د. كرار أنور البديري، دبلوماسي ورئيس قسم البحوث في معهد الخدمة الخارجية – وزارة الخارجية العراقية.

لقد كشفت أزمة جائحة كورونا عن هشاشة القوى الغربية في النظام العالمي، حتى أن العالم بدا ليس حقيقةً، بل أيديولوجيةً صنعتها القوى الليبرالية الغربية تلميعاً لذاتها. وهو ما بانت علائمه في التهديد الذي أخذ يحيق بقوة الغرب، والتعجيل بانتقال القوة نحو الشرق.

وبعيداً عن الإطناب النظري والدخول بمضامين المدارس الفكرية، فعلى ما يبدو أن الصين كانت تتحين للفرصة التي يتعرض لها النظام العالمي لهذه الاختلالات البنيوية بين أبرز فاعلية، وهو ما أشار إليه الرئيس الصيني شي جين بينغ بوضوح في مؤتمر الحزب الاشتراكي الصيني في العام 2018، بشأن الأعمال الخاصة بالشؤون الخارجية حينما قال: “إذا طبقت خطة ماركس التحليلية في الوقت الحالي، فمن الواضح أن النظام الحالي يتواجد في نقطة فاصلة تشهد تراجع الغرب الكبير والمتزامن مع الظروف الدولية والوطنية المناسبة  التي مكنت الصين من التقدم”، وحسب شي: “فالصين تنمو بنحو أحسن منذ بداية الأوقات المعاصرة، بينما يشهد العالم تغيرات عميقة لم يسبق لها مثيل”([1]).

وليس من الغريب القول: إن النظام العالمي يشهد العديد من الاختلالات السياسية والاقتصادية والمؤسسية، إلا أن الغرب الليبرالي بقي يتوارى خلف تلك الاختلالات، وكان يدافع بقوة عن النظام العالمي بصيغته الراهنة، غير أن هذا التناقض الغربي عزز من ثقة الصين الزائدة بنفسها، وهو ما كشفته أزمة جائحة كورونا.

ويبدو أن حكمة “حجب السطوع وتغذية الغموض” في الاستراتيجية الصينية، ومقولة الرئيس الصيني السابق دنغ شياو بينغ: “خبأ قوتك، خذ وقتاً كافياً، ولا تأخذ مركز القيادة أبداً”، قد غادرتها الصين في السياسة الخارجية مع أول أزمة تعصف بالنظام العالمي؛ مما حفز الرئيس شي جين بينغ إلى إطلاق العنان للقيادة الصينية في النظام العالمي، والعمل بنحو أكبر؛ لتمكين فكرته العالمية من الخروج بشكل شامل إلى حيز الوجود([2]). متحدياً بذلك نظرة الغرب للصين.

فعادة ما ينظر الغرب إلى الصين بطريقة منقوصة؛ بسبب النظام الاستبدادي في الصين([3])، وتزداد هذه الصورة نمطية حينما يتعلق الأمر بالقوة الصينية في النظام الدولي، فحاصل جمع القوة مع النظام الاستبدادي عند الغرب يساوي “التهديد الصيني”؛ لذلك غالباً ما يوصم الغرب الصين بأنها “قوة غير مسؤولة” في العلاقات الدولية، أي: قوة غير ملزمة بالقواعد والقيم الليبرالية التي تحكم سلوك الدول في النظام الدولي والقائمة على الديمقراطية، ورأسمالية السوق الحرة، وحقوق الإنسان([4]). غير أن الرئيس شي يبدو مصمماً على وضع حد لفكرة نهاية التأريخ لفرانسيس فوكوياما، بشأن تعزيز الرأسمالية والديمقراطية الغربية، وهذا ما بينته بوضوح أزمة جائحة كورونا.

