مريم خالقي نجاد، باحثة في قضايا الشرق الأوسط.

على الرغم من العلاقات الجيدة والمستقرة التي جمعت العراق وتركيا في الماضي، غير أنه خلال السنوات الأخيرة تحولت أهم القضايا العراقية إلى قضايا أمنية وسياسية ومن ثم اقتصادية، وحتى هذه اللحظة تختبرُ علاقات البلدين حالة من افتقاد الاستقرار وتقبع تحت تأثيرات مختلف التطورات.

لقد دأبت تركيا على إقامة مرحلة جديدة من العلاقات مع العراق؛ حتى تتمكن من إدارة أهدافها الثلاثية في العراق المتمثلة في: (المياه، والطاقة، وحزب العمال الكردستاني)؛ وبالتالي تعمل على تعزيز موقعها وتعاظم قوتها في المنطقة بنحو أكبر. في المقابل يرغب العراق بشدة في إقامة علاقات مع تركيا لتحقيق مصالحه الوطنية كون تركيا تشكل جسراً للاتصال مع بقية الدول الأخرى.

وشهدت العلاقات التركية-العراقية خلال السنوات الماضية ولاسيما في المجال الاقتصادي مراحل كثيرة من الصعود والانحدار، وتمثل أول انحدار يسترعي الاهتمام تشهده هذه العلاقات في السنوات الأخيرة 2007 – 2014، فعلى الرغم من أن العلاقات كانت تمضي قدماً في عهد حيدر العبادي قاطعةً مراحل جيدة، لكن بعض الإجراءات التي اتخذتها إيران وبعض الدول الأخرى لجهة التصدي لداعش، حولت إلى حد ما التركيز على العلاقات مع تركيا إلى بعض الدول الأخرى، لتشهد العلاقات مجدداً انحداراً إلى حد ما. ركزت تركيا مساعيها بنحو أكبر على إقامة علاقات عسكرية أكثر منها اقتصادية مع العراق، فخلال المرحلة اللاحقة العائدة إلى عهد برهم صالح، أضيء الضوء الأخضر ثانية بين البلدين وتوفرت الأجواء لإمكانية قيام تعاون على نطاق أوسع.

يتمتع إقليم كردستان العراق بأهمية خاصة؛ لأن منطقة الإقليم تطمح لإقامة علاقات مع تركيا سابقة بذلك سائر أجزاء العراق العربية، فعلاقاتهما التأريخية مكونة من عدة طبقات، حيث يعتبر كردستان العراق نافذة لولوج تركيا إلى المناطق العربية العراقية، وهذا يعدُّ أمراً إيجابياً في علاقات الجانبين.

يتعيّن الانتباه إلى أن كردستان تسعى إلى إيجاد آلية إيجابية وإقامة علاقات أفضل مع الغرب أيضاً، حيث إن النتائج المترتبة على قيام مثل هذه العلاقات يمكنها فرض تأثيراتها على الأجزاء العربية في العراق، لكن بعد تطهير العراق نسبياً من داعش ولاسيما خلال العام الجديد، وتجاوز بعض التحديات السياسية الخارجية والداخلية -مثل التغيير المستمر للزعماء من جملتهم رؤساء وزراء العراق، وفي الوقت الراهن مع تسلم رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وانفتاح نافذة جديدة من التطورات في علاقات البلدين كما تناقل في الأخبار المختلفة عن الاتصال الهاتفي الذي جرى بين أردوغان ومصطفى الكاظمي بتأكيد استئناف العلاقات وتعزيزها ولاسيما في مجال الاستثمار والنشاط التجاري- فقد أعلن الجانبان رغبتهما في اتخاذ بعض الإجراءات التي تساعد في ردم الهوة بينهما.

لكن في هذه الغضون فإن توجه العراق إلى تركيا يحظى بأهمية بالغة، حيث يبدو أن العراق الآن تجاوز -إلى حد ما- قضايا مهمة من قبيل داعش، وبعض قضاياه الأمنية؛ لذا يحتاج العراق إلى إقامة علاقات اقتصادية جيدة مع الدول المجاورة حتى يتمكن من حل مشكلاته الاقتصادية، وانطلاقاً من هذا الأمر شهدنا خلال الأشهر الجارية في أعقاب تسلم مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء توجه العراق نحو بعض الدول الأخرى مثل تركيا.

