د. أحمد الجعفري، إدارة وسياسات تربوية، الولايات المتحدة

 وضعت أسس “الاقتصاد الكلاسيكي “على يد العالم الأسكتلندي آدم سميث في العام 1776 بكتابه الشهير “ثروة الأمم”؛ إذ أطّر سميث في هذا الكتاب أربعة أنواع من رأس المال الثابت كثروة للمجتمعات، وكان واحد من هذه الأطر هو “القدرات المكتسبة لأفراد المجتمع”. ولأن المجتمعات آنذاك كانت تعيش عصور الجهل، والتخلّف، والقبلية، والتناحر، والفقر، فهي كانت بأمسّ الحاجة لأفكار كأفكار سميث للنهوض بها؛ ولكن آنذاك -ونتيجة الإقطاعية- كان الاهتمام منصباً في الاستثمار بالارض، والأبنية، والزراعة، والمصانع، والمشاريع الربحية بدلاً من الاستثمار في الأفراد، إذ لم تلقَ أفكاره في هذا الشأن اهتماماً كافياً من قبل الباحثين، والمهتمين بالشأن الاقتصادي، والحكومات آنذاك.

لقد وضعت أفكار آدم سميث في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته على الطاولة من قبل غاري بيكر ويعقوب مينسر -وهما خبيران اقتصاديان من جامعة شيكاغو-، إذ أجريا عدة أبحاث معمقة ومكثفة عن المعرفة، والعادات، والسمات الاجتماعية والشخصية، والإبداع للأفراد، وتأثيرها في أداء العمل، ومن ثم الناتج الاقتصادي والتنموي الحاصل من هذه الأعمال؛ وكان خلاصة هذه الأبحاث هو ظهور مصطلح “الاستثمار في رأس المال البشري”Human Capital – ، و”إمكانيات الأفراد – Individuals’ capacity”؛ إذ يقدم هذا المفهوم وجهة نظر إجمالية وعلمية عن قدرات الأفراد في تنمية المجتمعات واقتصادها.

 ولأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تبحث عن عظمتها بعد الحرب العالمية الثانية وفي أثناء الحرب الباردة آنذاك، ولأن اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة كانت تبحث عمّن يستطيع إنقاذها من الجهل والفقر والتناحر، فقد سارعت هذه الدول على الاستثمار في رأسمالها البشري من طريق التعليم؛ وجنت ثمارها بنهضات اقتصادية، واجتماعية لتصبح دولاً عظيمة.

ما الفائدة من الاستثمار في رأس المال البشري؟

 هناك مبرران مهمان للاستثمار في الأفراد، هما: الالتزام الأخلاقي، والالتزام الاقتصادي تجاه الشعوب. فعلى مستوى الالتزام الاقتصادي يساعد الاستثمار في الأفراد على تعزيز قدرات الحكومات، وزيادة المنافسة والازدهار في عالم سريع التغيّر. فالمهارات المطلوبة للأعمال تتغيّر بنحوٍ أسرع من أي وقت مضى؛ مما دفع الحكومات والجامعات في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء بوضع خطط تعليمية وتنموية استراتيجية لإعداد أفراد يتمتعون بإمكانات مكتسبة قادرة على مواجهة التحديات الضخمة وانتهاز الفرص الهائلة الناجمة عن التغيّر التكنولوجي. وتعدّ روسيا والصين وجنوب أفريقيا والبرازيل دولاً مهمة ستشكل مفاصل مؤثرة في اقتصاد العالم بحلول العام 2040؛ وذلك بفعل ذلك الاستثمار في رأسمالهم البشري.

أما فيما يخص الالتزام الأخلاقي، فإن الاستثمار في البشر يساعد البلدان الفقيرة على تقليص الفجوة مع البلدان الغنية في العمر المتوقع عند الميلاد من طريق زيادة الوعي الصحي، والقضاء على الزواج المبكر، وكذلك يساعد على غلق الفجوات الاجتماعية، والثقافية، والتعليمية، والتنموية، وتعدُّ سريلانكا والبرازيل وتايلند وماليزيا والهند خير مثال يوضح المردود الإيجابي بعد سنوات من هذا الاستثمار. بيد أن البنك الدولي أكد وجود بلدان فقيرة ونامية ما تزال تواجه تحديات هائلة في هذا الجانب، “إذ يعاني ربع الأطفال دون سن الخامسة من سوء التغذية، ويفشل 60% من تلاميذ المدارس الابتدائية في الحصول على تعليم أولي، ولا يتلقى أكثر من 260 مليون طفل وشاب في البلدان الفقيرة والنامية أي قدر من التعليم على الإطلاق.”

