد، ولا يمكن تحقيق هذا دون التصدي لمشكلة الفساد أولاً من أجل تهيئة البيئة الملائمة لهذه المشاريع.

    ثانياً: “العلاقة السببية” بين الفساد والإرهاب، إذ إن الفساد “يقود الناس إلى مثل هكذا مستويات من التطرف”[10]، وتقدم سارة جايس أربعة أسباب تفسر هذا الارتباط السببي هي: “الإذلال الذي يتعرض له الضحايا، وافتقارهم للموارد او الحلول، وهيكلية الشبكات الفاسدة وتطورها، والمبالغ الهائلة المسروقة”[11]. إن هذا الارتباط واضح في الحالة العراقية، إذ ساهم الفساد بتقدم داعش في العراق[12]، وتمثل هذا في تقلد جنرالات من غير ذوي الخبرة مناصب رفيعة في القوات المسلحة العراقية، وشراء المعدات السيئة من خلال “عقود الشراء الفاسدة”، وتوظيف “الجنود الوهميين”[13]؛ لذلك وجدت غالبية العراقيين (٧١٪‏) أنه من المهم جداً مكافحة الفساد لمنع عودة داعش، على وفق مسح وطني أجراه المعهد الديمقراطي الوطني (NDI)[14].

    ثالثاً: الغضب الشعبي تجاه الفساد وتوسعه، إذ وجدت دراسة أجريت في منطقة بغداد من قبل المفوضية العراقية للنزاهة في عام 2014 أن “7% من المشاركين قالوا إنهم دفعوا رشوة لموظف عمومي لتسهيل معاملاتهم”[15]. اما منظمة الشفافية الدولية فوجدت بان “٢٩٪ من العراقيين البالغين اضطروا لدفع الرشوة لواحدة من ثمان خدمات خلال الأشهر الاثني عشر الماضية.”[16] وتُرجم ذلك إلى مظاهرات شعبية طالبت بالمساءلة القانونية للمفسدين واستبدال كل الوزراء السابقين بوزراء تكنوقراط غير تابعين لأي جهة سياسية[17]، وفضلاً عن ذلك قد أعربت المرجعيات الدينية انتقادها للممارسات الفاسدة، وطالبت بالإصلاح بنحوٍ متكرر، وأبرز هذا الرفض العام أهمية إطلاق جهود لمكافحة الفساد لتعزيز شرعية الحكومة.

    رابعاً: الالتزام الدولي الذي قدمه صندوق النقد الدولي عبر إقراض العراق بمبلغ 5.34 مليار دولار أمريكي، الذي تمت الموافقة عليه في 7 حزيران عام 2016، وتمت الموافقة على هذا الاتفاق بهدف دعم الاقتصاد العراقي بما في ذلك وضع تدابير للحد من الفساد، وكذلك تبني اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد. وهذه الالتزامات الدولية تقتضي إحراز تقدم في مجال مكافحة الفساد لتعزيز سمعة العراق الدولية وتحفيز الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد العراقي.

    وباختصار، ليس هناك شك في أن الحرب على الفساد ضرورية لتنمية العراق وازدهار العراقيين، وكما ذُكر آنفاً هناك أسباب كثيرة تتطلب جعل الحرب ضد الفساد من الأولويات، بما في ذلك الأزمة المالية، والحرب على الإرهاب، والغضب الشعبي، والالتزام الدولي؛ فالساحة السياسية العراقية تشهد العديد من المبادرات لإنهاء الفساد، لذا إن وضع إطار لمكافحة الفساد استناداً إلى تجارب البلدان الأخرى هو أمر حاسم لضمان فعالية هذه المبادرات.

