د. عادل البديوي، أكاديمي – جامعة بغداد/ كلية العلوم السياسية.

دعت الولايات المتحدة لحوار استراتيجي مع العراق ينطلق في حزيران المقبل لإعادة تنظيم العلاقة بين البلدين، وبحث القضايا الاستراتيجية كافة ومنها مستقبل الوجود العسكري الأمريكي. وذكر بيان صدر عن مكتب رئيس مجلس الوزراء السابق عادل عبد المهدي في الخامس من نيسان أن “المقترح يهدف لتحقيق مصالح البلدين في ظل القرارات والمستجدات في العراق والمنطقة”، مبينا أن “العراق رحب بذلك”[1].

ستشكل هذه الدعوة في حال إتمام المفاوضات العراقية الثانية على عقد اتفاقية بعد عام 2003 مع الولايات المتحدة بعد مفاوضات الاتفاقيتين الأمنية والإطار الاستراتيجي عام 2008 التي أدت إلى انسحاب القوات الأميركية نهاية عام 2011 وتنظيم بعض جوانب هذه العلاقات[2]. وجاءت هذه المبادرة للحوار نتيجة تصاعد التأزم في العلاقات بين البلدين عقب قرار البرلمان العراقي يوم الخامس من كانون الثاني بأنه: “يتعين على الحكومة العراقية أن تعمل على إنهاء وجود أي قوات أجنبية على الأراضي العراقية ومنعها من استخدام أراضيها أو مجالها الجوي أو مياهها لأي سبب”[3]؛ بعد الغارة الأميركية في الثالث من كانون الثاني التي أودت بحياة نائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، وضيفه قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، فضلاً عن سعي الولايات المتحدة لتنظيم وجودها العسكري في العراق قانونياً منذ عام 2014 بناء على رسالتين من الخارجية العراقية موجهة إلى مجلس الأمن التابع إلى الأمم المتحدة، لمواجهة خطر تنظيم داعش الإرهابي.

في ضوء هذه الدعوة والموافقة عليها، نوضح بداية أن العلاقات بين الدول تقوم حسب وجهة نظر المدرسة الواقعية على دعامتين: القوة، والمصلحة، فهي الموجه للسياسات والمرشد للسلوكيات في المسرح العالمي، لتفرض وجهة النظر هذه مجموعة أسئلة: ماذا تريد الولايات المتحدة من العراق؟ وفي مقابل ذلك ماذا يريد العراق منها؟ وهل هناك مصالح مشتركة تدفعنا للاتفاق؟ أم تتقاطع المصالح الأمريكية اليوم مع المطالب والاحتياجات العراقية؟ وكيف للعراق الدخول في مفاوضات يحقق بها مصالحه ويعمقها، إلى جانب ذلك يقيم علاقات متكافئة على أساس المساواة في السيادة على الرغم من التفاوت في القوة وأرجحية التأثير؟ وإذا لم يكن كذلك فما الطرق المتبعة لتحقيق المصالح؟ وكمحاولة للإجابة عن هذه الأسئلة، ولتجنب هذه الأرجحيات، لا بد للمفاوض العراقي من الاسترشاد بعدة مبادئ كمعايير في مفاوضاته القادمة ترتكز إلى:

أولاً: التفريق بين المواقف والمصالح: على المفاوض العراقي أن يفرق جليّاً بين المواقف/المطالب وبين المصالح. فالأولى هي المطالب الآنية والحالية، ماذا نريد؟ مثالها إخراج القوات الأميركية، وفي المقابل فإن مواقف الولايات المتحدة هي فرض عقوبات اقتصادية على العراق. لكن خلف تلك المواقف والمطالب تكمن المصالح والاهتمامات الحقيقية، والتي ستكشفها (لماذا؟) أي لماذا نريد ما نطالب به؟ وهنا وظيفة لماذا هي لتلافي التركيز كثيراً على المواقف، وحرف بوصلة المصالح، وإن التركيز على المواقف سيجعل المفاوضات متشددة وصلبة، وسننتقل بها بدلاً من البحث على مساحات مشتركة للتوافق إلى مضمار للتنافس تحت عقلية المكاسب والخسائر، وهذا سيضعنا أمام مطالب جديدة، وتشعبها سيفقدنا رؤية مصالحنا واهتماماتنا الحقيقية؛ مما يجعل في النهاية تأمين المصالح لكل طرف أقل وأقل احتمالاً، أو إلى انهيار المفاوضات بالكامل؛ وعليه فإن التشبث بالمواقف دون رؤية سيعطي اهتماماً أقل للمصالح، والمفاوض الفطن يجعل المواقف/المطالب أداة استكشافية للمصالح العراقية، وكذلك لمصالح الولايات المتحدة.