وفي حين تهتم الدول المتقدمة في استثمار رأسمالها البشري وقد تنوعت سياساتها وخططها بهذا، إلاّ أنّ العراق كبلد نامٍ لم يبدِ اهتماماً كبيراً في استثمار قدرات أفراده، إذ إن الحكومات العراقية المتعاقبة على مدى عقود طويلة لم تبد اهتماماً برأسمالها البشري، بل ركزت سياساتها وخططها في رأسمالها المادي كالطرق، والجسور، والأبنية، وغير ذلك من البنى التحتية، لكنها استثمرت بدرجة أقل في الفرد العراقي بل أحرقته في حروب خارجية عبثية وصراعات داخلية. وقد يعود ذلك إلى اعتقاد الحكام بأن الفوائد المتحققة من الاستثمار في البشر بطيئة التحقيق وصعبة القياس ولا تجلب إنجازاً لتلك الحكومات.

 ونتيجة لهذه السياسات العقيمة يشهد العراق نقصاً كبيراً في استثماراته برأسماله البشري، في وقت يمثّل ذلك ضرورة مهمة له لا بدّ من إنجازها، إذ تعيش قطاعات الدولة جميعها بنحوٍ عام وقطاعا التعليم والصحة بنحو خاص تراجعاً سريعاً يصعُب مجاراته وإيقافه، وعلى نحو لم يشهده تأريخ العراق الحديث؛ مما جعلنا نعيش “فجوة في رأس المال البشري”؛ وبالتالي أصبحت القوى العاملة العراقية مستنزفة وفي عزلة معرفية؛ مما جعلها غير مستعدة لمواجهة المستقبل الذي يسير بوتيرة متسارعة.

ومن دون تدبير حكومي كبير وسريع ومركز في الاستثمار في الأفراد فإن فجوة الرخاء الاقتصادي والمجتمعي بين دولتنا ودول العالم الأخرى ستكون أشبه “بصاعق يحرق نمو البلد لعقود من الزمن”، وإن هذا الادعاء مستند إلى حقائق تتحول إلى أرقام كانخفاض العائد من الاستثمار في قطاعي التعليم والصحة بوصول ثلث الشعب إلى تحت خط الفقر، مع ارتفاع عدد الأميين إلى 8 ملايين فرد، يرافقهما انخفاض مخيف في نسبة التحاق الشباب بالتعليم ضمن الفئة العمرية 15 إلى 29 سنة، إذ يلتحق منهم ما نسبته (35.5%) فقط.

وبينما تركز حكوماتنا في إعطاء الشهادة العلمية كمعيار للاستثمار في الأفراد، لم تعد هناك قيمة للشهادة العلمية في دول أخرى؛ بسبب تزايد الخريجيين من التعليم، يرافقه صعوبة بإيجاد فرص للعمل من دون مهارات. ففي عام 2010 ارتاد جامعة فينكيس الأمريكية وحدها 600 ألف طالب وطالبة، وفي عام 2020 سيكون للصين وحدها (29%) من إجمالي شهادات العالم؛ مما جعل أرباب العمل أن توجه بوصلتها نحو الأفراد الذين يمتلكون مهارات عالية ولو بأقل الشهادات بدلاً من حملة الشهادات العليا؛ ونتيجة هذا الطلب المتسارع على الأفراد ذوي المهارات، سينطلق العالم في عام 2020 نحو مهارات جديدة لتمكين الأفراد ربما ستدخلنا في جيل صناعي آخر متقدم بحلول عام 2030.

وبينما نحن نعيش كل هذه التحديات والمشكلات، فقد عُدَّت حكومتنا الجديدة التصنيفات العالمية للجامعات معياراً لجودة التعليم، وهو أمر مغلوط غير مبنى على أسس علمية، وأن التوسّع في التعليم الخاص لن يساعد بمعالجة حقيقية لمشكلات التعليم والمجتمع. وعلى ما تقدم ينصح الكاتب الحكومة بوضع سياسات جديدة تعالج الثغرات في الاستثمار البشري في العراق من طريق التغلب على التحديات، والمشكلات، والاستفادة من الموارد المتاحة، وزيادة الإنفاق الحكومي، ووضع مؤشرات للأداء مسنودة بأسس القياس، والتقويم، والتحليل، وربط منظومة التعليم بالجهد العالمي، وإنشاء جامعات ريادية وابتكارية؛ وهذا دور الحكومة الحاسم الذي يجب أن تؤديه بأسرع وقت وإلا سوف يغرق معظم أفرادها في التموقع اللا معرفي، ويكون البلد خارج ركب التقدّم الحضاري.