    إطار مكافحة الفساد:

    ركزت الدراسات التجريبية على جهود مكافحة الفساد في بعض البلدان، وأبرزت مدى تدابير مكافحة الفساد وفعاليتها، ويتطلب نجاح جهود مكافحة الفساد إرادة سياسية قوية للقضاء عليه، ويتطلب كذلك جهوداً رامية إلى إنشاء أو تعزيز المؤسسات التي تنفذ تدابير مكافحة الفساد، وبذل جهود موازية للحد من الحوافز والفرص التي تشجع على الفساد، وينبغي بناء هذا الإطار والحفاظ عليه لضمان نجاح جهود مكافحة هذه الآفة.

    الإرادة السياسية:

    هناك شبه إجماع بين المحللين والممارسين على أن الإرادة السياسية شرط أساس لنجاح أي جهود لمكافحة الفساد، ويتجلى ذلك في جهود مكافحة الفساد في سنغافورة، التي وصلت إلى تصنيف البلدان الأقل فساداً بين الدول الآسيوية، بعدما كان الفساد “وسيلة للحياة”[18]، وقد بدأت هذه العملية من خلال وجود إرادة سياسية ملتزمة نظرت إلى ذلك الأمر على أنه عقبة ضخمة أمام تحقيق هدفهم التنموي[19].

    إن من الصعب قياس الإرادة السياسية؛ لأن جهود مكافحة الفساد يمكن استخدامها كخطاب لتعزيز شرعية الحكومة أو استهداف المعارضين السياسيين، بدلاً من أن تكون إرادة حقيقية للحد من الفساد. وإن أهم مؤشر هو مدى الإرادة السياسية، سواء كانت التعبير عن ارادة فرد أم عدة نخب أم تحالفاً سياسياً قوياً، وقد سلطت التجربة الجورجية في إطار مكافحة الفساد الضوء على أهمية وجود ائتلاف قوي لضمان النجاح في تنفيذ الإصلاحات، إذ قاد “فريق صغير ولكن قوي في السلطة التنفيذية، متحد برؤية مشتركة وبدعم من برلمان وقضاء متوافقين، عمليةَ الإصلاح”[20].

    والمؤشر الثاني المهم هو نوعية جهودهم، وبعبارة أخرى، الأدوات التي تعبّئها الإرادة السياسية الملتزمة للتصدي للفساد، ويمكن ملاحظة هذه الأدوات ودراستها لتقييم الإرادة السياسية، كما يتجلى ذلك في سنغافورة، مثل الاستهداف المحايد للفاسدين، وتمكين وكالات مكافحة الفساد من القيام بعملها وسن التشريعات اللازمة لذلك، واستخدام تقنيات تكنولوجيا المعلومات في الإدارة العامة، وتعبئة وسائل الإعلام لإبراز شدة العقوبات المنفذة بحق الفاسدين.

    إن جميع هذه التدابير واضحة في حالة سنغافورة ولعدة أسباب: أولاً: لم تقتصر الإرادة السياسية على استهداف “الأسماك الصغيرة”، بل امتدت أيضاً إلى “الأسماك الكبيرة” لضمان أن “أي شخص يدان بالفساد سيتعرض للعقوبة”[21]. ثانياً: تم سن قوانين لتمكن مكتب التحقيقات حول ممارسات الفساد (CPIBB) -مؤسسة مستقلة يقع مقرها في مكتب رئيس الوزراء ويديرها رئيس الوزراء- من “اعتقال الأشخاص وتفتيشهم والتحقيق في حسابات الأفراد العاملين في القطاعين العام والخاص بغض النظر عن العناوين التي يحملونها”[22]؛ ولذلك، فإن مكتب التحقيقات حول ممارسات الفساد يمتلك القدرة على التحقيق مع “جميع الأشخاص المشتبه بهم بما في ذلك رئيس الوزراء”[23]، ومع ذلك، من الصعب للغاية استهداف النخب القوية الفاسدة حتى وإن كان هناك نية للقيام بذلك؛ لذا فإن من الضروري الحصول على دعم شعبي قوي يوفر للحكومة التكليف والقدرة على استهداف الفاسدين لأن خطر مهاجمتهم قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية هائلة[24]. ثالثاً: تبني التطورات التقنية لتحسين فعالية الإدارة، مثل إنشاء “نظام هيئة الإيرادات الداخلية المتكامل (IRIS) -برنامج كمبيوتر تفصيلي يسمح بالتعامل مع الضرائب كافة بخطوة واحدة-[25]رابعاً: تغيير إدراك الناس للفساد من خلال تحويلة من “منخفض المخاطر، وذي مكافأة عالية “إلى “عالي المخاطر، وذي مكافأة منخفضة” من خلال حث وسائل الإعلام على نقل هذه الرسالة[26].

