علي زياد العلي، باحث متخصص في الشؤون الدولية والاستراتيجية.

يكمنُ أحد الجوانب الأكثر أهميةً لموضوعة مكافحة الإرهاب في العراق في التعمق بدراسة التهديدات الإرهابية التي باتت تظهر بالآونة الأخيرة في بعض المناطق الشمالية والشرقية من البلاد، والتي أضحت تمثل تهديداً صارخاً للمكتسبات الأمنية التي تحققت بعد النصر العسكري على تنظيم داعش. وانطلاقاً من القاعدة الاستراتيجية لحركة التهديدات الأمنية ومساراتها التي تستند إلى “أن أي ظاهرة إرهابية لا يمكن أن تستمر على وضعها الذي هي عليه، فهي إما أن تشهد مزيداً من التطور وإما أن تشهد نوعاً من التراجع وصولاً إلى التلاشي النهائي”؛ لذلك يمكن القول إن من أولويات اهتماماتنا في هذا الموضع، البحث عن سبل تعضيد الجهد الأمني ومكافحة الإرهاب وتعضيد الجهد العسكري والاستخباراتي للقضاء على مكامن ما تبقى من التهديد الإرهابي، حيث تنصـب إشكاليـة الموضـوع في إيجاد السبل والأدوات الناجعة لمكافحة الإرهاب في العراق، مع الأخذ بالحسبان أن ظروف المرحلة الأمنية في الوقت الحاضر تختلف كلياً عن المرحلة السابقة، ولاسيما في شكل التهديدات الإرهابية والأسلوب الواجب اتباعه لمعالجة هذه التحديات؛ وبالتالي تقتضي الضرورة الأمنية إيجاد رؤية استراتيجية جديدة وشاملة من أجل التعاطي والاستجابة مع هذه التحديات؛ لأجل وضع أدوات تتخذ من مبدأ الوقائية الاحترازية من التهديدات المحدقة بالأمن الاستراتيجي للدولة منطلقاً للوصل إلى السيادة الأمنية؛ لذا يتطلب من المؤسسات الأمنية تبني عدة أدوات يقع على عاتقها كبح جماح ما تبقى من خلاية إرهابية متبعثرة في بعض المناطق الاستراتيجية من العراق، تتمثل بعدة أدوات هي كما يأتي:

أولاً: فرض السيطرة العسكرية على مجمل الجغرافية العراقية

     تنطلق هذه الأداة من رؤية مفادها أن من بنى مكافحة الإرهاب العراق في المرحلة الآنية تترتب أسسها على أساس حسم المعركة مع الإرهاب عسكرياً، من خلال فرض السيطرة العسكرية على كامل الرقعة الجغرافية في الداخل الوطني، حيث تتمثل هذه الأداة بالأولوية الاستراتيجية لمكافحة الإرهاب على الصعيد الوطني؛ كونها تكسر سيطرة تنظيم داعش عسكرياً والمتمثلة بمنع التنظيم من التمكن العسكري على أي رقعة جغرافية من العراق1، فضلاً عن توظيف عقيدة عسكرية استراتيجية من شأنها إعطاء زخم عسكري مرحلي في داخل حلقات الاشتباك المباشر لتقوية الجهد العسكري في حلقة الصراع مع (داعش).

ثانياً: توسيع نشاط الاستخبارات بشقيها العسكري والمدني

     تكون هذه الأداة بمنزلة دائرة رادعة لاحتواء أي فعل أو عملية إرهابية واستباقها قبل حدوثها، بترويض التكتيكات الاستخباراتية وتوظيفها في استراتيجية موجهة تستند إلى معلومات2؛ من أجل تحقيق جملة من الأهداف من أولوياتها اختراق الجماعات الإرهابية بشبكات التجسس الاحترافية التي تتيح للأجهزة الاستخباراتية مراقبة توجهات المنظمات الإرهابية، ورصد تحركاتها في أي وقت وفي أي مكان؛ ومن هنا يأتي دور العامل الاستخباراتي لرصد المعلومات في المناطق الاستراتيجية، ورأب التصدعات الأمنية، وإدامة الاختراق المعاكس للمناطق الرخوة أمنياً ولاسيما في منطقة عمق التأثير الأمني، التي تمثل بوابة المواجهة والتحدي الأمني مع التنظيمات الإرهابية، فاستخبار الحدث قبل انطلاقه ومن ثم معالجته بتكتيكات أمنية خاصة يمثل صلب التكتيكات الاستخباراتية المتبعة في مكافحة الإرهاب بالوقت الحاضر3.

