بعد مدة هدوء قصيرة، عادت الأوضاع في العراق إلى التدهور مرة أخرى، إذ تخوض كل من الولايات المتحدة والفصائل المسلحة المتحالفة مع إيران جولة جديدة من الصراع مع بعضها بعضاً. وفي هذه المرة، وقعت المملكة المتحدة في مرمى النيران، ففي 11 آذار الحالي أدى هجوم صاروخي على معسكر التاجي في العراق إلى مقتل جندي بريطاني وجنديين أمريكيين، وردت الولايات المتحدة بسرعة عبر شن ضربات جوية ضد كتائب حزب الله -الفصيل العراقي الذي تحمله الولايات المتحدة مسؤولية الهجمات.

وفي الوقت الذي يركز فيه العالم على فايروس كورونا المستجد، ما يزال خطر التصعيد في الشرق الأوسط حقيقياً. ومع استمرار الاشتباكات العسكرية بين القوات الأمريكية إيران بصورة غير مباشرة في العراق -وفي غياب تواصل سياسي مباشرة بين واشنطن وطهران- من الصعب تخيل كيف سيخفف الطرفان من حدة التوتر نهائياً.

يستضيف معسكر التاجي قوات من التحالف الدولي الذي يقاتل تنظيم داعش، وتشير التقارير الأولية[1] إلى أن الفصائل أطلقت صواريخ كاتيوشا عيار 107 ملم على القاعدة من شاحنة راجمة معدلة يدوياً، وسقطت 18 قذيفة من أصل 30 في المعسكر، وفضلاً عن القتلى البريطانيين والأمريكيين، أصيب 14 شخصاً من أفراد التحالف أيضاً. ولم تعلن أي جماعة مسؤوليتها عن الهجوم رسمياً، لكن رئيس القيادة المركزية الأمريكية الجنرال كينيث ماكنزي وجه أصابع الاتهام إلى كتائب حزب الله قائلاً إنها نفذت عمليات مماثلة ضد القوات الأمريكية في السابق[2]. وبعد مدة وجيزة، أصدرت كتائب حزب الله بياناً [3] نفت فيه مسؤوليتها عن الهجوم، لكنها أشادت بالجهة المسؤولة عنه، وطالبتها بتحديد هويتها.

في 12 آذار، شنت القوات الأمريكية غارات جوية استهدفت مستودعات أسلحة كتائب حزب الله في خمسة مواقع جنوب بغداد، وأصدر الجيش العراقي بياناً دان فيه الضربات، وأكد مقتل خمسة عسكريين عراقيين يعملون في وزارتي الدفاع والداخلية، إلى جانب مقتل مدني واحد في العملية. وسيعود النقاش السياسي عن إجبار القوات الأمريكية على مغادرة العراق في ضوء هذه الجولة من الضربات إلى الواجهة مرة أخرى[4]. ومن المرجح أن تقوم هذه الجماعات مرة أخرى بأعمال انتقامية أخرى ضد الولايات المتحدة. وبعد يوم واحد من الهجمات على معسكر التاجي، قال رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة الجنرال مارك ميلي: “لا يمكنك إطلاق النار على قواعدنا، وقتل الأمريكيين وإصابتهم والإفلات بفعلتك”. ومع ذلك، وصفت وزارة الدفاع[5] رد الجيش بأنه “انتقامي”، وأكدت أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى صراع أوسع مع إيران.

وتأتي هذه الجولة الأخيرة من العنف بعد شهرين فقط من اغتيال الولايات المتحدة للجنرال الإيراني قاسم سليماني والمسؤول العسكري العراقي الكبير ومؤسس كتائب حزب الله أبو مهدي المهندس في أعقاب سلسلة من الهجمات المدعومة من إيران في العراق، وخليج هرمز، والمملكة العربية السعودية. وردت إيران على الاغتيالات بإطلاق أكثر من عشرة صواريخ على قواعد تستضيف القوات الأمريكية في العراق؛ وبما أن الضربة لم تسفر عن مقتل أي أمريكي، امتنع الرئيس دونالد ترامب عن الرد (وبدا فيما بعد أنه قلل من شأن الإصابات الشديدة التي ألحقتها الصواريخ ببعض الجنود الأمريكيين).

في ذلك الوقت، زعمت إدارة ترامب أنها أعادت الردع الأمريكي عبر قتل سليماني، ويعتقد بعض المراقبين أن الانتقام الإيراني انتهى بالضربات الصاروخية على القاعدة الأمريكية، لكن، وعلى الرغم من أن إيران لم توجه هذه الهجمات الأخيرة، فمن الواضح أنها لن تمنع وكلاءها من التصرف ضد الولايات المتحدة. إن حقيقة انهيار الردع الأمريكي، وعدم قدرة واشنطن على فرض خطوط حمر على الهجمات ضد منشآتها في العراق سيزيد من تكلفة التصعيد. لدى الجماعات المسلحة المدعومة من إيران باع طويل في مهاجمة المصالح الأمريكية والبريطانية في العراق، وبالنظر إلى عدم اعترافها بالخطوط الحمر للولايات المتحدة أو استعدادها للتخفيف من حدة التصعيد، قد لا تتمكن إيران من إجبار هذه الجماعات على القيام بذلك حتى الآن.