    وفي بعض الحالات، قد تكون الإرادة السياسية ضعيفة أو حتى غائبة عند ذلك ينبغي أن يحاكيها الضغط الشعبي والدولي، إذ إن تمرير حزم الإصلاح يتطلب “دوراً قوياً للمجتمع المدني والمواطنين في بدء العملية وفي تعزيز الإرادة السياسية عند ضعفها”[27]، وهذا واضح في تجربة مكافحة الفساد في المكسيك، حيث قام المجتمع المدني من خلال “الدعوة إلى التحرك مع وجود ضغط سياسي شعبي” بالتأكد من إمرار الإصلاحات وتنفيذها[28]. وتؤدي الجهات الفاعلة الدولية قد من خلال الضغط المباشر دوراً في تمرير الإصلاحات، كما حدث في حالة أوكرانيا، إذ تطلب اتفاق الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا “عدداً من الإصلاحات قبل أن يدخل حيز التنفيذ، بما في ذلك العديد من الإصلاحات لمكافحة الفساد”[29].

    أما في العراق أطلق رئيس الوزراء حيدر العبادي عدة مبادرات لمكافحة الفساد كحزمة الإصلاح سعت إلى إنهاء نظام المحاصصة الطائفية.[30] إن جدول الأعمال الطموح هذا واجه تحدياً رئيساً ألا وهو الافتقار إلى ائتلاف سياسي قوي وداعم لتنفيذ هذه الإصلاحات، وكان هذا واضحاً في تصويت البرلمان يوم 2 تشرين الثاني من العام الفائت، الذي “أعلن فيه أنه لا يمكن إجراء إصلاحات إلا مع الاتفاق مع الأطراف السياسية الأخرى في البرلمان”[31]؛ وبالتالي فإن من الضروري حشد الضغط الشعبي والدولي، وإنشاء شبكة من المؤيدين لمبادرات الإصلاح.

    تدعيم المؤسسات:

    إن وجود وكالة فعالة لمكافحة الفساد أمر حاسم لنجاح أي جهود للقضاء على الفساد، وينبغي أن يكون لهذه الوكالة ولاية واضحة ومدعومة من قبل قوانين شاملة لمكافحة الفساد، وينبغي أن يترأس الوكالة “زعيم سياسي غير قابل للفساد”[32]، ويتحتم دمج المؤسسات الحكومية والإدارات لتقوية جهود مكافحة الفساد، ويمتلك العراق العديد من مؤسسات مكافحته، غير أن أداءها غير مرضٍ لأنها تفتقر إلى الموارد والقدرة على تنفيذ القواعد والإجراءات بقوة ومعالجة المشكلات المعقدة.

    وقد سلط تقرير الاتحاد الأوروبي لمكافحة الفساد الضوء على عدة متطلبات؛ لضمان فعالية وكالات مكافحة الفساد، مثل ضمانات الاستقلال، وغياب التدخل السياسي، والاختيار القائم على الجدارة والترقية للموظفين، والتعاون مع المؤسسات الأخرى، والوصول السريع إلى قواعد البيانات والاستخبارات، وتوفير الموارد والمهارات اللازمة، وبناء قدرات لإنفاذ القانون والملاحقة القضائية والقضاء[33].

