سلمان صادقي زاده، باحث زائر في مركز الشرق الأوسط للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، متخصص في الشؤون الإيرانية وقضايا الشرق الأوسط والقوى العظمى.

لعلَّ من النادر أن نجد أحداً يجهل اسم تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام المعروف بـ “داعش” الظاهرة التي يكون بروزها في عصر العولمة وانتشار الحداثة وانتقالة المجتمعات الصناعية لافتاً للأنظار. إنّ لمضمون داعش ماهيةً فكريةً، ولهيكلها وقوامها ماهية عسكرية، فعلى الرغم من أن استرجاع المناطق التي سُمّيَت بمناطق الخلافة يكون بمعنى الانتهاء العسكري لهذا التنظيم، ولكن هذا لا يعني نهايته الفكرية.

إنّ النظرة الإجمالية الأولى ترى داعش نتاجاً سياسياً صَنَعته القوى الأجنبية، وأنّه يُهزَم ويُدحَر بسبب توقف تلك القوى عن دعمه؛ وبهذا يكون على وفق هذه الرؤية ظاهرة قد انتهت سطوتها يوم هزيمتها في منطقة البوكمال السورية كونها آخر معقل مهم للتنظيم. وعلى الرغم من أنّ هذا التحليل قد اشتهر على مستوى التحليلات الصحفية ولكن بقليلٍ من الدقّة يمكن أنْ نعرف بأنّ داعش قبل أن يكون جسداً وهيكلاً تنظيمياً فهو عبارة عن روحية ومجموعة من الأفكار، فهو روحٌ كانت تائهة طوال سبعة قرون، تبحث عن جسدٍ مناسبٍ لتلج فيه؛ وبعبارةٍ أخرى: لا تعني نهاية داعش العسكرية بأيّ حالٍ من الأحوال نهايةً لفلسفته الوجودية.

فضلاً عن ذلك فإنّ الكاتب والوزير الإسرائيلي السابق “موشيه يعلون” لا يرى في كتابه المعنوَن “الخلافة الافتراضية” تلازماً بين وجود داعش واحتلال الأراضي، وهو يعدّها دولة من دون أرض! إذن فإن داعش والقاعدة وطالبان وكلّ التيارات الإسلامية السلفية هي قوى خطابية في الأساس أكثر من كونها قوى عسكرية، إذ تعمل في الغالب على إحياء الخلافة الإسلامية؛ فمع انهيار الإمبراطورية العثمانية سنة 1922، وبعد ستّة قرونٍ من الزمن تدهورت في وعي الطائفة السنّية مركزيةُ نقطةِ الثّقلِ المتمثلة بدار الإسلام المصطفّة أمام دار الكفر.

إذن فإن داعش على مستوىً خاص والأصولية الإسلامية على مستوى عام تكون موجودة وبمعزلٍ عن إرادة القوى الأجنبية، وهي متجذّرة في قراءة سلفية للنص المقدّس. أمّا القوى الأجنبية فقد عملت على استغلال مثل هذه التيارات تحقيقاً لمصالحها الخاصّة، ودعمت هذه التيارات السلفيّة من أجل مطامعها السياسية، ولاسيما أن مثل هذا التوظيف الذرائعي واردٌ وممكن في كلّ شيء؛ إذن يفترض القول: إنّ العلاقات السياسية القائمة التي يحكمها وضع داعش الماضي والحاضر يجب عدّها أمراً لاحقاً ومتأخّراً.

فمن هنا ستكون نهاية داعش في ذلك اليوم الذي تضمحلّ فيه منظومتها الفقهية -المنظومة التي لطالما كانت منتجة ومبررة ومضاعفة لعقيدةٍ وسلوك خاص-؛ إذ تقدّم لأتباعها أدلّة ومبررات لكلّ أنواع القتل والتدمير والظلام؛ وهذا ما يفسّر وجود كتبٍ من أمثال “فقه الدماء” أو “مسائل من فقه الجهاد” لـ”أبي عبد الله المهاجر المصري”، أو كتاب “إدارة التوحش” لـ”أبي بكر ناجي”. إنّ المفاهيم الرئيسة في فقه داعش متعددة، ويمكن أن نعدّ في مقدّمتها الجهاد، والسلفية، والإمامة، والتكفير، والارتداد، ودار الإسلام، ودار الكفر؛ فهذه مبادئ تقدّم مبررات فقهية لبعض السلوكيات الإجرامية من قبيل الحرق والتعذيب، وإبادة الأيزيديين، وسبي النساء والأطفال.

