مصطفى مطهري: دكتوراه في العلوم السياسية وخبير في قضايا شبه الجزيرة العربية.

تمكّنت أنقرة بزعامة “رجب طيب أردوغان” من جعل السياسة الخارجية مكوناً حيوياً وأساسياً للحكومة التركية. ولمعرفة مؤشرات ترجيح أولويات السياسة الخارجية وقرائنها وأهدافها على السياسة الداخلية من قبل أردوغان؛ كونه الرجل الأول في الساحة السياسية خلال السنوات الأخيرة في تركيا، يتعيّن بحث تلك المؤشرات ودراستها داخل برامج حزب العدالة والتنمية واستراتيجياته في ميدان السياسة الخارجية التي تعُرفُ بنهج العثمانية الجديدة واستراتيجية عمق النفوذ.

فضلاً على أن من جملة التزامات تعزيز السياسة الخارجية التركية إبّان هذه السنوات التي جعلت من نوع الاستمرارية في الساحة الخارجية علامةً ومحفزاً في هذا الصدد يتمثل في الالتزام والاعتقاد بالسلوك المثمر من قبل الحكومة التركية الناجم عن دعم الأهداف الإقليمية وتوسيعها تحت صيغة اهتمامات وميول الحكومات المتناغمة مع الميول الإخوانية، الذي جعل من نهج أنقرة الإخواني نوعاً من النهج الأيديولوجي فيما يتعلق بمسألة طرح هيكلية خلق سلوك تلك الحكومات، وشكل عاملاً في مسار فاعليتها في ساحة النشاطات الإقليمية أيضاً.

يعدّ دعم تركيا لحكومة سراج الإخوانية “حكومة الوفاق” في ليبيا ضد خليفة حفتر وحكومة طُبرُق وعملية تغيير الظروف الناجحة ومسار اللعب في هذا البلد من جملة العوامل التي تعطي معنىً للماهية المهمة للنهج الإخواني في السياسة الخارجية التركية، على الرغم من أن المتغيرات الأخرى من قبيل اللعب في الساحات الإقليمية المضطربة والدخول في منافسة مع سائر الفاعلين وحتى سياسة التطلع إلى أفريقيا وامتلاك نفوذ فيها، تعد كلمات مفتاحية مهمة ومؤثرة في عملية صنع القرار حول مسألة الوجود في هذه المناطق؛ لكن ينبغي الانتباه إلى أن للإخوانية والالتزام بمبادئها دوراً محفزاً ومتقدماً على سائر المتغيرات المتأخرة المذكورة.

على سبيل المثال دعم قطر ضد الدول الأربع التي فرضت عقوبات عليها خلال السنوات الماضية بسبب سلوك الدوحة الإخواني من جهة ودعمها لزعماء الإخوان المسلمين مثل “الشيخ يوسف القرضاوي” الأب الروحي لإخوان المسلمين في قطر من جهة أخرى، جعل تركيا حليفة لقطر وشريكة لها؛ بناءً عليه فإن الاقتداء بالتطلعات والميول الإخوانية يضطلع بدور مهم في تحديد علاقات أنقرة مع بقية الدول الأخرى، ويحدد مستوى العلاقات معها. حيث إن دراسة المصادر التحفيزية وتحليلها والمؤشرات القائمة على لجوء أنقرة لاتخاذ قرار التواجد في المناطق المأزومة، يُظهر أن الانتساب إلى التيار الإخواني ووجود الإخوان في المناطق المستهدفة من قبل تركيا، يضطلع بدور مهم في تحديد أنشطة أنقرة الموضوعة في مبادئ سياسة التوسع والنفوذ الإقليمي، حيث إن اليمن بوجود حزب الإصلاح وميوله الإخوانية غير مستثنى من هذه القاعدة. ومن جملة النقاط الأخرى المسترعية للاهتمام في هذا الصدد، فقد حاولت مجموعات الدعاية والترويج وخلايا الاستقطاب في الإخوان المسلمين خلال هذه السنوات وبسبب العلاقة اللصيقة التي تجمعها مع تركيا طرح الأنموذج التركي؛ كونه البديل الموجود والناجح في ميدان الحكم والسياسة.