    لقد استوفت جورجيا هذه المتطلبات أولاً كأساس لجهودها الرامية إلى الحد من الفساد، إذ أنشأ الرئيس شيفرنادزه مجلساً تنسيقياً يضم 12 عضواً يرأسه الرئيس ومكتب لمكافحة الفساد، وعلى الرغم من فترة أولية غير فعالة، إلا أن هذه الإصلاحات عملت على أنها “الأساس الذي ظلت العديد من الإصلاحات تبنى عليه”[34]، واستند تعزيز المؤسسات إلى النهج القطاعي، الذي يتمحور حول “التركيز على تحصيل الضرائب وملاحقة المسؤولين المجرمين والفاسدين”[35] وتوسيعه ليشمل قطاعات أخرى، غير أن تمكين المؤسسات يختلف من بلد إلى آخر استناداً إلى خصائص كل بلد؛ لذلك يجب على الحكومة العراقية معالجة الأسباب الجذرية وراء عدم فعالية وكالات مكافحة الفساد وغيرها من المؤسسات الحكومية ذات العلاقة.

    الحد من الحوافز والفرص اللتين تشجعان على الفساد:

    قد يكون الحد من الفرص والحوفز المشجعة على الفساد أحد أكثر التحديات صعوبة؛ إذ يتطلب نهجاً قطاعياً يقوم على استعراض منتظم لكل الإجراءات القطاعية لكشف فرص الفساد والقضاء عليها؛ لذا من الضروري تحديد هذه الفرص قبل معالجتها، وبعبارة أخرى: فإن فهم أسباب الفساد وعملياته هو شرط أساس لخلق سبل فعالة للقضاء عليه، فعلى سبيل المثال، فان حكومة سنغافورة حددت المرتبات المنخفضة والفرص الوافرة والعقوبات الضعيفة كونها المحرك الرئيس للفساد وعالجتها تباعاً. ويوصي تقرير الاتحاد الأوروبي أيضاً بتحديد القطاعات الأكثر ضعفاً للفساد لإيجاد حلول فعالة وموجهة، ومن الضروري أيضاً معالجة مشكلة “التنظيم المفرط” المقترن بمستوى عالٍ من “السلطة الحرة”؛ لأنه يولد الكثير من الفرص للفساد، كما يتجلّى ذلك في حالة سنغافورة[36].

    ويتطلب الحد من الحوافز بذل جهود موازية تعزز ظروف العمل وتغير إدراك الفساد. اذ ان من الضروري زيادة حجم العقوبات وتوسيع نطاقها نحو الممارسات الفاسدة من أجل تغيير الإدراك المحلي للفساد[37]. ويجب أن تدفع لموظفي الحكومة رواتب كافية تضمن لهم مستوى جيداً من المعيشة، وإلا فإن الموظفين قد يرون في الفساد فرصة لتحقيق الأموال، أو قد يتخلون عن وظائفهم للانضمام إلى القطاع الخاص.

    يوصي تقرير الإتحاد الأوروبي حول جهود مكافحة الفساد “بالمناطق الخطرة” التي هي “عرضة بنحوٍ خاص للفساد وتتطلب حلولاً موجهة”[38]، وخلص التقرير إلى أن “السلطة الحرة التي لا يقابلها مستوى مماثل من المساءلة والرقابة الآلية هي مؤشر رئيس للكشف عن مخاطر الفساد[39]“؛ لذلك يجب على الحكومة العراقية اعتماد وتنفيذ البرامج التي تحد من الفرص والحوافز التي تشجع على الفساد في كل قطاع في الدولة، ويمكن القيام بذلك بالتقليل من الإجراءات البيروقراطية للحد من سلطة موظفي الخدمة المدنية وزيادة الرقابة عليهم.