لذلك حينما أعلنت الصين إجراءات غير مسبوقة لمكافحة فيروس كورونا المستجد في كانون الثاني 2020، أشار الكثير من المعلقين الغربيين إلى أنه “سيكون من الصعب اتخاذ إجراءات مماثلة في دول العالم الديمقراطي”. في إشارة إلى عدم مراعاة الصين لحقوق الإنسان في إجراءات الحجر الصحي، ولاسيما بعد أن وضعت إقليم هوبي بأكمله تحت الحجي الصحي بسكانه البالغ عددهم 56 مليون شخص. ولكن منذ ذلك الحين يبدو “أن الصين سيطرت على وباء كورونا، بينما ازدادت أعداد المصابين في سائر أرجاء العالم بأضعاف المرات في غضون أسابيع”([5]).

وفي ظل العجز الغربي عن الاستجابة لوباء كورونا في الوقت الذي يتطلع العالم نحو الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تولي القيادة ووضع مقاربة قوية للتعامل مع الفيروس، بدأت الصين في تقديم مساعدتها للعالم. فمع تضاؤل الإصابات اليومية في الداخل أخذت الصين تشن ببراعة هجوماً في دبلوماسية المساعدات نحو الخارج. ففي الوقت الذي يكافح العالم للسيطرة على الفايروس، أرسلت الصين أقنعة وإمدادات طبية وخبراء إليها. فمن اليابان إلى العراق ومن إسبانيا إلىالبيرو قدمت الصين مساعدات إنسانية بشكل تبرعات أو خبرات طبية أو وعدت بتقديم ذلك. وهي الحملة الدبلوماسية التي تسعى الصين من خلالها إلى عكس صورة البلد المتضامن مع الآخرين، وإعادة وضعها وتحسين صورتها في السياسة الدولية بوصفها دولة مسؤولة ورائدة في ظل جائحة كورونا العالمية، وليس كدولة حاضنة لوباء كورونا([6]).

وبقيامها بذلك أخذت الصين تتقلد الدور الذي كان الغرب يسيطر عليه ذات مرة، في أوقات الكوارث الطبيعة أو الطوارئ الصحية العامة، عبر إرسال ملايين الأقنعة، وفرق الخبراء الطبيين، ونسب الفائدة المتدنية، وهو الذي تخلى عنه الرئيس دونالد ترامب بنحو متزايد بعد تراجعه عن المشاركة الدولية في النظام العالمي وتشبثه بمبدأ “أمريكا أولاً”. يقول راش دوشي مدير مبادرة استراتيجية الصين في معهد بروكنجز في واشنطن: “قد تكون هذه أول أزمة عالمية كبرى منذ عقود من دون قيادة أمريكية ذات مغزى، وقيادة صينية مهمة”. وأضاف: “قبل بضع سنوات فقط قادت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب ضد فيروس الإيبولا”([7]).

في الواقع أن الاستجابة الصينية لأزمة جائحة كورونا حول العالم، هزت الصورة الأمريكية في النظام الدولي، وغيرت بعض المفاهيم في السياسة الدولية عن الترابط الدولي والتضامن العالمي الذي ينادي به الليبراليون في الغرب، ولاسيما بعد أن أخذت الدول -بما في ذلك الدول الأوروبية- تتجه انظارها نحو الصين لطلب المساعدة. فقد قال الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش -بعدما رفضت المفوضية الأوروبية إمداد صربيا باللوازم الطبية-: إن “التضامن الأوروبي مجرد فقاعة لا أساس له على أرض الواقع، كانت تلك حكاية خرافية على الورق”. وأشاد الرئيس الصربي بالصين وبموقفها الأخلاقي والإنساني بمقابل الابتزاز الأوروبي لصربيا، وقال: “أنا أؤمن بأخي وصديقي شي جين بينغ، وأنا أؤمن بالمساعدة الصينية”([8]). وفضلاً عن ذلك كله أرسلت الصين فرقاً طبية إلى إيطاليا التي تعد ثاني أكثر البلدان تضررا في العالم بسبب فيروس كورونا في لفتة لإظهار التضامن مع الشريك الأول للصين من الاتحاد الأوروبي في إطار مشروع الحزام والطريق الصيني([9]).