ثانياً: المفاوض التوفيقي: على المفاوض العراقي تجنب أن يكون مفاوضاً ليّناً أو متساهلاً، الذي يحاول فيه تجنب الصراع أو مسايرة الأقوى، فيقدم التنازلات بسهولة؛ من أجل الوصول إلى اتفاق أياً كان هذا الاتفاق، فهو يريد قراراً سليماً، ولكن غالباً ما ينتهي به الأمر إلى الشعور بالاستغلال من الطرف الآخر. في مقابل ذلك على المفاوض العراقي أيضاً تجنب الأسلوب المتشدد والصلب كسياق، هكذا أسلوب يكون قائماً على إظهار الشدة أكثر منه على المصالح -والذي لا يتفق والمبدأ الأول-، وسينظر إلى الاتفاق على أنه صراع إرادات، والطرف الذي يتخذ مواقف متزمتة ويقاوم أكثر ينال الأفضل؛ وهذا الأمر سيقود إلى مجابهة شديدة مماثلة تفسد العلاقة بالطرف الآخر، غير أن المفاوض الناجح هو الذي يزاوج بذكاء وفطنة المرونة والشدة في آن معاً، حسب ما تمليه تفاعلات التفاوض وديناميكياته.

ثالثاً: إدراك المصالح المتبادلة: على الرغم من التفاوت في مستوى القوة بين العراق والولايات المتحدة، غير أن للطرفين مصالح حيوية متبادلة، يمكن استثمارها إيجابياً وبنّاءً، فلا علاقات مميزة من دون مصالح، ولا مصالح من دون استدامة وتعميق لتلك العلاقات، فأحدهما ركيزة للآخر. ومن أهم طرق إدامة العلاقات والمصالح، هو تفهّم وإدراك كل طرف في هذه العلاقة لمصالح واهتمامات الطرف الآخر، وهنا تكون وظيفة المفاوض العراقي معرفة مصالحنا وفي الوقت نفسه مصالح الولايات المتحدة، وهذا يحتاج إلى التأمل والتدبر والبحث واستكشاف ما نريده وفيما يريده الاخر، للوصول الى ادراك متبادلا ومن ثم مكاسبا مشتركة. فليس المهم ان تعرف مصالحك فحسب، بل معرفة مصالح الآخر واهتماماته واحتياجاته الرئيسة، وهذا يتيح لك، من أين تبدأ، وأين تنتهي، ومتى تشد ومتى ترخ، لتكون خطواتك مترابطة، وطرقك متناسقة، ومكاسبك متبادلة، فالاتفاق الذي يلتقي مع المصالح الشرعية لكل طرف إلى أقصى حد ممكن ومتين ويحل المصالح المتضاربة باعتدال ويأخذ مصلحة المجموع بالحسبان فهو اتفاق معقول لكلا الطرفين؛ نتيجة الفهم والإدراك المشترك للطرفين لتلك المصالح المتبادلة.

