خط أنابيب الغاز الذي يمنح قوة خاصة لتركيا وروسيا

شهره بولاب، دكتوراه في الجغرافيا السياسية

افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يوم 8 كانون الثاني 2020 خط أنابيب ترك ستريم الجديد لنقل الغاز الروسي من طريق البحر الأسود إلى تركيا ومنها إلى أوروبا الجنوبية الشرقية والوسطى.

يعاظم ترك ستريم من مكانة تركيا الجيوستراتجية لتصبح محوراً في الطاقة، يربطها بمساعي روسيا الرامية إلى حجز حصتها في سوق الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي. فمن جانبه وصف أردوغان المشروع بأنه “مشروع يحظى بأهمية تأريخية بالغة” في علاقات البلدين، في حين عدّه بوتين مؤشراً على “تواصل وتعاون يصب في مصلحة شعبي البلدين والأوروبيين والعالم بأسره”.

يعد خط أنابيب ترك ستريم الذي تبلغ طاقته الاستيعابية 31.5 مليار متر مكعب من الغاز الروسي ينقلها في اتجاهين منفصلين إلى تركيا واتجاه آخر إلى دول بلغاريا، وصربيا، والمجر، إذ يعدّ هذا المشروع لروسيا التي افتتحت في شهر كانون الأول للعام الماضي مشروع خط أنابيب غاز “قوة سيبيريا” العظيم نجاحاً آخر لمساعيها الرامية إلى زيادة مسارات تصدير الغاز.

وإن ترك ستريم يضمن موقع تركيا الجيوستراتيجي كمحور للطاقة، ويمهد الطريق أمام طموحات أنقرة في هذا السياق طبعاً بمساعي روسيا لتعزيز وجودها في سوق الغاز الطبيعي في الاتحاد الأوروبي.

تجمع روسيا وتركيا علاقات قوية في مجال الطاقة، فتركيا مرتبطة بالطاقة كونها تستورد الغاز الروسي على نطاق واسع، وتحتاج روسيا بموقعها الجيوسياسي إلى تركيا؛ وهذا الأمر يجعل من تركيا دولة ترانزيت وعبور وكذلك دولة مستهلكة أيضاً.

بدوره فرضَ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الـ20 من كانون الأول 2019 عقوبات على خطوط أنابيب الغاز “نوردستريم2″ و”ترك ستريم”. إذ تعد مخاوف الولايات المتحدة من هيمنة موسكو المتعاظمة على أسواق الطاقة الأوروبية، وكذلك تجاهل دور أوكرانيا في ترانزيت الغاز الطبيعي، من جملة أسباب وعوامل معارضة هذا المشروع.

ولا تقتصر المواجهة بين الولايات المتحدة وروسيا على الميدان العسكري والدفاعي فحسب بل تتعداه إلى ميدان الطاقة أيضاً. قبل عقد من الزمن كانت الولايات المتحدة والكثير من حلفائها في أوروبا الشرقية يتهمون موسكو باستخدام صادراتها من الغاز الطبيعي كأداة للإضرار بالجيران.

إلى جانب مخاوف الولايات المتحدة بشأن أوروبا وأوكرانيا، يمكن أخذ ميزان الطاقة التجاري لهذا البلد مع تركيا بالحسبان. فأمريكا تصدر منذ عام 2016 الغاز الطبيعي المسال إلى تركيا، وطبق بيانات تقرير وزارة الطاقة الأمريكية الصادرة في شهر آب 2019 فقد أضحت تركيا بعد إسبانيا ثاني دولة مستوردة للغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة في أوروبا وآسيا الوسطى.

تذكر إحصاءات إدارة معلومات الطاقة الأمريكية في عام 2016 صدّرت أمريكا 3.53 مليار متر مكعب غاز طبيعي مسال إلى تركيا ليتصاعد عام 2018 إلى 5.38 مليار متر مكعب. ونظراً إلى تصاعد حجم صادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكي وحجم الاستثمار التركي الكبير في منشآت تخزين الغاز الطبيعي ومنشآت الغاز الطبيعي المسال، يُتوقع أن ترتفع صادرات الغاز الطبيعي الأمريكي المسال إلى تركيا خلال الأعوام المقبلة.

تطمح تركيا والولايات المتحدة لبلوغ هدف الـ 100 مليار دلار في حجم التجارة بين الجانبين إبان العقد المقبل، حيث تحظى تجارة الطاقة في هذا المجال ولاسيما تجارة الغاز الطبيعي المسال بمكانة خاصة.

شهدت علاقات واشنطن-أنقرة خلال الأشهر السابقة تدهوراً، واجهت تركيا التي اشترت أنظمة دفاع جوي روسية متطورة في تموز 2019 وشنت هجوماً على المليشيات الكردية السورية المتحالفة مع الولايات المتحدة في تشرين الثاني الماضي واجهت إجراءات عقابية أمريكية من قبيل رفض حكومة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تسليم مقاتلاتF-35 المتطورة إلى تركيا، وفرض عقوبات على كبار المسؤولين الأتراك وزيادة الرسوم الجمركية على صادرات الصلب التركية. فإذا تحولت تركيا إلى معارض حقيقي للولايات المتحدة فحينئذ سيشكل هذا الأمر فرصة سانحة لروسيا لاستغلال الخلاف الحاصل.