وفي الواقع أن الاستجابة الصينية كانت أكثر فاعلية من الاستجابة الأمريكية لمواجهة وباء كورونا حول العالم، ففي الوقت الذي تحث الصين المجتمع الدولي لتعزيز التضامن الدولي لمكافحة فيروس كورونا المستجد([10])، تتخبط إدارة ترامب داخلياً وخارجياً في الاستجابة لوباء كورونا، ويعزى ذلك إلى أن إدارة ترامب غير فاعلة في مواجهة الأوبئة مقارنة بإدارة أوباما التي كانت تميل نحو المشاركة والتحرك نحو الإطار المتعدد الأطراف في حل المشكلات العالمية، مقارنة بالمشاركة المحدودة والمشروطة لإدارة ترامب([11]). فعلى سبيل المثال بعد تفشي فيروس إيبولا في العام 2014، أعلن الرئيس أوباما أن انتشار فيروس إيبولا في دول غربي أفريقيا “تهديد للأمن العالمي”، معلناً دوراً أكبر لبلاده في مكافحة الفيروس، وبصدده استضافات إدارة أوباما قمة دولية لوضع ترتيبات عالمية للتعامل مع الأوبئة في المستقبل، وقد أنشأت وحدة للاستجابة في مجلس الأمن القومي الأمريكي للتركيز على هذه القضية. ولكن حُلّت هذه الوحدة من قبل إدارة ترامب في العام 2018، وعانت المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها من تخفيضات مالية جذرية في أنشطة الوقاية من الأوبئة ([12]).

تقول في هذا الصدد مارينا رودياك الخبيرة في المساعدات الخارجية الصينية في جامعة هايدلبرغ الألمانية: “يوفر فشل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تحت إدارة ترامب في تقديم أي استجابة دولية ذات معنى، وانشغالات الاتحاد الأوروبي بالاستجابة المحلية، فرصة فريدة لحكومة الصين لاستغلال هذه الوضع، وإعادة تموضعها كزعيم عالمي بديل عن الولايات المتحدة الامريكية”([13]).

 والحالة هذه أعطت الإخفاقات العالمية في مواجهة فيروس كورونا من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية القيادة الصينية الفرصة لإثبات أنموذجها في العمل الطوعي والتعاوني مع الدول الأخرى مع كسب بعض المميزات الجيوسياسية حول العالم([14])، ولاسيما تجاه الاتحاد الأوروبي الذي سعت الصين في السنوات الأخيرة إلى اكتساب النفوذ في البلقان، ولاسيما من طريق الاستثمارات الضخمة قائمة على تقديم القروض الميسرة لتعزيز البنية التحتية في البلدان التي تعاني من ضائقة مالية([15]).

لذلك تدور بعض الرؤى على أن الصين تركز في استخدام أزمة جائحة كورونا كفرصة للتعبير عن تفوق أنموذج، وإعادة تموضعها كزعيم عالمي بديل عن الولايات المتحدة الأمريكية. وليس من الغريب أن تستخدم الصين هذه الأزمة لتوسيع شراكاتها حول العالم وتوسيع نفوذها الجيوسياسي في إطار مبادرة الحزام والطريق. لطالما كانت الصين “تتطلع إلىالتأكيد على دور أكثر بروزاً في الأمم المتحدة والفاعليات الدولية الأخرى في الوقت التي تظهر فيه نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري في أجزاء أخرى من العالم، وفي بعض الأحيان في منافسة مباشرة مع الولايات المتحدةالأمريكية”([16])؛ لذلك ينذر عالم ما بعد كرورنا بتعجيل انتقال القوة نحو الشرق، وظهور علائم القيادة الصينية، فما بعد انتهاء الجائحة قد تبذل الصين جهوداً إضافية لملء الفراغ في قيادة العالم([17]).