فرضت الظروف العسكرية في اليمن نظراً لنجاح حكومة الإنقاذ الوطني وصنعاء على الإخوانيين اليمنيين الدخول في نفق مسدود، حيث شهد محور مأرب خلال الأشهر الأخيرة في أعقاب الخروج من حالة الركود وضعاً مضطرباً أوجده التقدم الذي أحرزته صنعاء وكذلك احتلال مناطق من هذه المحافظة الاستراتيجية. وجلعت الإخوانيين الموجودين على جبهة مأرب في مواجهة خطر جدي في الساحة العسكرية اليمنية؛ لأن مأرب تشكل قاعدة اجتماعية وعاصمة النشاط الاجتماعي للإخوان ممثلة بحزب الإصلاح، وبسبب انتصارات أنصار الله والجيش الوطني في صنعاء أيضاً تواجه في الوقت الراهن خطر خروجها عن سيطرة حلفائهم (الإخوان)؛ وبالتالي تواجه صنعاء خطر السيطرة عليها. في الحقيقة ما يقلق الإخوان في مأرب -ويبدو على وشك الحدوث- هو تكرار سيناريو سقطرى هذه المرة بالنسبة لمأرب. حيث إن مسار إضعاف حكومة هادي المستقيلة (إثر السيطرة على سقطرى) المتعاظم بشكل يومي الذي ساهم وشارك فيه الإخوان أيضاً، سيفضي إلى إضعاف مكانة الإخوان في الساحة السياسة اليمنية وسوف يقلص من وزن تأثيرهم. فضلاً عن أن النسخة الإصلاحية “اتفاق الرياض” المطروحة من قبل السعوديين بهدف إسكاتهم حول احتلال سقطرى من قبل المجلس الانتقالي وإرضاء الحكومة المستقيلة في الساحة اليمنية، سيكون لها أثر بالغ في إضعاف الإخوان اليمنيون؛ لأن تقسيم المناصب الحكومية مناصفة خمسين-خمسين بين حكومة هادي المستقيلة والمجلس الانتقالي في النسخة الإصلاحية “اتفاق الرياض” سوف يحد كثيراً من تأثير الإخوان واضطلاعهم بإدوار في حكومة هادي.

تمثلت إحدى النقاط المهمة الخاصّة بالأحداث الأخيرة التي وقعت في جنوب اليمن خلال الأسابيع الأخيرة باحتلال سقطرى التي تعدُّ إحدى ساحات النشاط المحدود للإخوان في الجنوب، انطلاقاً من هذا فإن سكوت الرياض ضد الإجراء الذي اتخذه المجلس الانتقالي، يخلق إمكانية تعريض علاقات الرياض مع حزب الإصلاح الذي يمثل الإخوان لأضرار كبيرة، فالأداء السلبي للرياض المتمثل في عدم إبداء الرياض أي فعل ضد احتلال سقطرى وعدم دعمها لطرف على حساب طرف آخر وعملها المحايد في هذا الصدد، جعل من فرضية حدوث تغيير محتمل لسلوك الرياض مع الإخوان خلال القادم من الأيام في الحرب الدائرة في اليمن، قريبة من الواقعية؛ لأن العداوة البنيوية للنظام السعودي مع الإخوان المسلمين -تحت أي صيغة كانت- هي عداوة تاريخية ولها سوابق؛ وعليه تغيير النهج السلوكي-العملي للرياض مع الإخوان، يعدُّ تكتيكاً يحدث في وقت يبدو منطقياً فيه ضمن استراتيجيات محمد بن سلمان المرتبطة بالقضية اليمنية.

