ينصُّ الدستور العراقي على منح تفويض واسع للحكومات المحلية لتأدية عدد كبير من الصلاحيات، باستثناء تلك التي تخصّ الحكومة الفدرالية، فضلاً عن إعطاء الأولوية لتشريعات الحكومة المحلية على التشريعات الوطنية. ومع ذلك، فإن أداءها يفتقر إلى القدرة على إدراك مدى صلاحياتها بالكامل؛ ولذلك ينبغي إصلاحها من طريق إعادة تشكيل التصميم المؤسسي للحكومات المحلية لضمان إطار عمل مسؤول وكفء؛ وبذلك يكون هذا الإصلاح هو شرط أساس لأي تغيير اقتصادي واجتماعي ذي مغزى في العراق.

حالة الأداء الراهنة

أدّى ظهور تنظيم داعش الإرهابي وتداعياته إلى تحفيز صناع السياسة لتسريع المضي في إنشاء حكومة لا مركزية في عام 2015، وهو مفهوم ذُكِر في الدستور العراقي عام 2005، بيد أن القرارات المتعجّلة المقترنة بعدم التنفيذ الضعيف أدّت إلى تفاقم المشكلات بدلاً من حلها، كما هو الحال في البصرة في أواخر عام 2018، إذ لم تحوّل الأموال إلى المحافظة على الرغم من تخصيصها، وتفاقمت المشكلات هناك من قبيل نقص المياه، وانقطاع التيار الكهربائي، والنزاعات العشائرية؛ مما أثار الاحتجاجات الشعبية التي شككت في شرعية نظام ما بعد عام 2003.

لقد نُفِذَّ الأنموذج العراقي من اللا مركزية عبر نقل سلطات ثماني وزارات إلى حكومات المحافظات؛ وقد أدت إلى زيادة هائلة في عدد الموظفين، على سبيل المثال: زاد عدد الموظفين في محافظة بغداد من 90 ألفاً إلى 325 ألف موظف.

وفضلاً عن ذلك صُمّمت المؤسسات القائمة بطريقة تديم من سلطة قادة الأحزاب، على سبيل المثال: تُنتَخبُ مجالس المحافظات -وهي الجهات المتلقية للسلطات المفوضة- على أساس نظام التمثيل النسبي القائم على القائمة المفتوحة، والمحافظات الانتخابية الكبيرة، التي تمكّن الأطراف من ضمان نجاح بعض أعضائها من المستوى المتوسط ​​من طريق تعبئة شبكات المحسوبية، فضلاً عن إظهار مشاركة العديد من الوجوه العشائرية الشعبية والأكاديميين والناشطين لجمع الأصوات؛ وهذا لا يدفع المرشحين لاستيعاب احتياجات جميع المكونات، بل يعتمدون على شبكات المحسوبية للحزب؛ وهذا يفسر حقيقة أن أعضاء مجالس المحافظات يدينون بتبعيتهم الحزبية أكثر من ناخبيهم.

إن المشهد المجزأ للأحزاب السياسية، وغياب قاعدة انتخابية رسمية، والعدد الهائل من المرشحين الميدانيين (مضاعفة عدد المقاعد في مقاطعة معينة)، يمكّن عدداً كبيراً من الأحزاب السياسية من شغل مقاعد في مجالس المحافظات؛ الأمر الذي يجعل هذه المجالس غير مستقرة إلى حدٍّ كبير؛ مما يؤثر على قدرتها بالقيام بواجباتها، كما هو واضح في سوء استخدام الأموال المخصصة من الميزانية حتى في أوقات الاستقرار، إذ بلغ معدل 57% في عام 2011.

وهنا يكون استعراض عملية اللامركزية أمراً لا بدّ منه، ويجب أن يبدأ بإصلاح التصميم المؤسسي؛ بهدف جعل عملية صنع القرار أقرب إلى الناس، وبعيداً عن قادة الأحزاب، ويمكن القيام بذلك عن طريق نقل السلطات إلى المحافظات، وتعزيز أدائهم.

