من البديهيات التي يجب أن نضعها في الحسبان هي أن تحسن الاقتصاد في العراق من أساسيات استقرار البلاد سياسياً وأمنياً، وعلى الرغم من ذلك نرى بوضوح تام أن العراق -وبحسب التحليلات الاقتصادية- يعتمد على قطاع النفط وسيبقى معتمداً عليه على المدى القريب والمتوسط في نموه الاقتصادي التي تعد مشكلة، فضلاً عن المشكلة الأخرى المتمثلة بالمعاناة في القطاعات الاقتصادية الأخرى كالصناعة، والزراعة، وقطاعات الخدمات الحكومية مثل: الصحة، والتعليم.

وفي السنوات المقبلة سيعتمد العراق على عائدات النفط لتمويل معظم عمليات إعادة الإعمار وتطوير البلاد، وهناك العديد من العوامل السياسية والاقتصادية التي قد تعيق هذه العمليات، والتي من المرجح أن تستغرق سنوات حتى يتمكن العراق من زيادة صادراته إلى المرحلة التي يمكن أن تغطي جميع تكاليف إعادة الإعمار.

فعلى المدى القصير، اضطر العراق إلى أن يلجأ إلى وسيلة غير محببة لتمويل هذه المشاريع ولاسيما من خلال برامج المعونة الأجنبية والقروض، ولكن على المدى البعيد يجب إيجاد وسائل لتوسيع قطاعات أخرى من الاقتصاد وتطويرها، على الأقل إلى درجة الاستدامة الذاتية. وفي الوقت الحالي يستورد العراق معظم احتياجاته من البلدان المجاورة، ولاسيما السلع الزراعية؛ وهنا بات لزاماً تركيزُ الحكومة على تحسين قوانين الأعمال في البلاد وإصدارُ قانون جديد للاستثمار؛ لجذب الشركات الأجنبية في مختلف القطاعات، بعد قدرة العراق على تطوير مستويات الأمن التي من شأنها طمأنة المستثمرين بأن الاستثمارينِ الأجنبي والمحلي آمنان، وضمان عدم تعرض الاستثمارات في البنية التحتية والتنمية للاعتداءات.

وبالمماثلة مع البلدان الأخرى -وحين قراءة قانون الاستثمار الجديد في مصر الذي أصدرته الحكومة المصرية في شهر حزيران الماضي- يرى بعضهم أنه قد يمثل نقلة نوعية لتحفيز الاستثمار وجلبه وتشجيعه سواء للمستثمرين الأجانب أو المحليين، وأن القانون يوفر الحماية للمستثمر من الوقوع تحت طائلة السيطرة الحكومية؛ ومن ثم يساعد على جذب المستثمر الأجنبي. وضم القانون المصري حزمة قوية من المواد والإجراءات المحفَّزة على الاستثمار، منها تطبيق نظام الشباك الواحد الخاص بمنح التراخيص للمستثمرين؛ تفادياً لسقوط المستثمر في دوامة البيروقراطية، والمساواة بين المستثمرين، ومنح حوافز للاستثمار في المناطق النائية والفقيرة.

وفي الحقيقة، يحتاج العراق إلى تطبيق نظام “الشباك الواحد” لشؤون الاستثمار؛ حيث إن جميع مؤسسات الدولة تنتدب موظفاً عن كل مؤسسة، ويتواجد بمقر مركز الاستثمار ليؤدي عملية التنسيق بين مؤسسة الاستثمار ومؤسسته التي يعمل لحسابها، ويقدم المستثمر طلبه لمركز الاستثمار، ويحصل من المركز على شهادة العمل؛ والغاية من تأسيس ذلك المركز القضاء على قضيتي البيروقراطية والفساد الإداري اللتين تشكلان أهم عوائق الاستثمار.

ولتسهيل الحصول على تراخيص استثمارية، تعتمد هيئات الاستثمار في الدول ذات المناخ الاستثماري الناجح على إجراءات في مركز الاستثمار تتم على وفق الخدمات الإلكترونية، وضمن مدة زمنية محددة للانتهاء من الإجراءات والتراخيص في تأسيس الشركات وتوسعتها أو تصفيتها، واستخدام المكننة الإدارية عند تقديم الطلبات الاستثمارية، وتأسيس نظام مكاتب الاعتماد ضمن مركز الاستثمار؛ لفحص المستندات والتأكد من استيفائها للشروط، وإلزام الجهات الإدارية بالبت على وجه السرعة في طلبات المستثمرين في مدة قصيرة.