ثالثاً: الإحاطة الإعلامية والتوجه الدعائي المضاد

     تمثّل المكانة الإعلامية المصدّ الأول لدائرة الإحاطة الفكرية لمواجهة الإرهاب في العراق، فواقع البيئة الأمنية الوطنية لها خصوصية استراتيجية، نحتت خصائصها بثوابت سرعة الاستجابة للتحديات والتأثيرات الإرهابية؛ وبالتالي تعطي هذه الأداة زخماً استراتيجياً مضاداً للإرهاب بواسطة جملة من التكتيكات والوسائل الإعلامية4 ، ولاسيما أن تنظيم داعش يبنى أساس تأثيره على الدعاية الزائفة والتأثير الإعلامي المضاد، حيث تأثرت البيئة الأمنية الوطنية ومن واقع توجهات الإعلامي المضادة ولاسيما قبل العام 2014، إذ شكل التأثير الإعلامي عاملاً مؤثراً لتحفيز التحديات الأمنية  المتمثلة بالإرهاب وتحريكها، ومن أجل كبح جماح ما تبقى من تنظيمات إرهابية لا بدّ من تبني استراتيجية إعلامية يقع على عاتقها صدُّ الهجمات الإعلامية والدعائية ذات الأبعاد الإرهابية.

رابعاً: فرض الردع والسيطرة السيبرانية المتنفذة

     ليس من شكّ أن التهديد الإرهابي السيبراني يمثل أحد أكبر التحديات التي توجه المنظومة الأمنية العراقية، حيث يعتمد تنظيم داعش في اتصاله وتواصله مع العالم الخارجي على الاتصالات الرقمية الإلكترونية، ويتخذ من الدعاية الإلكترونية عبر وسائل التواصل الاجتماعي منطلقاً له لترويج أفكاره وعملياته مع العالم الخارجي5؛ لذا لا بدّ للمؤسسات الأمنية المختصة اتخاذ تدابير وأدوات يقع على عاتقيها كبح جماح قدرات داعش الإلكترونية من خلال رفع مستوى القدرات السيبرانية للمؤسسات الأمنية، والتنسيق مع المؤسسات الاستخباراتية والإلكترونية العالمية لأجل تبادل المعلومات والخبرات الأمنية6.

خامساً: ترسيخ الإدارة الفكرية والإدراكية للمجتمع

     تتخذ هذه الأداة من أسلوب الإحاطة الفكرية منهجاً علاجياً لظاهرة الإرهاب من طريق تبني وسائل فكرية (ذات دلالات دينية) يقع في مجملها التطرق للتكتيكات الفكرية، التي تمثل بوابة رئيسة للحد من ظاهرة الإرهاب بالتطرق إلى وسائل فكرية علاجية ووقائية تقلل من فكرة التطرف لدى طائفة الشباب، والعمل على ترويج فكرة احتواء الآخر بتبني استراتيجية النقائض الفكرية (إدارة الإدراك) التي تبنى على أساس احتواء الأطراف المختلفة في بوتقة اجتماعية وفكرية واحدة، وهو بالتأكيد يتطلب جهداً حكومياً ذا أبعاد فكرية ودينية؛ لمسح فكرة التشدد في المسائل الدينية والعقائد لدى أفراد المجتمع وإلغائها 7.

سادساً: النهوض بالاقتصاد العراقي العام والخاص

     تعدُّ الحاجة المادية دافعاً أساسياً لأي فرد يطمح بحياة كريمة لأن يسلك طرقاً غير قانونية من أجل تحقيق طموحاته؛ حيث يفسر الكثيرون من المختصين في مجالات العنف والإرهاب على أن أصل الصراع قائم على أساس الحاجة المادية؛ وبالتالي تتمحور هذه الأداة على أساس رفع مستوى الدخل للأفراد وإشباع الحاجات الأساسية للمجتمع، وبذلك ضمان نسبة كبيرة من فئات المجتمع دون الانجرار إلى مسارات الإرهاب والتشدد، إذ يُستغل التطرف الديني -غالباً- في أوقات التعثرات الاقتصادية للمجتمعات 8؛ ومن هنا تبلج لنا مظاهر التطرف والإرهاب من خلال ابتعاد الأفراد عن حياة المدنية، والاتجاه نحو الأفكار المتشددة التي تسوق العنف والإرهاب؛ وتأتي أهمية الأداة الاقتصادية التي تقوم على مرتكز تحسين الأوضاع الاقتصادية للمناطق انتشار الإرهاب، من خلال تنشيط الاقتصاد المحلي والحكومي الموجه؛ وهو ما سينعكس على المستوى الاقتصادية إيجابياً؛ وسيحسن الأوضاع المالية للمناطق انتشار الإرهاب؛ وبالتالي ستتلقى البيئة الأمنية مخرجات إيجابية تصب لصالح تذليل ظاهرة الإرهاب فكراً وممارسة.