وأهم المصالح الأمريكية التي ينبغي للمفاوض العراقي إدراكها تتركز بالعديد من الموضوعات: أولها: عدم عودة تنظيم داعش الإرهابي، فانسحاب القوات الأمريكية المنخرطة في العمليات المحلية ضد التنظيم، سيشكّل ضربة كبيرة للحرب على الإرهاب، إذ يمثل الانسحاب الأمريكي الحد بعمق من جهودها لسحق فلول داعش، ولا شك في أن عدد هذه الهجمات وشدتها سوف يزداد في غياب الضغط العسكري الذي تمارسه القوات الأمريكية والحليفة. فما تزال الولايات المتحدة ترى العراق كمنصة انطلاق للحرب ضد تنظيم داعش، والجماعات المتطرفة، فضلاً عن دعم العمليات العراقية ضد المسلحين، كما أن العمليات المستمرة ضد المعاقل التي ينشط فيها التنظيم بنفس القدر في سوريا ستقوَّض هي الأخرى بنحو فتّاك، ليزداد بالفعل أهمية موقع العراق كقاعدة بعد أن أصبحت أساسات الوجود الأمريكي في سوريا تبدو متزعزعة باستمرار؛ لهذا ترى الولايات المتحدة من الضروري أن يبقى لها وجودٌ عسكري في العراق، مهما كان متواضعاً، لضمان هزيمة تنظيم داعش نهائياً.  وتقدّر الأمم المتحدة أن داعش ما يزال يمتلك احتياطاً تصل قيمته إلى 300 مليون دولار لدعم حملته الإرهابية [4]، بينما يشير آخرون إلى أن التنظيم أعاد اليوم رصّ صفوفه سراً في العراق متجهّزاً بـ”تقنيات أفضل وأساليب أفضل”. وبسبب جميع هذه الأسباب تحديداً، تعهّد الوزراء الذين شاركوا في اجتماع “التحالف الدولي لهزيمة التنظيم الإرهابي في 14 تشرين الثاني 2019 بمواصلة دعم الحكومة العراقية من أجل “ضمان الهزيمة الدائمة للمنظمة الإرهابية”. وللوفاء بهذا التعهد، على الولايات المتحدة البقاء في العراق، وإلا فإنها تجازف بتكرار أخطاء عام 2011 حين أدّى الانسحاب المبكّر لقواتها بدون التنسيق مع القوات العراقية إلى صعود التنظيم في المقام الأول. ثانيها، الحد من النفوذ الإيراني، وهذا ما أكده تصريح لدونالد ترامب في 3 شباط 2019، “يجب أن تبقى القوات الأمريكية في العراق حتى تتمكن الولايات المتحدة من مراقبة إيران المجاورة عن كثب”[5]. إذ تواجه الولايات المتحدة خطرًا حقيقيًا للغاية بأن الأحداث في العراق ستؤدي إلى خروجها، وتقويض نفوذها ومكانتها، وسيُنظر على أنه هزيمة للولايات المتحدة، وستجعل الرحيل القسري للجيش الأمريكي أكثر عجباً؛ لأنه سيُخرج ايران منتصرة واكثر نفوذا بل ومهيمنة في صراعها الجيوسياسي في العراق والمنطقة؛ مما يلحق أضراراً جسيمة بالمصداقية الأمريكية في الشرق الأوسط الأوسع، ويهز الثقة في الاعتماد على الضمانات الأمريكية، ومن شأن كل ذلك أن يزيد الضغوط التي تشعر بها دول «مجلس التعاون الخليجي» لإرضاء إيران؛ مما يعني فعلياً انتزاع هزيمة أمريكية من بين أنياب النصر. فضلاً عن أن المغادرة تعني التنازل عن العراق لمزيج لا يمكن التنبؤ به من التطرف، والصراع الأهلي مثلما يحصل في سوريا، واليمن، وليبيا، وما يحصل في خصومها مثل إيران، وروسيا، والصين… فبقاؤها ليس فقط لضمان الأمن ومواجهة النفوذ الإيراني، ولكن أيضاً لروسيا، أحد المنافسين الصاعد المحددين في استراتيجية الأمن القومي. فلن يكون الصعود سهلاً، لكن إذا استمرت الولايات المتحدة في إلغاء تحديد أولويات العراق، فمن المؤكد أنها ستضيع بسبب المد الاستبدادي المتصاعد الذي يجتاح المنطقة. فالتنافس على القوة العظمى هو النظام السائد اليوم، ومع ذلك فإن التحركات في العراق ستكون بمنزلة تنازل واضح لكل من روسيا وإيران.

