تعتمد السياسية الخارجية على شكل النظام السياسي للدولة وطبيعته، وترتسم خطوطها، وأهدافها من قبل صانع القرار السياسي في الدولة كأن يكون رئيسها، أو رئيس الحكومة، أو وزير الخارجية، ويُؤثر شكل النظام السياسي بالدولة في طبيعة الأدوات المستخدمة في رسم خصائص السياسة الخارجية للبلد، وتحديدها تجاه بلدان العالم؛ وبالتالي تُعدّ الدولة إحدى فواعل النظام الدولي من حيث التأثير، إذ تستخدم الدولة -عادةً- مجموعةَ وسائل في تحقيق أهداف سياستها الخارجية مثل: (الوسيلة الاقتصادية، والوسيلة العسكرية، والوسيلة الدبلوماسية)، ولكل منها عوامل تأثير في رسم شكل النظام السياسي في البلد، وطريقة تأثيره في محيطه الإقليمي والدولي، فضلاً عن تحديد الأهداف المنشودة للسياسة الخارجية لهذا البلد أو ذاك.

ومنذُ سنوات ليست بالقليلة وبالتحديد في منتصف القرن العشرين بدأت الدول المؤثرة في الساحة الدولية العمل على إيجاد وسائل لتحقيق أهداف السياسة الخارجية البعيدة المدى والمتوسطة لها بما يُساعد في “إحداث تغيير في البنية الاقتصادية والنظم الاجتماعية والسعي إلى التقدم الذي يتطلب ثقافة اجتماعية جديدة، وفكراً اقتصادياً مبتكراً وتوجهاً نحو الصناعات المتطورة”[1]، فضلاً عن العمل على وضع منظومة استراتيجية تساعد في تنفيذ الأهداف المرسومة؛ لتحقيق تنمية شاملة داخل الدولة بمختلف القطاعات.

إن فكرة الابتعاث أو البعثات الدراسية باتت واحدة من أولويات بعض الحكومات في البلدان النامية ذات الموارد الاقتصادية الوفيرة التي يتطلب تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها جهداً متواصلاً وحثيثاً، وإعداد دراسات، وأبحاث علمية رصينة ترفد صانع القرار بأهمّ البدائل، فضلاً عن تنمية الموارد البشرية التي من شأنها إعداد مؤسسات قادرة على تلبية احتياجات المرحلة، وإدارة مفاصل الدولة بالنحو الحديث والمتطوّر؛ ونتيجة للحاجة إلى مثل هذا المتطلبات وجدت دول العالم الثالث حاجتها إلى ابتعاث طلبتها خارج البلد للعمل على تهيئة جيل جديد قادر على مواكبة حاجة السوق من الناحية الاقتصادية، وإعداد قادة ودبلوماسيين من الناحية السياسية، وبناء شخصية الفرد، وصقل موهبته وجعلها أكثر فاعلية من الناحية الاجتماعية.

إن عملية الابتعاث مكلفة ولكنها من وجهة نظر حكومات الدول المبتعثة تستحق تلك التكلفة؛ شريطة أن تكون ضمن خطة واضحة تكوّن من خلالها برامج تعمل على الاستفادة من الطالب أو الطالبة المبتعثين بعد عودتهما إلى وطنهم، ودمجهما في مؤسسات الدولة والاستفادة من خبراتهما وتجاربهما في دعم قطاع معيّن وتنميته، فضلاً عن تلبية تطلعاتهما والتوجهات الفكرية والثقافية والاجتماعية التي يحملانها؛ وبالتالي فإن الاستفادة الرئيسة للطلبة المبتعثين هي اقتصادية بالدرجة الأولى لما لها من تأثير في مؤسسات الدولة الاقتصادية، وتنمية الموارد التي تمتلكها الدولة، ولها أيضاً استفادة ثقافية بالدرجة الثانية من حيث تنمية الفكر، والعمل على رفع مستوى الوعي الثقافي، والعلمي بين الأفراد.

