في العام 1980 ضمت الحكومة الإسرائيلية الجزء الشرقي لمدينة القدس بعد احتلالها في حرب حزيران 1967 وإعلانها عاصمة لها، إلا أن المجتمع الدولي لم يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل؛ لاحتواء القسم الشرقي من المدينة على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية واليهودية على حد سواء؛ وبالتالي صار الاعتراف يعني الإقرار بيهودية القدس، وتجاهل المسلمين والمسيحيين، وجعل جميع الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية تحت إدارة الحكومة الإسرائيلية، وتهديد وجود مئات الآلاف من الفلسطينيين ممن يعيشون في القدس؛ وكرد فعل، نقلت معظم دول العالم سفاراتها من القدس الغربية إلى تل أبيب تأييداً لقرار الأمم المتحدة الرافض لتهويد القدس.

وفي عام 1990 ناقش الكونغرس الأمريكي نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، وصدر قانون نقل السفارة عام 1995، وقد تضمن القانون أن تبقى القدس موحدة تحت السلطة الإسرائيلية، والاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، وإلزام الإدارة الأمريكية بنقل السفارة؛ لكن القانون قد منح الرئيس الأمريكي حق تأجيل تنفيذ القرار، وهو ما سار عليه الرؤساء الأمريكيون من بيل كلينتون وجورج بوش إلى باراك أوباما خشية فشل محادثات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعد سنوات طويلة من الانتفاضة.

ومما لا شك فيه أن تنفيذ القرار الأمريكي هذا سيهدد باندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة، وهو ما يعني حرب استنزاف لإسرائيل في احتجاجات طويلة تهدد جميع الأطراف في الشرق الأوسط، وتقضي على سمعة الولايات المتحدة التي تعهدت في المفاوضات الأولى بين الفلسطينيين والإسرائيليين بتحديد هوية خاصة للقدس الشرقية.

إن قرار الرئيس ترامب يتناقض مع السياسة الأمريكية القديمة التي تعدُّ القدس مدينة محتلة كجزء من قرار التقسيم الذي اتخذته الأمم المتحدة عام 1947 لجعل القدس منطقة دولية، وإبقائها للأديان الثلاثة. ويناقض هذا القرار أيضاً الالتزام الأمريكي باتفاقية أوسلو لعام 1993؛ حيث تبقى قضية القدس إحدى القضايا الرئيسة الواجب تسويتها في مفاوضات السلام النهائية.

إن من الصعب التنبؤ برد الفلسطينيين على هذا القرار الأمريكي، وما بات واضحاً هو أن هناك غضباً شديداً قد يؤدي إلى انفجار عنيف ذي أبعاد دينية عميقة في العالم الإسلامي، وقد يدفع الغاضبين اليائسين إلى دعم أيديولوجية داعش؛ وبالتالي ستؤدي الخطوة الأمريكية إلى تقوية التطرف بدلاً من اجتثاثه.

فالانتفاضة الفلسطينية الأولى أو ما عرفت بانتفاضة الحجارة، كانت نتيجة للوضع المأساوي في المخيمات الفلسطينية بانتشار البطالة والإهانات اليومية من قبل الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، فتسبب حادث عدّه الإسرائيليون أمراً هيّناً بقيام الانتفاضة الأولى؛ ففي يوم 8 كانون الأول 1987، دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز تفتيش إسرائيلي في قطاع غزة، إذ أشعل ذلك الحادث الشرارة الأولى للانتفاضة التي استمرت حتى 1993 مع توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، مع أنها هدأت إلى حد ما في العام 1991 بعد حرب الخليج الأولى التي كانت من نتائجها بدء المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية برعاية أمريكية.

وقد قتل الإسرائيليون في تلك الانتفاضة نحو 1300 فلسطيني، فيما قتل الفلسطينيون 160 إسرائيلياً فضلاً عن مقتل نحو 1000 فلسطيني متعاون مع إسرائيل.