يرتبط نمو الاقتصاد الروسي بشدة بصادرات الطاقة، وإن ترك ستريم يضاعف العائد الحاصل من صادرات الغاز الطبيعي؛ وعليه فقد عززت روسيا عبر تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا دون عبوره (ترانزيت) من الأراضي الأوكرانية عززت شراكتها الجيوسياسية مع تركيا عن طريق خط أنانيب ترك ستريم.

وقد قلصت روسيا عبر تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع تركيا عبر التعاون في مجال الطاقة من التأثيرات السلبية الناجمة عن العقوبات الغربية، وعززت نفوذها في منطقة الشرق الأوسط أيضاً.

تشكل مسألة إمداد أوروبا بالغاز الطبيعي الروسي بطاقة العبور الرئيسة لموسكو  في علاقاتها الدبلوماسية مع الغرب، وإيقاف هذه الإمدادات سيشكل أداة ضغط.

لكن الولايات المتحدة أدركت السياسة التي ينتهجها الكرملين إزاء موضوع الطاقة ساعياً إلى خلق تبعية إقليمية لمصادر الطاقة الروسية، إذ إنه سيوظف هذه التبعية لإيجاد مستوى غير ملائم من النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري؛ وبناءً على هذا الرؤية تعد واشنطن أن ترك ستريم يشكل تهديداً لأمن الطاقة الأوروبية.

وجددت واشنطن إلتزاماتها القديمة بأمن الطاقة الأوروبية مؤكدةً أنه لم يطرأ عليها أي تغيير، قاصدة من وراء ذلك إشاعة أجواء الطمأنينة بأنه لا يمكن لروسيا أن تستفيد من ثقة أوروبا.

من وجهة نظر تركيا فإن ترك ستريم يُعد ضرورة جيوسياسية يتيح لأنقرة إمكانية تحقيق التوازن في علاقاتها مع روسيا مقابل الولايات المتحدة. وتعد العلاقات السياسية بين تركيا وروسيا على الرغم من الارتباطات الاقتصادية القوية مثيرة للجدل، ويمكن بسهولة خلق توترات سياسية وجيوسياسية، مثل تباين السياسة الخارجية الروسية عن التركية في الحرب الداخلية السورية. فقد دعمت موسكو الرئيس السوري بشار الأسد عسكرياً ودبلوماسياً وسياسياً بيد أن أنقرة كانت تسعى لإطاحة بحكم الرئيس السوري بشار الأسد.

ولا يبدي بوتين أي رغبة في إعادة إحياء الأمبراطورية العثمانية بواسطة أردوغان؛ وبناءً عليه لن يكون مستغرباً أن يتخذ بوتين إجراءات لكبح جماح قوة تركيا وفرملة طموحات أردوغان. تبدي روسيا رغبة شديدة بإعطاء التعاون الاستراتيجي زخماً أكبر لإبعاد تركيا قدر المستطاع عن أوروبا وحلف الناتو.

إن شعور أنقرة بمحاصرتها من قبل القوات العسكرية الروسية في سوريا يدفعها مرغمةً إلى تجنب نشوب اشتباكات محتملة بالرغم من إمكاناتها البحرية، وبالتالي الوقوف إلى جانب روسيا وإيجاد طريقة للتعامل مع روسيا دون الصدام معها.

في الوقت نفسه لا ترغب الولايات المتحدة بولادة امبراطورية عثمانية جديدة لكنها تسعى إلى احتواء أردوغان عن طريق المضي قدماً في السياسة الحالية القائمة على مبدأ “تركيا حليفتنا في حلف الناتو”.

إذن سيغدو خط أنابيب ترك ستريم بمنزلة أداة تركية مقابل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي؛ حتى تخفف من حدة الخلافات بين واشنطن وأنقرة الناشبة بين الأكراد وسوريا، وشراء أنظمة الدفاع الجوي الصاروخي أس-400 الروسية.

ويمكن أن يخلص ضغط الولايات المتحدة لمعاقبة تركيا إلى ابتعاد أنقرة عن مدار حلف الناتو وتوجهها إلى موسكو، ففرض مثل هذه العقوبات سيدفع أردوغان للمطالبة بخروج القوات الأمريكية من قاعدة إنجرليك الجوية التي يتم فيها الاحتفاظ بقرابة ٥٠ صاروخاً نووياً أمريكياً.

في المحصلة يحظى مشروع ترك ستريم المتآلف من الطاقة والسياسة الدولية في الكثير من أبعاده بأهمية بالغة للغاية، وتتخطى أهميته الاستراتيجية كونه مجرد خط أنابيب فحسب؛ إذ يبدو أن ترك ستريم يُتيح فرصة سانحة لتركيا لتنتهج استراتيجية ذكية ضمن تركيبة من المصالح المتبادلة والمتناقضة، وتغدو أفضل ميزان توازن بين الغرب وروسيا.


المصدر:

الدبلوماسية الإيرانية https://b2n.ir/157470