لم يقتصر الابتعاث على اختصاص دون آخر، فهو يكون ضمن خطة واضحة لما يحتاجه البلد من اختصاصات أكاديمية مؤثرة في عملية التنمية، وفضلاً عن ذلك فإن عملية الابتعاث تعتمد على مخرجات العلاقات الخارجية للدولة، ووجودها بين وحدات النظام الدولي؛ مما يسهل عملية اختيار الجامعات والتفاضل في الاختيارات، والمنح المالية المرصودة للابتعاث، وهناك أيضاً عنصر آخر لعملية الابتعاث وهو اختيار البلد المقصود، والجامعات التي تتصدر الترتيبات الأولى في الاختصاصات النادرة في تلك البلدان التي تلبي طموحات الجهة الباعثة، فعملية اختيار بلد الابتعاث والجامعة هي عملية مدروسة على وفق معطيات سوق العمل داخل البلد.

إن علمية الابتعاث بقدر ما لها من أهمية من وجهة نظر صانع القرار وكذلك المردود الإيجابي أحياناً في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، بيدَ أنها تعدُّ أداةً أو وسيلة من وسائل تحقيق أهداف السياسة الخارجية لبعض الدول، إذ تحرص الدولة المستضيفة للطالب المبتعث على تهيئة المناخ الدراسي، والأكاديمي، والاجتماعي للطالب، وإعداد برامج داخل الجامعة، وداخل الحلقات الدراسية؛ لتنمية مهاراته البحثية، والعلمية والإبداعية، والعمل على خلق تنشئة اجتماعية جديدة له؛ وبالتالي سيكون الطالب مصدراً من مصادر القوة والطاقة البشرية التي من طريقها تسعى الدول المستضيفة إلى خلق هوية ثقافية وأيديولوجية جديدة تتماشى والتعليم الذي تلقاه، فضلاً عن أنه سيكون أداة للتغيير والتأثير على المستوى الاجتماعي والثقافي في البيئة الداخلية لمجتمعه.

إن هدف الدول التي تمتلك المقدرات البحثية والعلمية الرصينة والمردود الاقتصادي لها، تعمل -سياسياً- من طريق الطالب المبتعث إليها على نشر ما تعلّمهُ من العلوم النظرية أو التطبيقية في بيئته التي تختلف تماماً عن البيئة المبتعث إليها، وهو الهدف الذي تصبو إليه الدول العظمى في بعض الأحيان، وهو التغيير في البنية الداخلية لهذا البلد أو ذاك؛ مما يولّد في بعض الأحيان أثراً في المنظومة القيمية (سياسياً، واقتصادياً، واجتماعياً، وفكرياً، وثقافياً، ودينياً) للمبتعثين عبر أدوات وأساليب قادرة على خلق وعي جديد للطالب الذي من شأنه أن يمتلك حالة من التصورات الإيجابية لكل ما تعلمهُ دون الاكتراث إلى التحوّلات القيمية والحضارية السلبية المخالفة للواقع أو البيئة الداخلية له.

تكاد عملية الابتعاث تكون أداة مؤثرة لحدٍ ما، ويشترك فيها الجانبان السياسي والاقتصادي على حدٍ سواء، وهي تكاد تقترب من القوة الناعمة في تنفيذ بعض أهداف السياسة الخارجية بعيدة المدى(*)بين وحدات النظام الدولي، أو الفاعلين من غير الدول في الساحة الدولية؛ وبالتالي فإن بعض الدول تسعى إلى زيادة وارداتها الاقتصادية من غير النفط عبر قناة البعثات الدراسية لما لها من تأثير على تنفيذ السياسة الخارجية للدولة، والعمل على بناء النفوذ السياسي، والقيام بدور مائز في البيئة الخارجية.

[1]- عدنان بن عبد الله الشيحة، سياسة الابتعاث وإعادة هيكلة الاقتصاد،

 http://www.aleqt.com/2013/02/16/article_731991.html

(*)المقصود بالأهداف بعيدة المدى: التصور الفلسفي أو العام عند وحدة دولية معينة لمحيطها، ولا تقوم الدولة عادة بتعبئة قدراتها لاستثمارها من أجل خدمة هذه الأهداف؛ وإنما تعكس هذه الأهداف رؤية معينة لبنية النظام الدولي، ويغلب عليها الطابع المثالي، كهدف دعم السلام العالمي، أو العمل من أجل الرفاهية الاجتماعية، للمزيد انظر: مثنى علي المهداوي، واقع تدريس السياسة الخارجية في كلية العلوم السياسية، مجلة العلوم السياسية، العددان 38- 39، ص: 106.