على الرغم مما تواجهه موسكو من منافسة في العراق من إيران، لكن الروس يميلون إلى محاولة التعاون مع إيران، إذ توحّدت معاداة أمريكا والمعارضة المشتركة للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط بين البلدين لسنوات. من جهة أخرى تعمل بغداد على توسيع نطاق التواصل مع الصين كجزء من جهد أوسع لتمويل إعادة الإعمار، ومع استمرار شهية بكين للطاقة في النمو، ستضع نظرها بنحو متزايد على الشرق الأوسط ولاسيما العراق بعد الانسحاب الأمريكي. ليشير ذلك إلى جميع أعداء الولايات المتحدة وحلفائها على حد سواء. إن القوة العظمى الوحيدة في العالم لا يمكن الاعتماد عليها كثيراً فربما تكون الولايات المتحدة قد وصلت إلى شكل من أشكال الفائض الصافي في صادرات البترول، لكنها أصبحت أكثر اعتماداً على الصحة العامة للاقتصاد العالمي منه على وارداتها النفطية المباشرة، ولاسيما من الخليج. وسيظل النمو الاقتصادي والاستقرار في العالم النامي يعتمدان على الوقود الأحفوري وصادرات الطاقة الخليجية للجيل القادم على الأقل. لقد زاد تدفق النفط عبر مضيق هرمز من 17.2 مليون برميل يومياً في عام 2014 إلى 20.7 مليون برميل في عام 2018 بزيادة قدرها 20%، وارتفعت صادرات الغاز الطبيعي السائل (LNG) إلى 4.1 تريليون قدم مكعب سنوياً. فمن الناحية العملية، يعتمد كل شريك تجاري رئيسي للولايات المتحدة في آسيا على التدفق المستقر لنفط الخليج الذي تعد أوروبا مستورداً رئيساً منه. تعتمد الدول النامية في جميع أنحاء العالم على موانئ النفط الخليجية للحفاظ على أسعار معقولة. وحقيقة أن الولايات المتحدة لم تعد مصدراً صافياً لا يعني أن أسعار النفط في الولايات المتحدة لن ترتفع على الفور إلى المستويات العالمية فور حدوث أزمة في الصادرات الخليجية. في العالم الواقعي، يعد “استقلال الطاقة” بمنزلة تسمم اقتصادي. وكما هو الحال مع الدول التي تعتمد بشكل أكبر بكثير على نفط الخليج، فإن كل وظيفة وأعمال أمريكية تعتمد اليوم على التدفق المستقر للنفط في الخليج مقارنة بما كانت عليه في عام 2000. ليس العراق هو الجانب الأكثر أهمية والأكثر غموضاً في أمن الخليج، بل هو جزء أساس من هذا التدفق النفطي. يمتلك العراق “ثروات نفطية” حقيقية بمعنى الكلمة، فلديه أكثر من 147 مليار برميل من احتياطيات النفط المؤكدة -حوالي 9% من إمدادات العالم- ونسبة عالية جداً من الاحتياطيات إلى الإنتاج الفعلي (4.6 مليون برميل يومياً في عام 2018). ولديه أيضاً 125.6 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز، التي يمكن أن تغذي التنمية الصناعية مع تقليل تكاليف إنتاج النفط [6]. وهذا ما أكده خبير شؤون الخليج كينيث بولاك من معهد بروكنجز، فإن الأمريكيين يشعرون بالقلق من التشابكات الجديدة بعد عقد من الحروب في العراق وأفغانستان. يقول بولاك إنه يعتقد أن اهتمام أمريكا بالعراق يتجاوز الإرهاب فهذا الاهتمام اقتصادي بنحو واضح، و”سيكون تحدياً حقيقياً لرئيس أمريكي أن يعود إلى الجمهور الأمريكي ويقول، أنت تعرف ماذا؟ لا يزال اقتصادناً قائماً في سوق النفط، وسوق النفط تتأثر بشدة بأي شيء يحدث في أماكن مثل العراق، وإذا لم نتعامل مع المشكلات في العراق، فقد نواجه ركوداً حاداً في الداخل”. لذلك فللعراق أولوية استراتيجية حاسمة في تأمين الخليج، وفي ضمان التدفق المستقر لصادرات النفط العالمية لتلبية الاحتياجات المتزايدة للاقتصاد العالمي. وآخرها، أن خروج الولايات المتحدة من العراق ستترك وراءها دولة على أبواب الفشل، تعاني من عدم كفاءة المؤسسات والفساد المتفشي والسياسة الطائفية والعرقية، ليمثل صورة سيئة وفشلاً ذريعاً للدور الأميركي في المنطقة وحججها في فرض ونشر الديمقراطية. ستكون إعادة بناء الصورة الأمريكية في العراق تحدياً حاسماً، وكذلك خلق أي شكل من أشكال الحكم الفعال. وهذا لا يتفق والقوة الناعمة الأمريكية.

