تعدُّ الجامعات البحثية الركن الأساس في عملية إنتاج المعرفة في القرن الحادي والعشرين، ومن السمات الأساسية لهذه الجامعات هو تعاظم الإنتاج البحثي، والتواصل مع الأقران في الجامعات العالمية. ولكن هذه الجامعات لا تهتم بالبحث العلمي فقط، بل تضطلع بدورها بإعداد باحثي المستقبل في مختلف المجالات، ويشكل التآزر بين البحث والتدريس الصفة الأساسية لهذه الجامعات.

ويواجه الانتقال إلى الجامعات البحثية في البلدان النامية عدة مشكلات، ويحتاج إلى جهود متضافرة وتمويل مستدام، ولكن النواة الأولى في عملية الانتقال هو وجود من له القدرة على التواصل بلغة البحث العلمي العالمي، ونقاش المعرفة والمشاركة في إنتاجها ولو جزئياً.

وتناقش هذه الورقة أهم المشكلات التي تقف عائقاً أمام الانتقال نحو الجامعات البحثية في العراق، ألا وهي غياب ثقافة البحث العلمي بين طلبة المراحل الأولية في الجامعات العراقية على وفق استبيان لعينة من طلبة الكليات العراقية.

مقدمة

حتى بدايات القرن التاسع عشر، كانت السمة الأساسية للجامعات في أوروبا هي تداول المعارف المختلفة وتفسيرها، وكان البحث العلمي يجري خارج المجتمع الجامعي وبنحو مستقل؛ وبذلك يمكن وصفها بجامعات مستهلكة للمعرفة لا منتجة لها.

ولكن البحث العلمي وإنتاج المعرفة بدأ يكون ركناً أساسياً في الجامعات بعد تأسيس جامعة برلين في ألمانيا (جامعة همبولت حالياً) من قبل الفيلسوف فيلهلم فون همبولت عام 1818.

كانت فكرة همبولت قائمة على أن تكون الجامعة مكاناً تتلاقح فيه الأفكار المختلفة بشتى العلوم، ويلتقي فيه الطالب مع الأستاذ بطرح الأسئلة وإنتاج المعرفة؛ وبالتالي الانتقال بالمجتمع ككل نحو التطور.

وأثبتت فكرة همبولت نجاحها وصارت العقيدة الأساسية للجامعات الألمانية التي تأسست بعد جامعة برلين، وأحدثت ثورة في نظام التعليم عموماً وساعدت بصعود نجم ألمانيا؛ مما شجع الولايات المتحدة الأمريكية واليابان فيما بعد على تبنيها في نهايات القرن التاسع عشر، وأطلق على هذه الفكرة «أنموذج همبولت للتعليم العالي»1.

أما اليوم -وبعد مئتي عام من تأسيس همبولت لجامعته- فتمثّل الجامعات البحثية (أو الجامعات ذات التوجه البحثي) أركاناً أساسية في تكوين المعرفة في القرن الحادي والعشرين، وتعدّ هذه الجامعات من أهمّ المؤسسات الفاعلة في دعم التحوّل نحو اقتصاد المعرفة وإعداد الأجيال لإحداث التطور التكنولوجي والعلمي للبلدان على المستويات المختلفة، والانتقال من استهلاك المعرفة إلى إنتاجها2.

وإلى جانب تعظيم الجهود البحثية، فإن ما يميّز الجامعات البحثية هو تركيزها على الربط بين البحث العلمي وإنتاجه، وكذلك التدريس والتعلّم وإعداد باحثي المستقبل ليكون للجميع -طلاباً وباحثين- الفرصة للمشاركة في البحث والتطوير، ويعدّ التآزر بين البحث والتدريس السمة الأساسية المطلوبة حتى نطلق على الجامعة مصطلح الجامعة البحثية3.

ونجد اليوم أن الجامعات التي تحتل مراتب متقدمة في التصنيف، يكون البحث العلمي وإنتاجه على مستوى عال فيها، وكلما تأخر ترتيب الجامعة كان للبحث العلمي فيها نصيب قليل. ولو وضعنا الجامعات المنتجة للمعرفة على الخارطة، لوجدنا أن البلدان المتقدمة معرفياً تكون متقدمة اقتصادياً والعكس صحيح؛ مما يعني أن انتاج المعرفة يساعد في صعود المؤشرات الاقتصادية للبلدان، وللارتقاء بالاقتصاد تحتاج الدول -غالباً- إلى إنتاج المعرفة أو الاستعانة بخبرات منتجة لها؛ وبالتالي تكون هذه الدول مستهلكة للمعرفة2.

وجعل هذا التفاوت بين إنتاج المعرفة واستهلاكها الخبراء في التعليم العالي يذهبون إلى مصطلح الفجوة بين مراكز الإنتاج وفروع الاستهلاك، حيث إن جامعات البحث العلمي هي المنتجة للمعرفة في البلدان المتقدمة، والجامعات المقتصرة على التدريس هي الفروع المستهلكة للمعرفة في البلدان النامية4.

ولكن مع تسارع التطور، وسهولة التواصل يكون النقاش محتدماً حول إمكانية تقليل الفجوة ودخول الجامعات المستهلكة للمعرفة إلى المجتمع العلمي العالمي، وتحولها إلى جامعات منتجة أو على الأقل مشاركة في إنتاج المعرفة؛ وبالتالي المشاركة في تطور البلدان على المستوى البعيد.

وعلى هذا الأساس بدأت عدة بلدان بالتخطيط وبذل الجهد للارتقاء بجامعاتها نحو المساعدة في  تطوير المجتمع العلمي العالمي كالصين، وتايوان، وجنوب أفريقيا، وتشيلي بتحسين الجودة، ومراقبة الأداء، والتوأمة مع جامعات لها باع في البحث العلمي.

لقراءة المزيد اضغط هنا