ومهما يكن من أمر، تحاول الصين الاستفادة من أزمة فيروس كورونا لإصلاح صورتها الدولية التي تضررت بشدة بعد تفشي في فيروس كورونا في مدينة ووهان، فضلاً عن تعزيز مكانتها الدولية بوصفها قوة للخير في العالم، وليس كما يروج لها الغرب بوصفها خطراً محدقاً بالعالم. وتروج لنجاحها في احتواء تفشي فيروس كورونا، وتلف النظر نحو إنسانيتها في تقديم المساعدات الطبية مقارنة بالدول الغربية، وتشير إلى تقدم الحزب الشيوعي ونجاحه وتفوقه على الديمقراطيات المتعثرة في الغرب ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية([18]). ففي إشارة إلى تدوير الأزمة لصالح الحزب الشيوعي الصيني ذكر الرئيس الصيني شي جين بينغ أمام ملاكات الحزب الشيوعي مؤخراً: أن الانخفاض الأخير في الإصابات “أظهر مرة أخرى المزايا البارزة لقيادة الحزب الشيوعي الصيني ونظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”([19]).


المصادر :

[1] Kevin Rudd, Xi Jinping’s Vision for Global Governance, Asia Society Policy Institute, Jul 11, 2018. At:

  https://asiasociety.org/policy-institute/xi-jinpings-vision-global-governance

[2]– Ibid.

[3]– تشانغ وي وي، الزلزال الصيني: نهضة دولة متحضرة، ترجمة محمد مكاوي- ماجد شبانة، ط1، (القاهرة: سما للنشر والتوزيع، 2016)، ص233.

[4]– كرار أنور البديري، دروب القوة العظمى: الاستراتيجيات الكبرى للولايات المتحدة الامريكية، ط1، (بيروت: دار الرافدين للنشر والتوزيع، 2018)، ص 82.

[5]– يبابلو أوشوا، كيف تكافح الدول الديمقراطية فيروس كورونا مستفيدة من الصين السلطوية؟، بي بي سي، 13 آذار 2020. ينظر الرابط الاتي: https://www.bbc.com/arabic/world-51870197

[6]– Steven Lee Myers and Alissa J. Rubin, Its Coronavirus Cases Dwindling, China Turns Focus Outward, The New York Times, March 18, 2020. At: https://www.nytimes.com/2020/03/18/world/asia/coronavirus-china-aid.html

[7]– Ibid.

[8]– الرئيس الصربي يهاجم الاتحاد الأوروبي ويشكر الصين، موقع قناة الميادين الاخباري، 18 اذار 2020. http://www.almayadeen.net/videos/1386786/

[9]– الصين تحاول تلميع صورتها من خلال “دبلوماسية الأقنعة”، وكالة فرانس برس، 20 اذار 2020. https://www.afp.com/ar/news/3962/doc-1q17xc1

[10]– أقوال الرئيس الصيني شي جين بينغ في تعزيز التضامن الدولي لمحاربة كورونا الجديد، صحيفة الشعب اليومية، 13 اذار 2020:

http://arabic.people.com.cn/n3/2020/0313/c31660-9668166.html

[11]– كرار أنور البديري، براديغما للفهم: النظريات المؤسسة للسياسية الخارجية الامريكية، ط1، (بيروت: دار السنهوري، 2018)، ص 281.

[12]– Gideon Rachman, Coronavirus: how the outbreak is changing global politics, The Financial Times, February 28 2020.

[13]– نقلا عن: الصين تحاول تلميع صورتها من خلال “دبلوماسية الأقنعة”، مصدر سبق ذكره.

[14]– Steven Lee Myers and Alissa J. Rubin, op.cit.

[15]– الصين تحاول تلميع صورتها من خلال “دبلوماسية الأقنعة”، مصدر سبق ذكره.

[16]– Steven Lee Myers and Alissa J. Rubin, op.cit.

[17]– Dennis Ross, The U.S. Should Have Led the Coronavirus Response. Instead, China Stepped Up, Washington Post, March 20, 2020.

[18]– Ibid.

[19]-نقلا عن: هو يو شيانغ وو سي كه، مفهوم “العالم” في الحوكمة الصينية، صحيفة الصين اليوم، 10 اذار

2020:

http://www.chinatoday.com.cn/ctarabic/2018/zggc/202003/t20200310_800196362.html