أما المصالح العراقية -فتمثل أولها- بأن العديد من القادة العراقيين ما يزالون ينظرون إلى الوجود الأمريكي كأمر حيوي لأمنه، إذ يتطلع العراق إلى الولايات المتحدة للحصول على المساعدة التي تمس الحاجة إليها لإعادة بناء جيشه وتدريب قواته وتوفير الاستقرار الضروري لإعادة الإعمار بعد عقود من الحرب وسوء الإدارة الاقتصادية. فأفغانستان فقط تتلقى مساعدات أجنبية سنوياً من الولايات المتحدة أكثر من العراق. وإذن فالكونغرس الأمريكي بتدريب برامج للعراق حتى كانون الأول 2020، فمنذ عام 2014، خصص الكونغرس أكثر من 6.5 مليار دولار لبرامج التدريب والتجهيز العسكري الأمريكي للعراقيين. في الوقت نفسه، قدمت الولايات المتحدة 2.7 مليار دولار كمساعدات إنسانية. بموازاة ذلك، تدفق أكثر من 365 مليون دولار من المساعدات الأمريكية؛ لتحقيق الاستقرار إلى المناطق المحررة في العراق منذ عام 2016، فضلا عن إزالة الألغام، وإصلاح الإدارة المالية العامة العراقية، وغيرها من الأهداف. لتعكس الاحتياج إلى الولايات المتحدة ومواردها المالية وقيودها، وتمزج المساعدات الأمريكية للعراق بين البرامج الممولة من الولايات المتحدة مع ضمانات الإقراض والائتمان. لذلك فإن الانسحاب الأميركي دون بديل واقعي سيسبب الكثير من المشكلات في هذه القطاعات، وممكن أن يجر البلاد إلى الأنموذج السوري أو الليبي في محاولة الأطراف الداخلية والخارجية لملء الفراغ. ويخشى المسؤولون العراقيون “الانهيار” الاقتصادي إذا فرضت واشنطن عقوباتها، بما في ذلك منع أو تقييد الوصول إلى حساب مقره الولايات المتحدة حيث تحتفظ بغداد بعائدات النفط، وتأسس حساب البنك المركزي العراقي في بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 2003 في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة والذي أطاح بالدكتاتور السابق صدام حسين. وبموجب القرار رقم 1483 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإن جميع عائدات مبيعات النفط العراقي ستذهب إلى هذا الحساب والتي تغذي 90% من الميزانية الوطنية. حتى يومنا هذا، يتم دفع العائدات بالدولار في حساب الاحتياطي الفيدرالي يومياً، ويبلغ الرصيد الآن حوالي 35 مليار دولار؛ لذلك فإن فرض العقوبات يعني أن الحكومة لن تستطيع القيام بوظائف يومية أو دفع رواتب وأن العملة العراقية ستهبط في قيمتها؛ و”هذا سيعني انهيار العراق”. ولتجنب أي انهيار اقتصادي مستقبلي بسبب وجود ما يقرب من مليون باحث جديد عن عمل كل عام، يحتاج العراق إلى شراكة اقتصادية واستثمارات ووظائف في القطاع الخاص. وإذ يمثل في التحالف 12 دولة من دول مجموعة العشرين، فهو يُعدُّ منصة جاهزة من “أصدقاء العراق” تتمتع بقوة اقتصادية لا تضاهى. والانسحاب سيفقد العراق هذه الفرصة، إذا ترافق الخروج الأمريكي مع العقوبات، يعني أن العراق سيصبح معرّضاً لخطر داهم بالانزلاق مجدداً إلى العزلة المدمّرة التي عاشها أيام النظام السابق. وإن تراجع أهمية العراق الدبلوماسية وتوقف التعاون الاقتصادي، قد تُطرح خيارات جديدة قوية في مجال السياسة الخارجية ضد العراق، فمن المرجح أن تزداد العقوبات مع وجود سبب أقل للحدّ منها. كما ستزداد الخيارات العسكرية ضد حلفاء إيران، ليس فقط أمام الولايات المتحدة إنما أمام (إسرائيل) أيضاً؛ مما يجعل العراق أكثر شبهاً بمنطقة إطلاق النار في سوريا. وسيصبح الأفراد الناشطون في السياسة العراقية الذين صنفتهم الولايات المتحدة ضمن قائمة الإرهاب أكثر عرضةً للاستهداف الحركي.

