عمر سيري: دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة تورنتو

بالكاد استطعت سماع حديث أبي عبد الله -ممثل في مجلس حي المنصور الواقع غرب بغداد-؛ بسبب صوت المولد الكهربائي خارج مكتبه المصنوع من هيكل معدني وألواح ألمنيوم (كرفان)، وحينما نهضت لإغلاق باب مكتبه وجدت ورقة مثبتة على الباب مكتوب فيها باللهجة العراقية “هذا الصوت يوَنِس، لازم تتعود عليه” التي تعني “هذا الصوت يجلب السعادة، عليك أن تعتاد عليه” ساخراً من خدمات الكهرباء السيئة في البلاد كما يسخر من ظروف عمله.

لقد كانت مساحة الكرفان ضيقة وباردة، وكان زميل أبي عبد الله جالساً على المكتب المقابل يسارع على الانتهاء من العمل على مجموعة الأوراق أمامه، ويضيف توقيعه لتلك التي تحتاج إليه، في الوقت الذي توافد فيه سكان المنطقة بالدخول، والخروج مستفسرين عن حالة طلباتهم السابقة.

حينما بدأت بسؤال أبي عبد الله عن التطوير العقاري في منطقة المنصور وما حولها، كان مستاءً لما كان يعرفه وما لم يكن يعرفه: “من تسأل عما يحدث هنا؟ لا أحد يقول لنا أي شيء([1])” كان هذا هو الحال مع الموقع المستقبلي لـــ (مول بابل). كان أبو عبد الله يسأل عن المساحة الفارغة قبل بناء هذا المجمع التجاري لمدة أربع سنوات على الأقل، متسائلاً عما سيتم بناؤه هناك. يقع (مول بابل) في منطقة المنصور في بغداد، وهو أحد مراكز التسوق التي افتتحت في المنطقة في صيف عام 2017. إذ افتتح (مول بغداد) قبل بضعة أيام من نظيره (مول بابل)، ويعمل كمدخل تجاري في منطقة الحارثية المجاورة للمنصور الذي يعدُّ (شارع الكندي) المصدر الأساس لجذب الناس. يبعد مركزي التسوق عن بعضهما بعضاً كيلومترين فقط، ويقع على بعد كيلومتر واحد عن كل منهما (مول المنصور)، الذي افتتح في عام 2013 ووصف بأنه أول مركز تجاري في بغداد تم بناؤه منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة وبريطانيا للبلاد في عام 2003.

بجانب العديد من المطاعم العصرية والفاخرة التي افتتحت في منطقة المنصور، تحظى مراكز التسوق هذه بشعبية كبيرة بين السكان في جميع أنحاء العاصمة بغداد. ويشير بعض المحللين إلى أن هذه التطورات تُظهر كيف أن البلاد وعاصمتها “تنهضا من رماد” على الرغم من استمرار الحرب وانعدام الاستقرار. لكن جزءاً من الخصائص المميزة لهذه المدينة التي تُحدث فارقاً لأناس مثل أبي عبد الله هو لأنهم يتجاهلون تأريخ هذه المساحات الحضرية، والسياسة المعاصرة التي تعمل على تغييرها. يقول أبو عبد الله “كان (مول بابل) حديقة فيما مضى، إلا أن سلطات الدولة لم تهتم بها قبل أن يبنى المركز التجاري الذي يبلغ عمره الآن عامين فقط. لم يشعر بالحنين إلى تلك الحديقة المهجورة، إلا أنه يشعر بالندم على ما كان يمكن أن يكون: الخطة الرئيسة لبغداد، كما ذكرني أبو عبد الله وآخرون، كانت تتضمن بناء نظام مترو على مستوى المدينة في يوم من الأيام. إحدى محطات المترو المقترحة هي أن تكون في موقع (مول بابل).

كل هذه المواقع التجارية الجديدة التي خصخصت كانت مساحات مملوكة للدولة. إذ كان (مول بغداد) في السابق حديقة كذلك، بينما يقع جزء من (مول المنصور) على أسس “سوق المنصور المركزية” السابق إحدى الأسواق المركزية الثماني التي كانت تملكها السلطات الحكومية العراقية سابقاً، حيث كان بإمكان البغداديين في تلك الأيام العثور على سلع ذات جودة عالية بأسعار معقولة. والآن هُدِمت سوق المنصور المركزية القديمة لإفساح المجال أمام مول “خليفة” الجديد، الذي ما زال بناؤه مستمراً. وأخيراً، يفكر أولئك الذين يتحكمون بمسجد الرحمن في المنصور -هو مسجد ضخم غير مكتمل تم إيقاف بنائه في عام 2002- يفكرون في بناء مركز تجاري آخر محله. إن هذه التطورات الحالية والمقترحة هي مظهر من مظاهر تفكيك المؤسسات والموارد العامة وخصحصتها.