إن العراق بحاجة إلى قانون جديد يوفر أساليب حماية للمستثمر وآليات الدخول والخروج من السوق، مع تحديد مفهوم الشخصية الاعتبارية للشركات فيما يخص الملاحقات القضائية والمسؤولية المباشرة للمستثمر -كما هو معمول به في الدول الأوروبية-، ومنع مصادرة أي مشروع أو إيقافه إلا بالرجوع لهيئة الاستثمار.

وفي سياق متصل، هناك حاجة ملحّة لإصدار قانون جديد عن الإفلاس يشجع المستثمرين ويسهل عملية الدخول والخروج من السوق العراقية، مع استحداث نظام إعادة الهيكلة وإجراءات ما بعد الإفلاس، وإلغاء العقوبات الجنائية لمن يتعثّر من المستثمرين المفلسين في تسديد الديون ضمن ضوابط معتمدة في المناخات الاستثمارية الناجحة. ومن المفترض أن ينفّذ قانون الإفلاس لمدة قصيرة، وليس على مدى سنوات لتصفية شركة متعثرة.

وإن الخطوة الأولى لتهيئة المناخ الناجح للاستثمار في العراق بعد الاستقرار الامني، تتمثل في تشريع القوانين ذات الاختصاص ووضع الآليات التي تسهل التنفيذ، وليس من السهل تحويل مناخ استثماري طارد إلى جاذب، إلا أن دراسة المشكلات والمعوقات وتذليلها أمر ممكن بالتشريعات والآليات.

فعلى سبيل المثال: منحَ القانون الاستثماري المصريّ لجميع مشروعات الاستثمار، الأرض بالمجان مع تخفيض ٥٠٪ في أسعار الطاقة وإعفاء من الضرائب لمدة ١٠ سنوات. وفيما يخصُّ الحوافز الخاصة، منح القانون المشروعات الاستثمارية حافزاً استثمارياً تمثّل في خصم نسبة ٧٠٪ من التكاليف الاستثمارية في المناطق الجغرافية الأكثر احتياجاً للتنمية، وخصم ٥٠٪ من التكاليف الاستثمارية للمناطق التي تحتاج إلى التنمية ولا تدخل ضمن نطاق المناطق الجغرافية الأكثر احتياجاً، وكذلك خصم ٣٠٪ للمناطق الأخرى ذات المشروعات كثيفة الاستخدام للعمالة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والمشروعات التي تعتمد على الطاقة الجديدة والمتجددة، أو المشروعات القومية والاستراتيجية، والمشروعات السياحية، وصناعة السيارات والصناعات المرتبطة بها، والصناعات الخشبية، وصناعة المضادات الحيوية والأدوية، والجلود، والصناعات الهندسية والمعدنية.

ومن الأمور المهمة للمستثمر الأجنبي أن تتم معاملة مسائل إقامته في العراق بمعاملة مماثلة للمستثمر العراقي طوال مدة المشروع، وإن للمستثمر العراقي أو الأجنبي الحقَ في استخدام عاملين أجانب في حدود معينة من إجمالي عدد العاملين بالمشروع، فضلاً عن منح المستثمر الحق في تحويل الأرباح الناتجة عن المشروع الاستثماري إلى الخارج.

وتستطيع الحكومة إلزام الشركات الاستثمارية بالإنفاق في مجالات اجتماعية -من نسبة من صافي دخل المشروع- بحيث تُخصَم من الضريبة السنوية، مثل الصحة، وحماية البيئة، والتعليم المهني والبحوث العلمية، والتنمية الاجتماعية والثقافية.

والجدير بالذكر أن تحديث قانون الاستثمار مع القوانين المترابطة معه لن تحل مشكلة الاستثمار في العراق آنياً؛ لأن شكاوى المستثمرين لا تقتصر على القوانين، ولكن تشريع القوانين مجرد خطوة ضمن سلسلة من التشريعات والقوانين التي تحسن البنية القانونية للاستثمار.