تتمثل أهم المشكلات الداخلية العراقية في تقلبات أسعار النفط، ومن ثم الفساد الداخلي والاحتجاجات الشعبية التي طالت السياسة والأمن العراقي أكثر من العوامل الخارجية؛ وبهذا التعبير وطبقاً للتجربة المتمخضة خلال الأشهر الماضية عن تغيير شخص رئيس الوزراء وعدم اتخاذ بعض الإجراءات لمواجهة المشكلات الداخلية، يبدو أن الحكومة سوف تنبري أكثر من الأشهر الماضية لحل المسألة الاقتصادية وإقامة علاقات مع دول بعينها مثل تركيا؛ حتى تتمكن في المرحلة الأولى من حل القضايا الداخلية وإدارة التوترات الداخلية؛ ومن ثم تتحول معاجلة قضايا أخرى مثل القضايا الأمنية والسياسية أو المنافسة بين إيران وأمريكا في العراق. ومن جهة يبدو أنه على وفق تجارب مصطفى الكاظمي السياسية فهو يتبع نهجاً متوزاناً ومتعادلاً في علاقاته.

وهناك احتمال في حال تصاعدت حدة النزاعات الأمنية في العراق الناجمة بنحو أكبر عن عوامل خارجية، أن نشهد مرة أخرى انخفاض توجه العراق إلى تركيا ولاسيما لجهة إقامة علاقات اقتصادية، وسوف تسعى هذه الحكومة إلى التوجه بنحو أكبر للدول التي تجمعها معها مشتركات تتعلق بالقضايا الأمنية والسياسية.

في المقابل فإن تركيا -كما قيل آنفاً- تسعى إلى الاستفادة من تغيير الحكومة؛ بهدف الدخول ثانية إلى المعادلات الإقليمية وتوظيف التجاور مع العراق لصالحها؛ حتى تسترد نفوذها في العراق، وتتحول إلى أحد حلفائه الاقتصاديين، وتتربع على عرش العلاقات التجارية مع هذا البلد؛ لهذا شهدنا ترحيب حكومة أردوغان الحار بتشكيل حكومة مصطفى الكاظمي، التي قدمت مقترحاً، وكشفت عن رغبتها في إقامة تعاون اقتصادي وتجاري، ومن ثم عسكري مع الحكومة العراقية وتقديم العون لها في قضايا التنمية والإعمار والتطور.

في المحصلة -بناءً على الظروف الراهنة والإجراءات المتخذة خلال الأيام والأشهر الأخيرة- يتوقع أن يستفيد البلدين من هذه الفرصة وجعلها بمنزلة جسر لتحقيق أهدافهما بنحو أفضل وأسرع. لكن لا ينبغي في هذا التحليل تجاهل الفرص والتحديات، أو العوائق التي تعترض علاقات تركيا والعراق، حيث يمكن الإشارة إلى أمرين مهمين:

الأول: يمثل فرصة لهذه العلاقات ولاسيما ما يخص تركيا حيث يتمثل في الحاجة الاقتصادية العراقية لمعالجة القضايا الداخلية، وامتلاك مقدرة لحل القضايا الأمنية والسياسية، وتقليص بعض الارتباطات بالدول الأخرى؛ لجهة حل المشكلات السياسية والأمنية لهذا البلد.

الثاني: يعد بمنزلة عائق يحول دون استئناف هذه العلاقات وتعزيزها، ويمكن الإشارة إلى القضايا السياسية والأمنية ووجود احتمال لنشاط عمليات داعش واستئنافها مجدداً، وحاجة العراق إلى التركيز على هذا الأمر، واللجوء إلى بعض الدول الأخرى، ومن جهة أخرى عدم وجود إجماع عن موضوع النزاعات من قبيل النزاعات على المياه وبعض السدود المحدثة (مثل سد إليسو) التي يختلف عليها البلدان، فبإمكانه -في حال عدم التوصل إلى اتفاق- أن يفرز تأثيرات سلبية تلقي بظلالها على علاقات الجانبين.

المصدر:

المركز الدولي لدراسات السلام -IPSC