وما ذُكر آنفاً لا يمثل قائمة المصالح الكاملة للطرفين، لكنه الأشد إثارة بينهما، وإن إدراك المفاوض العراقي للمصالح المتبادلة، سيتيح له معرفة مساحتي التقاطع والتشابك، وكيفي التعامل معهما، والتعرف على هذه المصالح سيجيز بكفاءة متى تستخدم المساومة، ومتى يكون التوافق، وأين تتصلب؟ كل ذلك توفره المعرفة المسبقة بمصالح الآخر؛ لذلك أن فهم هذه المصالح المتبادلة شرط أساس لتوليد خيارات مناسبة لكلا الطرفين، ومن ثم وضع مقاييس موضوعية لتسوية المصالح المتضاربة وصياغة الاتفاق.

رابعاً: العلاقة المركبة: دعوة الولايات المتحدة إلى إقامة حوار استراتيجي مع العراق، تعني ثلاث سمات في ضوئها: أن العلاقات بين الطرفين متشابكة ومتداخلة كما بينتها المصالح المذكورة، ولا يمكن التفريط بها أو التنازل عنها. ونتيجة هذا الترابط فإن التعاون سيقوم على إساس الاعتماد المتبادل بين الطرفين، لا تبعية طرف إلى طرف آخر على الرغم من التفاوت في القدرات؛ ليؤدي إلى الإدراك المشترك للمسؤولية المتبادلة التي تقع على عاتقهما لتحقيق المصالح.

خامساً: الحسابات العقلانية: تشكل هذه النقطة من أهم الدوافع للتفاوض، فوظيفة الاتفاقية، تقنين التعاون ومأسسته، وتبيان الواجبات والحقوق بين الطرفين، وآليات التعاون ومجالاته وكيفيته. وهذا يقوم على أساس المنطق العقلاني من حسابات الكلف والمكاسب، التي تدفع الطرفين إلى التفاوض من عدمه، فاللجوء إلى التفاوض بين العراق والولايات المتحدة سيعظم المكاسب للطرفين، وعدم المضي بها سيزيد من تلك الخسائر ويدهور العلاقات المركبة فيما بينهم، نتيجة ترك هذه العلاقات إلى الفوضى، والأمزجة المتغيرة، وعدم القدرة على تثبيتها في قواعد سلوك، وهذا من الدوافع الرئيسة للدعوة الأميركية في إقامة هذا الحوار الاستراتيجي، فمن الخسائر أو الكلف التي ستتحملها أميركا في حال فشلها في إقامة اتفاقية مع العراق هو الكلف المادية والبشرية منذ غزوها للعراق عام 2003 الذي بلغ نحو تريليون دولار، وأودى بحياة حوالي 5000 أمريكي، فهل ستترك كل ذلك وراءها؟ أو الخسائر العراقية من الفشل من التوصل إلى اتفاقية قد تقود الى تقوية الإقليمية والمناطقية والعرقية والطائفية على حساب الدولة الواحدة، وهذا ما لوحظ في تصريحات وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر في 15 شباط بأن “إقليم كردستان حليف مهم للولايات المتحدة في المنطقة”، فضلاً عما أثير أخيراً عن إقليم الأنبار وغيرها من مناطق العراق، والتي ستضعف من السيادة العراقية، فضلاً عن عودة تصاعد الهجمات الإرهابية منذ بداية عام 2020، الى جانب الخسائر في المجالات الاقتصادية والأمنية وغيرها، فهل سيضحي العراق بها؟