لقد بينت الحكومة الإيرانية منذ مدة طويلة رغبتها في مغادرة القوات الأمريكية العراق، وتحاول الجماعات السياسية العراقية الموالية لإيران إجبار الولايات المتحدة على الانسحاب منذ شهور. وفي شهر شباط الماضي قال المستشار العسكري لآية الله السيد علي خامنئي العميد حسين دهقان[6] إن “الضربات التكميلية ستحدث بمرور الوقت”؛ بهدف إخراج القوات الأمريكية من الشرق الأوسط، وأشار إلى أن إيران “لا ترى أي سبب لتآمر” وكلاءها بالعمل، لكنها “لن تمنعهم من التصرف”. وربما أدى قتل الولايات المتحدة للمهندس إلى إزالة القوة المنظمة للفصائل العراقية الموالية لإيران؛ مما ترك فراغاً في القيادة قد تشعر فيه الفصائل إلى الحاجة لتنسيق أنشطتهم مع إيران. إن احتمالية أن تسعى هذه الجماعات إلى الانتقام أكثر من إيران كبيرة، بالنظر إلى أنها تكبدت معظم الخسائر من الضربات الانتقامية الأمريكية في العراق، وامتعاضها من الولايات المتحدة. ومع ذلك، فإن إجراءاتهم في الوقت الحالي تساعد طهران على ممارسة الضغط على واشنطن.

وبينما تبدو الولايات المتحدة وإيران متلهفتين لتفادي أي نزاع مباشر مع بعضهما بعضاً، يبدو أن دورة العدوان العسكري في العراق ستستمر على الأرجح؛ مما يخاطر بتصعيد غير مقصود ويجر العراق -الذي يعاني بالفعل من اضطرابات سياسية واقتصادية- إلى المزيد من عدم الاستقرار. ومن دون مسار سياسي قابل للبقاء، فمن المرجح أن تتبنى إيران وحلفاؤها حملة استنزاف تهدف إلى إلحاق أكبر قدر من الألم للولايات المتحدة وحلفائها في العراق. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية المزعم إجراؤها في شهر تشرين الثاني، قد لا يتقبل ترامب هذه الضربات، ولاسيما إذا ازادت مشكلات الولايات بسبب فايروس كورونا.

وعلى النقيض من ذلك، ترى إيران أن الخسائر التي تكبدتها الفصائل المسلحة العراقية مقبولة نسبياً، ولا تعدّ طهران ترامب ضعيفاً فحسب، بل تؤمن أيضاً أن هناك فرصة لإجبار الأمريكيين على الخروج من العراق. وفي الوقت الذي تبدو فيه إدارة ترامب مستعدة للرد على إيران عسكرياً، يبدو أن طهران مقتنعة بأن بإمكانها التفوق على الولايات المتحدة في حرب استنزاف. وبالنظر إلى الضغوط الأمريكية الكبيرة على إيران، لا يوجد ما يحفز طهران للتخفيف من حدة التصعيد ما لم تخفف واشنطن عقوباتها على إيران.

وبناءً على هذه الوقائع، يجب على العراق والمجتمع الدولي زيادة جهودهما للحيلولة دون انجرار البلاد إلى دائرة الصراع بين الولايات المتحدة وإيران. وكجزء من الحل، على الحكومة العراقية أن تفعل المزيد؛ لتؤكد سيطرتها على قوات الأمن الداخلي؛ بهدف منع إيران والجماعات الموالية لها، والولايات المتحدة (وكذلك المملكة المتحدة) من استهداف بعضهم بعضاً في العراق. وعلى الأوروبيين أن يعملوا على إقامة قنوات اتصال خفية بين الولايات المتحدة وإيران -على الأقل- لوضع قواعد اشتباك تحمي سيادة العراق، وتمنع المزيد من التصعيد. ويجب أن تكون الجولة الأخيرة من العنف بمنزلة تذكير آخر إلى الحاجة الملحة لإيجاد مخرج سياسي بين إيران والولايات المتحدة.


المصدر:

https://www.ecfr.eu/amp-article/commentary_escalation_nation_iraq_and_the_us_iran_rivalry?__twitter_impression=true

[1] https://www.nytimes.com/2020/03/11/world/middleeast/us-troops-killed-iraq-rocket-attack.html

[2] https://www.bbc.com/news/world-middle-east-51850880

[3] http://www.kataibhezbollah.com/news/3073

[4] https://warontherocks.com/2020/01/iraq-still-might-force-the-united-states-out/

[5] https://t.co/mJFkjs04lz?amp=1

[6] https://www.ft.com/content/3b5b6ef2-63e5-11ea-b3f3-fe4680ea68b5