سابعاً: الحوكمة السياسة والاجتماعية

     تنطلق هذه الأداة من فكرة مفادها أن تسويق المواطنة ببعدها الوطني هي وسيلة فعالة لمواجهة خطر الإرهاب والتطرف، حيث إن ارتفاع وتيرة الانتماء الوطني على الولاءات الضيقة هو من شأنه أن يكبد الانتماءات الضيقة التي هي السبب الأساس لظاهرة الإرهاب والتطرف؛ لذا يتطلب من المؤسسات المعنية أن تمارس وظيفتها المجتمعية بأبعاد وطنية خالصة، وهي بالتأكيد تمثل رافعاً قوياً لمنطلق المواطنة الجامعة التي ستطغى على طبيعة التفاعلات المجتمعية في داخل المجتمع 9؛ وبالتالي ستشكل مخرجات هذه التفاعلات الاجتماعية مدلولات المواطنة الشاملة بصعود الانتماء الوطني الواسع على حساب الانتماءات الدينية والطبقية، وهو ما يمثل ضربة قاصمة لظاهرة الإرهاب.

    ومن خلال ما ذُكر يمكن القول إن تنظيم داعش يحاول أن يتخذَ من أسلوب حرب العصابات تكتيكاً واستراتيجية من أجل ضرب منظومة الأمن الاستراتيجي في بعض المناطق المفتوحة والمعقدة جغرافياً؛ لذا يتطلب معالجة هذه التحديات الإرهابية بالتوجه نحو مواءمة الجهود التقليدية التي تتمثل بجهد عسكري واستخباراتي مع جهد غير تقليدي كالأدوات الإعلامية والسيبرانية إلى جانب أدوات أخرى؛ لأجل دعم الجهود الأمني لمكافحة ما تبقى من خلاية إرهابية متبعثرة في بعض المناطق الاستراتيجية، فضلاً عن إيجاد رؤية استراتيجية شاملة تتخذ من بعض التكتيكات منطلق ردعي واحتوائي لبعض التهديدات المحدقة لمنظومة الأمن الاستراتيجي للعراق، ولاسيما بعد انتقال المعركة بين المؤسسات الأمنية العراقية وداعش من المواجهة العسكرية المباشرة إلى الموجهة التكتيكة غيرة المباشرة؛ وبالتالي يتطلب هذا الأسلوب من التناحر أدوات وتكتيكات تختلف عن المرحلة السابقة من أجل الحفاظ على المكتسبات الأمنية وإدمة الأمن والاستقرار.


المصادر:

  1. حسن سعد عبد الحميد، دور الاجهزة الامنية العراقية في مكافحة الارهاب بعد 2003: وزارة الدفاع العراقية انموذجاً، مجلة اغتراب، مركز بلادي للدراسات والابحاث الاستراتيجية، بغداد، العدد1، 2016، ص84
  2. بشير الوندي، الامن المفقود “دور الاستخبارات والتنمية في استتباب الامن”، ط1، دار الصفاح للطباعة والنشر، بيروت، 2013،ص61
  3. جاسم محمد، الاستخبارات الاوروبية “معالجات ناقصة لظاهرة المقاتلين الاجانب”، ط1، المكتب العربي للمعارف، القاهرة، 2016، ص165
  4. حامد سالم الزيدي، مقاتلة الارهاب في العراق الحرب الجديدة،ط1، دار الجواهري للطباعة والنشر، بغداد، 2013، ص76
  5. بيتر سينجر، الحرب عن بعد ” دور التكنلوجية في الحروب الحديثية”، ط1، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ابوظبي، 200، ص286
  6. اوستن رينج، الحروب المستقبلية في القرن الواحد والعشرين، ط1، مركز الامارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، ابو ظبي، 2014، ص53
  7. حمزة حسين عبيد، الارهاب والتكفير الاشكاليات والمعالجات، ط1، مجمع دار الاسلام الثقافي، بغداد، 2015، ص ص 155_ 160
  8. ناجي حسين علي، الاقتصاد العراقي بين مخاطر الانهيار والتنمية المستدامة، وزارة التخطيط العراقية، دائرة السياسات الاقتصادية والمالية، بغداد، 2016، ص22
  9. حكم سالم الرفاعي، دور السياسات العامة لمكافحة الارهاب، ط1، دار السلام للطباعة والنشر، القاهرة، 2015، ص133