هذه الأيام يلقي الوضع المتردي في الميدان اليمني بظلاله على السعودية، كما أثر على حزب الإصلاح كون أكبر حليف للسعودية في اليمن وأهمه؛ وفي الحقيقة تعزيز نهج التشكيك خلال هذه الأيام لدى الإخوان بالرياض، ولاسيما أنهم على مفترق طريقين يتمثلان في قيام تعاون من عدمه مع السعودية، صاعد من مسار الانشقاقات داخل حزب الاصلاح خلال الأشهر الماضية أيضاً؛ وعليه وجّه قسم من التشكيلة القيادية في حزب الإصلاح انتقادات شديدة للجرائم السعودية المرتكبة في اليمن، وأعلنوا انشقاقهم وبراءتهم من زعماء هذا الحزب المقيمين في الرياض.

يجدر بالذكر أن حزب الإصلاح مثل السعوديين بما يتعلق بمستقبل استمرار النزاع في الشمال أو التفاوض مع صنعاء -في حال حدث أيٌّ من هذين الأمرين المزدوجين المذكورين آنفاً، إما استمرار النزاع وإما تركه، فسوف ينعكس إيجاباً على وضع حكومة الإنقاذ الوطني في صنعاء- يواجه حالة من اليأس والعجز في اتخاذ القرارات. ومن جهة أخرى فحزب الإصلاح بسبب امتلاكه قاعدة وجذور إخوانية في الشمال، قاعدته الاجتماعية-التأريخية في شمال اليمن، لا يحظى بقاعدة اجتماعية فاعلة وقادرة في الجنوب؛ وعليه الانخراط داخل المشاريع السعودية الإجرامية في الشمال، بإمكانه أن يقحم المكانة الاجتماعية وتقبل الناس لهم في الشمال في مواجهة خطر فادح، سيطرة هذه الظروف وإحصاء المكونات الموجودة واحتسابها لجهة المحافظة على حياتهم السياسية-الاجتماعية في اليمن تحتم على الإخوان اليمنيين إعادة النظر في سلوكهم وأدائهم. على نحو يبدو فيه أن تجربة أنقرة في تقديم الدعم الكامل لإخوان ليبيا في هذا السياق، دفعت الإخوان اليمنيين لسحب تركيا إلى الميدان اليمني بهدف تعزيز وزنهم السياسي-العسكري.

ومع ذلك، يُعدُّ هذا التعطش للتشجيع على القدوم، والذهاب إلى اليمن، بالنسبة لأنقرة والإخوان، هو تعطش وحاجة له وجهتان، وسوف ترى تركيا هذا الأمر -إذا توافرت ظروف تحققه لتفعل ما فعلته في ليبيا وتنفذه في اليمن- أمراً ميموناً وحظاً سعيداً.

ففرصة التواجد في اليمن واستغلال مصادر هذا البلد الحيوية الجيوسياسية والسيطرة على مواضع جيواستراتيجية في اليمن بواسطة وجود البحر الأحمر ومضيق باب المندب، فضلاً عن أن المجالات المتعاظمة لأهداف تركيا في تعزيز نفوذها في أفريقيا ستكون متاحة، فإن مسار خلق سياسة استراتيجية قائمة على تعزيز النهج التوسعي في قالب العثمانية الجديدة لأنقرة يمثل خطوة حيوية متقدمة. على الرغم من أن تهيئة الأجواء لتحول اليمن إلى منطقة نفوذ لأنقرة، ليست ميسرة وسهلة كما قيل؛ لأن تجاور اليمن مع السعودية يجعلها تشكل عمقاً لنفوذ السعودية، وتتطلع إليها الرياض برؤية أمنية.

لذا وجود أنقرة (وراء الخلافات والصراعات بين الرياض وأنقرة)، أو أي دولة أخرى ستعتبره تهديداً أمنياً وقومياً لها، وعليه سترد على أي عمل أو نشاط ولن تسمح لأي دولة بالانخراط في الميدان اليمني. إضافة على ذلك تشكل الصراعات بين السعودية وتركيا في الساحات الإقليمية الأخرى عاملاً لجهة تعاظم حساسية الرياض ضد أي إجراء يتخذ، وبالتأكيد ستستخدم الرياض كل قوتها لمواجهته. في هذه الغضون لا يمكن تجاهل دور أبو ظبي في شراكتها ومواكبتها للرياض في التصدي لأي إجراء تتخذه أنقرة في اليمن؛ لأن الإمارات ليست منخرطة في الصراع مع أنقرة فحسب في الساحات الإقليمية مثل ليبيا بل هي منخرطة في نزاع بنيوي مع كل التيارات الإخوانية، ولا تهدر فرصة متاحة لتقويض وإلحاق الأذى بهم، وحزب الإصلاح ليس مستثنى من هذه القاعدة.