    الاستنتاج والتوصيات:

    يعتمد نجاح أي جهد للقضاء على الفساد على فعاليته في الحد من الحوافز والفرص المشجعة لبروزه، ومع ذلك لا يمكن تصور هذا من دون وجود إرادة سياسية قوية، ووكالة فعالة لمكافحة الفساد، إن هذه الركائز الثلاث ليست مستقلة عن بعضها، ولكنها متشابكة كما هو واضح في الدول التي أبرزتها هذه الورقة، وقد ثبت أن الفساد مشكلة عميقة الجذور ومتعددة الأوجه تتطلب استراتيجيات شاملة لحلها، ويحتاج العراق إلى الاستفادة من تجارب البلدان الأخرى التي لها تأريخ أطول في الحرب على الفساد، وبدلاً من محاولة تكرار تجارب البلدان الأخرى، من الضروري فهم الأطر الذي تبعتها هذه البلدان في التصدي للفساد، وأظهرت هذه الورقة أهمية تحفيز الإرادة السياسية، وتفعيل وتمكين وكالات مكافحة الفساد، والحد من الحوافز والفرص، وتوصي الورقة بما يأتي لضمان نجاح هذا الإطار في العراق:

    1. إعطاء الأولوية للحرب ضد الفساد؛ نظراً لدور الفساد الضار في أمن العراقيين وازدهارهم.
    2. إقامة تحالف سياسي قوي يدعم الحرب ضد الفساد، والحفاظ على هذا التحالف من خلال الضغط الشعبي والدولي.
    3. إنشاءمجلس تنسيقي لجهود مكافحة الفساد برئاسة رئيس الوزراء؛ لأن لديه تفويضاً شعبياً عبر الانتخابات، وأنه هو المسؤول عن تخطيط سياسات الدولة العراقية وتنفيذها.
      1. يجب أن يلبي هذا المجلس متطلبات الاتحاد الأوروبيفي إنشاء وكالة فعالة لمكافحة الفساد.
      2. ينبغي تكليف هذا المجلس بالمهام الآتية:
        • دعم أجهزة مكافحة للفسادعبر طرح مشاريع القوانين من خلال مجلس الوزراء إلى مجلس النواب العراقي.
        • وضع استراتيجية شاملة لمكافحة الفساد والبرامج التفصيلية لتنفيذها.
    • التركيز على “المناطق الخطرة” لتطوير برامج تنفيذية للحد من حوافز الفساد وفرصه من خلال:
      1. تشديد العقوبات على الممارسات الفاسدةإلى جانب التنفيذ المحايد، وكذلك جعل هذه العقوبات علنية.
      2. استخدام التقدم التكنولوجي للحد منالإجراءات البيروقراطية.

    إن تبني هذا الإطار النظري هو خطوة أولى لضمان نجاح جهود مكافحة الفساد، فالمجلس المشترك لمكافحة الفساد الذي يترأسه الأمين العام لمجلس الوزراء يمكن أن يضطلع بمهمة تطبيق هذا الإطار، حيث ينبغي إجراء مزيدٍ من البحوث لاستكشاف ظواهر الفساد المتعلقة بكل قطاع ووضع سبل فعالة وحلول عملية لمكافحته استناداً إلى الإطار المقترح.


     

    المصادر

    [1] Mieczyslaw P. Boduszynski, “Iraq’s Year of Rage,” Journal of Democracy 27 (4), 110 – 124. تتحدث الدراسة عن الحركة الاحتجاجية حول الممارسات الفاسدة في ما بعد عام 2003، ولاسيما ضد المحاصصة، ومع ذلك، فإن الكاتب لا يكلف نفسه عناء التحقيق في العلاقة بين النظام البعثي والفساد في العراق.

    [2] Colralie Pring, “Iraq: Overview of Corruption and Anti-corruption,” Transparency International, Mar 20, 2015.

    [3] Central Intelligence Agency, “Iraq’s Tikritis: Power Base of Saddam Husayan” Central Intelligence Agency, December 28, 2011.