سادساً: التركيز على الموضوع لا القوة: في المفاوضات قد يتصور البعض أن الأقوى هو الذي يفرض شروطه، ويحقق مصالحه بغض النظر عن مصالح واهتمامات الطرف الآخر، غير أن هذه النظر قاصرة، وتفشل في تفسير ديناميكيات السياق التفاعلي للمفاوضات؛ وهنا لا بد للمفاوض العراقي من التفريق بين القوة التي تتمتع بها الولايات المتحدة التي لا تقارن بالقوة العراقية، والموضوعات التي يتم التفاوض حولها، وهنا يجب التركيز على قوة الموضوعات لا قوة الدولة، فالموضوع يمنحك القوة والتأثير والقدرة على المساومة حتى بوجود فوارق القوة بين الطرفين، وما يميز هذه المفاوضات أن الموضوعات الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة بالجغرافية العراقية وتدور حولها؛ وهذا يمنح المفاوض العراقي القدرة على تأكيد شروطه وضمان مصالحه؛ وبذلك تكون الموضوعات المعادل الموضوعي لتوازن القوى بين الطرفين، وهذا يحتاج من الطرف العراقي تحديد الموضوعات التي سيناقشها، وفصل الموضوعات المناقشة بعضها عن البعض، وترتيبها بحسب الأولوية، وعدم جعلها كتلة واحدة في بداية المفاوضات.

ثامناً: تجميع الموضوعات وتوصيلها: إن المفاوض الفطن هو الذي لديه القدرة والدراية على تجميع الموضوعات المتفاوض حولها وتوصيلها مع بعضها البعض، بعد أن فصلها في بداية المفاوضات، ورتبها حسب الأولوية، وهذا يفتح المجال لقبول التنازل على موضوع معين مقابل الكسب في موضوع آخر، وهذا يجب أن يدرك لتحقيق التوافق في المصالح المتبادلة.

تاسعاً: عدم الغموض: إذا أردنا التوصل إلى اتفاق طويل الأمد، وقابل للصمود، ولا يفسد الصلة بين الطرفين، أو يثير الشكوك والريبة ولاسيما على المستوى الشعبي، أن يتحلى الاتفاق بالوضح، في مواده وفقراته، ولا يحتمل التأويل المتباين، ويكون عملياً ومفيد لكلاهما، والأهم ألاً يتضمن بنود سرية أو يشاع أنه يحمل هذه الصفة؛ لأن ذلك سيكتب نهاية الاتفاق حتى قبل ولادته.

على المفاوض العراقي إدراك هذه المبادئ كمرشد لخطواته، وهي خلاصة مزاوجة الإطار النظري بالواقع العملي للعلاقات العراقية-الأمريكية.


[1]– بيان مكتب رئيس الوزراء على الرابط: https://www.pmo.iq/press2020/5-4-202001.htm.

[2]– للاطلاع على نص الاتفاقية يراجع: http://www.cabinet.iq/PageViewer.aspx?id=8

[3]– للمزيد حول نص القرار يراجع: https://bit.ly/3cDoY2d

[4]https://www.washingtoninstitute.org/

[5]– للاطلاع على مقررات التحالف يراجع:

https://www.diplomatie.gouv.fr/

[6]https://web.archive.org/


ملاحظة: الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء يتبناها المركز، وإنما تعبر عن وجهة نظر كتابها.