ينبغي أن نضيف أن انخراط لاعبين خارجين على الصعيد الإقليمي والدولي في ميدان اليمن، سيؤثر على مجال مناورة الرياض في اليمن، وسوف يسعون لتحجيمهم وتقليص ثقلهم ودورهم باعتبارهم اللاعب الأول في اليمن؛ على نحوٍ ستخسر فيه السعودية بتموضع حزب الإصلاح والإخوان إلى جانب أنقرة، أهم حلفائها في الحرب على صنعاء في جبهات الشمال، من جهة أخرى انخراط لاعب أو لاعبين جدد في اليمن بوسعه أن يقلب معادلات اللعب في اليمن لصالح أنصار الله، وسوف يفضي إلى تعزيز مواقعهم، حيث يزعم السعوديون أن اعتداءهم على اليمن جاء للقضاء على أنصار الله.

لا يمكن للحلّ المتمثّل في تشجيع أنقرة على التواجد في اليمن المطروح من قبل الإخوان المدفوعين إليه؛ بسبب ضعف موقعهم في ميدان اليمن والذي نجم عن الأحداث الأخيرة الحاصلة في جبهات الشمال (مأرب) ومحاور الجنوب (سقطرى) وبسبب المؤشرات والأدلة المطروحة بشأن مصالح اللاعب الفاعل والخاص في اليمن يعني السعودية، لا يمكن لهذا الحل أن يكون ناجحاً.

في الحقيقة أن أضرار مشروع وجود أنقرة في اليمن، لجهة إحياء مكانة الإخوان كبيرة جداً؛ وسوف تعد الأجواء لإضعافهم وحتى القضاء عليهم؛ وعليه تطبيق هذا المشروع المحدود والفاشل في المرحلة الأولى سينجم عنه استمرار مسار انشقاق هذا الحزب عن السعودية وتموضعه في أحضان تركيا، وفي المرحلة اللاحقة سيفضي إلى اندلاع مواجهة جدية بينهم وبين الرياض بسبب وقوفهم إلى جانب أنقرة. وفي العرض الأخير سيؤدي إلى تحييدهم وإقصاء وجودهم على الصعيد العسكري-السياسي، حيث كانوا سابقاً يحظون بدعم السعودية السياسي والاقتصادي والعسكري في اليمن حتى ضد الإمارات.

في المحصلة أن وجود أنقرة في اليمن -نظراً لوجود السعودية والإمارات التي دخلت خلال هذه السنوات في صراع معهم على نحوٍ ما- بوسعه أن يصب الزيت على نار العداوة بينهم ويسّعر الصراع القائم؛ وينذر ببداية لعبة جديدة تنفث دخانها في أعين اليمنيين.

وعلى الرغم من أن وجود أنقرة في اليمن سيكون لصالح أنصار الله على المدى القصير، سوف يلفت أنظار السعودية باتجاه أنقرة، لكن على المدى الطويل وجود لاعب خارجي أخر ومطالباته في اليمن سيعقد الأوضاع كثيراً.

فضلاً عن أن أنقرة تدرك أن الساحة اليمنية متباينة بشدة مع الساحة الليبية؛ لأن واضعي قواعد اللعب وعلاقات القوة في اليمن باستثناء المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة الإنقاذ الوطنية، تقع تحت نفوذ السعوديين والإماراتيين، والظروف في ليبيا ليست كما هي عليه في اليمن، بناءً عليه ينبغي القول إن أنقرة وحلفاءها المحتملين يعني الإخوان، مع تبلور لعبة جديدة في اليمن سيكونون الخاسرين الرئيسيين في الساحة اليمنية.


المصدر:

الدبلوماسية الإيرانية – https://b2n.ir/762753