أمّا بالاستناد إلى منهجية “ماكس فيبر/Max Weber” وإلى أسس علم الاجتماع الألماني فإنّ الظاهرة الاجتماعية لا يمكن أن تبرز بسببٍ واحد، إذ توجَد أسباب وعلل ناقصة([1]) من قبيل هيمنة العالم الرأسمالي، والتضاد الاجتماعي، والفساد التنظيمي، وعدم جدّية الغرب والشرق في محاربة داعش؛ فكلّ ذلك يسهم في إنتاج وإعادة إنتاج ظاهرة داعش؛ ولكن لن تدلّ أيٌّ من هذه الأسباب على القاعدة المنطقية القائلة: “الشيء ما لم يجب لم يوجَد”([2])، ولا تفسّر أيّةٍ منها العلّة التامّة والرئيسة لظهور داعش.

لذا فإنّ العلّة التامّة في بروز ظاهرة داعش هي وجود قراءة خاصّة للإسلام متسلّحة بقراءات فقهية تقليدية، وتفسّر التأريخ في ضوء هذه القراءة، وتذهب إلى أبعد من ذلك، وتعدّ نهاية التأريخ وظهور المهدي المنتظر (عج)، وعيسى المسيح (ع)، وخضر النبي (ع)، وإلياس النبي (ع) مرادفاً لانتصارها وهزيمة الآخرين؛ إذ نقرأ ضمن متبنّيات داعش العقائدية أنّ أبا هريرة ينقل عن رسول الله (ص) قائلاً: “لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأَعْمَاقِ -أَوْ بِدَابِقَ- فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ خِيَارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فَإِذَا تَصَافُّوا قَالَتِ الرُّومُ خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ. فَيَقُولُ الْمُسْلِمُونَ: لاَ وَاللَّهِ لاَ نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا، فَيُقَاتِلُونَهُمْ فَيَنْهَزِمُ ثُلُثٌ لاَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَبَدًا، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لاَ يُفْتَنُونَ أَبَدًا فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطُنْطِينِيَّةَ فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ الْغَنَائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ، إِذْ صَاحَ فِيهِمُ الشَّيْطَانُ إِنَّ الْمَسِيحَ قَدْ خَلَفَكُمْ فِي أَهْلِيكُمْ. فَيَخْرُجُونَ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِذَا جَاءُوا الشَّامَ خَرَجَ فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إِذْ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمَّهُمْ فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَلَوْ تَرَكَهُ لاَنْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللَّهُ بِيَدِهِ فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ”([3]).

بعبارةٍ وجيزة نقول: إن هزيمة داعش على المستوى العسكري ليست سوى إزالة هيكلية لهذا التنظيم، فإنّ شبحه سيبقى يجوب العالم منتظراً مسبباً آخر لإحضاره؛ ولا سبيل إلى الخلاص منه إلّا بنسيان مبادئه ومبانيه المدعومة باستنباطات وقراءات ظاهرية للفقه، أو من خلال اضمحلاله.


 

المصدر: مركز الشرق الأوسط للدراسات العلمية والأبحاث الاستراتيجية

https://www.cmess.ir/Page/View/2017-11-29/2244

[1]– العلة التامة هي العلة التي يتوقف وجود “المعلول” عليها من غير أن يجب وجودها مع وجوده، كالخطوات. والعلة الناقصة بخلاف ذلك.

[2]– أي: بيان أنّ العلّة ما لم يجب كونها علّة لم تكن علّة بالحقيقة، وأنّ المعلول ما لم يجب وجوده بالغير لم يكن موجوداً.

[3]– رواه مسلم (2897).