    [4] Andrew Cockburn and Patrick Cockburn, Out of the Ashes: The Resurrection of Saddam Hussein, 72.

    [5] Sarah Chayes, “The Structure of Corruption: A Systemic Analysis Using Eurasian Cases,” Carnigie Endowment for International Peace, June 2016, 1.

    [6] Faleh Abd Al-Jabbar, “Why the uprisings failed,” Middle East Report 176 (1992): 2-14.

    [7] Colralie Pring, “Iraq: Overview of Corruption and Anti-corruption,” 3.

    [8] Andrew Hosken, Empire of fear: Inside the Islamic state. Oneworld Publications, 2015.

    [9] Aref Mohammed, “Iraq’s Oil Exports in June Near May Level, Oil Minister Says” Reuters, June 22, 2017, http://www.reuters.com/article/us-iraq-oil-energy-idUSKBN19D2BD

    [10] Sarah Chayes, “Corruption and Terrorism: The Causal Link” 3.

    [11] المصدر نفسه.

    [12] Coralie Ping, “Iraq: Overview of Corruption and Anti-Corruption”, 5.

    [13] المصدر نفسه.

    [14] National Democratic Institute, “Improved Security Provides Opening for Cooperation,” June 7, 2017, https://www.ndi.org/

    [15] Coralie Ping, “Iraq: Overview of Corruption and Anti-Corruption,” 3.

    [16] المصدر نفسه.

    [17] Mieczysław P. Boduszyński, “Iraq’s Year of Rage,” Journal of Democracy 27, no 4(2016), 1.

    [18] Jon S.T. Quah, “Combating Corruption in Singapore: What Can Be learned?” Journal of Contingencies and Crisis Management  9, no. 1 (2001), 29.

    [19] المصدر نفسه، ص: 34.

    [20]. The World Bank, “Fighting Corruption in Public Services: Chronicling Georgia’s Reforms,” The World Bank, 7.

    [21] Quah, “Combating Corruption in Singapore”, 34.

    [22] Sam Choon-Yan, “Singaproe’s Experiences in Curbing Corruption and the Growth of the Underground Economy,”  56

    [23] المصدر نفسه، ص 57.

    [24] Qiang Fang, “XI Jinping’s Anticorruption Campaign From A Historical Perspective,” Modern China Studies 24, no. 2 (2017), 134.

    [25] Sam Choon-Yan, “Singapore’s Experiences in Curbing Corruption,” 57.

    [26] المصدر نفسه، ص 58.

    [27] Jackson Oldfield, “Overview of National Approaches to Anti-Corruption Packages,” Transparency International, 1.

    [28] المصدر نفسه، ص 3.

    [29] المصدر نفسه، ص 5.

    [30] Loveday Morris and Mustafa Salim, “Iraqi Leader Wins Backing for Reforms but Walks a Dangerous Line,” The Washington Post, August 11, 2015, 1.

    [31] Kirk H. Sowell, “Abadi’s Failed Reforms,” Carnegie Endowment for International Peace, November 17, 2015.

    [32] Quah, “Combating Corruption in Singapore,” 34.

    [33] European Commission, “EU Anti-Corruption Report,” March 2, 2014. http://bit.ly/2hiXu9Y.

    [34] The World Bank, “Fighting Corruption in Public Services,” 4.

    [35] نفس المصدر، 6.

    36 Quah, “Combating Corruption in Singapore,” 31.

    [37] المصدر نفسه.

    [38] European Commission, “EU Anti-Corruption Report,” 17.

    [39] المصدر نفسه.

    هاشم الركابي
    هاشم الركابي
    باحث ومحلل، حاصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية – جامعة بغداد، وحاصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة الينوي الغربية في الولايات المتحدة، يهتم بموضوعات الديمقراطية والحوكمة وسيادة القانون، عمل سابقا في مجلس النواب العراقي.