ما أسباب هذه التحولات ومن المستفيد منها؟ أن المسبب الرئيس لهذه التحولات هو القصة المألوفة بتفشي الفساد. إذ يعدّ الإكراه والرشوة أسسين للفساد في العراق، وهو وضع أصبح أمراً اعتيادياً في كثير من الأحيان. ولكن هناك وسائل -نادراً ما يتم إلقاء الضوء عليها- تلجأ إليها النخب السياسية والاقتصادية في شراء الممتلكات والأراضي العامة بنحوٍ قانوني -مقابل مبالغ رمزية من المال أو مجاناً- عبر تهديد البيروقراطيين، والضغط عليهم، ورشوتهم لتغيير وثائق الملكية. في حالات أخرى، يُمنح رجال الأعمال المقربون من السياسيين أسعاراً جيدة لاستئجار الأراضي، ويدفعون جزءاً صغيراً من قيمة الأرض، ويتلقون أرباحاً سنوية ضخمة على أي شيء يبنونه على تلك الأراضي. يستفيد السياسيون وأحزابهم أيضاً من هذه المعاملات عن طريق الرشاوى؛ وتساعد هذه الديناميات الراسخة في تفسير سبب مطالبة ثوار العراق اليوم بسقوط النظام السياسي بأكمله، وليس فقط أحزابهم وقادتهم.

إن شعبية مراكز التسوق الجديدة في بغداد لا تعني أن سكان المدينة قد وافقوا على هذا الأمر، فهم لا يعتقدون أن مراكز التسوق هي الأماكن المثالية للمتعة والترفيه. إلا أنه خلال عدة سنوات من انعدام الأمان في بغداد، أصبحت مراكز التسوق المؤمنة مع أجهزة الكشف عن المعادن، وأبراج المراقبة، ورجال الأمن المسلحين، أماكن آمنة يمكن للسكان فيها “التنفس”. يساعد انعدام الأمن في المدينة على تسهيل عمل مراكز التسوق الجديدة كمواقع توفر الترفيه اليومي؛ ويتردد عليها السكان بنحو متكرر لعدم وجود البديل. لقد قالت إحدى الشابات تدعى أمل: “بالطبع أنا أفضل التسوق في مراكز التسوق”[2]، إذ إن عائلتي تعرف أنني سأكون آمنة هناك، وبإمكاني الذهاب من باب منزلي إلى المركز التجاري والعودة دون أي قلق”. تشير هذه الملاحظات إلى الروابط التي لا تفرق بين السرور والخوف، وبين الأمن والاقتصاد السياسي الحضري، في المدن التي تعاني من الصراع.

بينما يواصل العراقيون الشباب التظاهر لأكثر من ثلاثة أشهر، كيف بإمكاننا أن نرى مساحات المستهلكين التي تم خصخصتها في بغداد كراع للمظالم العامة؟ إن مراكز التسوق في بغداد ليست مواقع للاحتجاجات العامة. بدلاً من ذلك، وفيما يخص فئات معينة، تعد هذه المراكز التجارية أماكن للترفيه. لكن الاستنتاج الذي نستخلصه من شعبية هذه الأماكن هو أن الاستقرار في العراق أمر غير محقق. إن الثورة المستمرة في البلاد، التي يقودها شبابها بلا خوف، قد أثبتت حقيقة مختلفة، تضيء دقة مستقبلهم. إن ثورتهم هي التنصل ليس فقط من النظام السياسي العرقي الطائفي في العراق، ولكن أيضاً من الظروف السياسية والاقتصادية التي تكمن وراءه ودعمه. لن يتسامح شباب العراق المحرومون من حقوقهم مع تلك الظروف إلا في حال عُرض عليهم مستقبل مستدام فيها؛ الأمر الذي لم يحدث أبداً.

حينما افتتح (مول بابل)، سعى إلى تزويد عملائه بتجربة تسوق جديدة مع لمحة من الحنين إلى الماضي. إذ يعكس الطابق السفلي للمول للمساحات الاستهلاكية القديمة في بغداد، فقد سُميت ممراته بأسماء شوارع أشهر المراكز الاجتماعية والثقافية في العاصمة بغداد. إذ أطلق اسم “شارع المتنبي” على أحد الممرات، ويعد شارع المتنبي مركزاً شهيراً للأدب في بغداد. بينما سميّ ممر آخر باسم “شارع الرشيد” الذي يقع في وسط بغداد القديمة، وكان سابقاً موطناً لأول مركز تجاري في الشرق الأوسط “الأورزدي”. أصبح شارع الرشيد الحقيقي اليوم مكاناً لأخطر أعمال العنف الوحشية ضد المتظاهرين في بغداد. ويشير وجود شارع الرشيد الطابق السفلي لمول بابل إلى مجموعة من التعايش الغريب فيما يتعلق بالثقافة والحداثة والرأسمالية ذات النمط الغربي ولاسيما حينما يتم تحديد سياقها إلى جانب غزو واحتلال البلاد عام 2003. لكن الأمر الأكثر إلحاحاً الآن هو إدراك أن متظاهري اليوم في شارع الرشيد، بل المتظاهرون في وسط العراق وجنوبه، يلقون اللوم على الظروف السياسية والاقتصادية التي ضمنت مصالح قلة مختارة -أولئك الذين يسيطرون على الأرض والموارد، ورأس المال- في حين لم تقدم لمعظم العراقيين أي مستقبل حقيقي على الإطلاق.

يطللب هؤلاء المتظاهرون سلمياً بمستقبل بديل لأنفسهم وأسرهم ووطنهم. ولطالما كانت النخب السياسية والاقتصادية تعكس رؤيتها لمستقبل العراقيين قائلين: “لنبني لهم مراكز تجارية”. والآن، يرد عليهم المتظاهرون العراقيون بنحوٍ ما!


المصدر:

https://blogs.lse.ac.uk/mec/2020/01/09/seeing-the-political-in-baghdads-shopping-malls/

[1]مقابلة مع أبو عبد الله (اسم مستعار)، بغداد، حزيران 2019.

[2]مقابلة مع الشابة أمل (اسم مستعار)، بغداد، حزيران 2019.