الإصلاح المؤسسي المقترح

يوجد في العراق نحو 130 قضاءً بمساحات متماثلة تقريباً، وتعتمد أغلبها في توزيع السكان على الهوية الطائفية، وهذه الأقضية أكثر استجابة للتغيُّرات الديموغرافية، إذ إن إنشاء أقضية جديدة ليس أمراً مثيراً للجدل ولا يتطلّب شروطاً معينة، على العكس من إنشاء محافظات جديدة، فهي مسيسة جداً وأكثر تعقيداً؛ لأن توزيع العرقيات تتطابق والهويات الطائفية للحدود الجغرافية لمعظم المحافظات؛ فعلى سبيل المثال: سيؤدي دمج قضاء النخيب -التي تعدُّ حالياً جزءاً من محافظة الأنبار- مع محافظة كربلاء إلى تغيير التركيبة السكانية في كربلاء؛ وبالتالي فإن أي محاولة لتغيير حدود المحافظات سوف تُفهم على أنها محاولة لتغيير التركيبة السكانية. وإن المناطق أكثر تجانساً من المحافظات، إذ تتنافس مراكز قوى مختلفة في فرض أجندات متضاربة؛ مما يؤدي إلى إنشاء مجالس محافظات غير مستقرة، وفضلاً عن ذلك، فإن التركيز في المناطق يساعد على جعل عملية صنع القرار أقرب إلى الناس، وهو جوهر اللا مركزية.

ويعد الأنموذج الإندونيسي لللا مركزية من أكثر النماذج نجاحاً بين البلدان النامية، إذ تنقل السلطات إلى المناطق (المقاطعات)، وكل منطقة لها مجلسها المحلي ومجلسها التشريعي الخاص بها؛ ويقود هذه حكومات المناطق رئيس ونائب يُنتخبان مباشرة من الأفراد في تلك المناطق. ومعاً يديران الحكومة المحلية بناءً على السياسات التي أقرها المجلس التشريعي، ولكل مجلس وظائف تشريعية وموازنة خاصّة بها وتعمل مثل البرلمان الاعتيادي.

ومن شأن اعتماد مثل هذا الإطار المؤسسي أن يزيد عدد المقاطعات ويؤدي إلى استقرار الحكومات المحلية -بالنظر إلى تجانس المناطق-، ومن شأنه أيضاً تسريح الهويات العرقية والطائفية؛ لأن المنافسة هي بين المناطق التي تشترك في هويات عرقية طائفية مماثلة؛ وسيمنح الأولوية لتقديم الخدمات، إذ يمكن للناس التصويت بأقدامهم عبر الانتقال إلى المناطق التي تقدم خدمات أفضل؛ ومن شأن ذلك تعزيز المساءلة، بحيث تضغط الدوائر الانتخابية الصغيرة على المرشحين لتلبية احتياجات معظم إن لم يكن جميع الناخبين في مقاطعتهم؛ ومع ذلك، ينبغي أن يقترن نقل السلطات بتمويل كافٍ لإغلاق الفجوة المالية وتمكين المقاطعات من استخدام السلطات المولَّدة.

وخلاصة القول: إن عدم الرضا الشعبي عن التصميم المؤسسي الحالي – كما يتضح من انخفاض إقبال الناخبين والمظاهرات الصيفية المتكررة- دفع قادة الأحزاب السياسية إلى الدعوة لإجراء إصلاحات -على الأقل في خطاباتهم-، وإذا تحققت هذه الدعوات، فمن الأفضل البدء في إصلاح الإطار المؤسسي.

لقد أدى توطين السياسة في إندونيسيا إلى انتقال البلاد من بلد كان على مشارف الانقسام إلى بلد مستقر نسبياً وذي نمو مرتفع، ومن هنا سيكون لتبني الإصلاحات المؤسسية المقترحة مزايا اجتماعية كبيرة، مثل: تمكين المواطنين بمعاقبة الممثلين الذين يفشلون في تنفيذ المشاريع، والضغط على الأحزاب السياسية لتلبية احتياجات الناخبين بدلاً من الاعتماد على شبكات المحسوبية، وإنهاء التركيز على الهويات العرقية والطائفية. وإن لتوطين السياسة أيضاً مزايا اقتصادية كبيرة، مثل: تحفيز الحكومة المحلية على تخفيف الإجراءات البيروقراطية لجذب الاستثمارات، كما هو موضح في التجربة الإندونيسية.