وحين مراجعة الأسباب التي أدت إلى الانتفاضة الأولى نجد أنها قائمة لغاية الآن، فما زال الشعب الفلسطيني غير متقبل لما حدث له بعد حرب 1948 من تشريد وتهجير قسري مع استمرار ممارسات العنف الإسرائيلية والإهانات اليومية، ويضاف إلى ذلك سوء الأوضاع المعيشية. ومع إعلان الحكومة الإسرائيلية للقدس عاصمة لها في عام 1980 اتخذ الإسرائيليون بعض الإجراءات مثل تقنين الدخول إلى الحرم المقدسي، والأماكن الإسلامية، والاستيلاء على بعض الأراضي في القدس لبناء المستوطنات.

واتهم إسحاق رابين -رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها- إيران وسوريا بأنهما تقفان وراء اندلاع الانتفاضة، بينما اتهم نائبه منظمة التحرير الفلسطينية بمسؤولية اندلاع الاحتجاجات، وفي حقيقة الأمر كان هناك إجماع بأن الانتفاضة كانت عفوية ولم يخطط لها أحد، ولكن رابين أراد فرض القانون والنظام بالقوة في الأراضي المحتلة، وإنْ تتسبب بمعاناة للفلسطينيين، وقال كلمته الشهيرة “سنكسر أيديهم وأرجلهم لو توجب ذلك”. ونشر مصور إسرائيلي صور جنود يكسرون أذرع فلسطينيين باستخدام الحجارة في نابلس، وتلك الصور أثارت مشاعر التعاطف حول العالم مع الفلسطينيين.

وفشل الجيش الإسرائيلي في إنهاء الانتفاضة على الرغم من استعانته بقوات النخبة التي حاربت في لبنان، ولم تنفع قوات خاصة إسرائيلية تتكلم العربية دخلت متخفية بين المحتجين. ومع أن الانتفاضة كانت سلمية إلا أن بعض المحتجين استهدفوا الإسرائيليين وتحديداً من عناصر حركة حماس؛ فالانتفاضة تسببت بولادة حركة حماس التي نشأت من تجمع طلبة الشيخ أحمد ياسين بعد أسابيع من تحرك الانتفاضة، وأنشأت الحركة شبكة استخبارات لملاحقة الفلسطينيين المتعاونين مع إسرائيل، ثم بدأت بمهاجمة الجنود الإسرائيليين، وحرق المحال والمزارع المملوكة للإسرائيليين في قطاع غزة؛ وفي وقت قصير صار لحركة حماس دور فعال نتيجة تطويرها سبل المقاومة خلال الاحتجاجات مثل رمي الحجارة، واستخدام السكاكين، وقتل المتعاونين، واختطاف الجنود الإسرائيليين.

وشهدت الانتفاضة الأولى بعض العمليات المؤثرة على إسرائيل مثل عملية “ديمونا بالنقب” عام 1988 حينما تمت مهاجمة موظفين متوجهين إلى مفاعل “ديمونة”، واختطاف جنود لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين. وأدركت القيادة الإسرائيلية أن الحل العسكري لا يجدي نفعاً مع الانتفاضة فتوجهت إلى الحل السياسي وتوقيع اتفاق أوسلو.

ولكن إسرائيل لم تلتزم بتطبيق كل فقرات اتفاق أوسلو واستمرت في سياسة الاغتيالات، والاعتقالات، واجتياح المناطق الفلسطينية، ورفضت إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين مع الاستمرار ببناء المستوطنات، ورفض عودة اللاجئين أو الانسحاب لحدود حزيران 1967، مع تجاهل الإدارة الأمريكية لتنفيذ الاتفاقيات التي جرت برعايتها؛ فكل ذلك سبب حالة من الإحباط والغضب لدى الفلسطينيين، وفي خضم تلك الأجواء قام رئيس الوزراء أرييل شارون بدخول المسجد الأقصى والتجول في ساحاته، وقال إن الحرم القدسي منطقة إسرائيلية؛ فتلك الزيارة قادت إلى مواجهات بين المصليين الفلسطينيين والإسرائيليين في ساحة المسجد الأقصى انتهت بمقتل بعض الفلسطينيين.

وعلى إثر تلك الحادثة، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية أو ما عرفت بانتفاضة الأقصى في 28 أيلول 2000، وانتهت في 8 شباط 2005 بعد اتفاق شرم الشيخ؛ وخلال هذه الانتفاضة، كثرت المواجهات المسلحة التي تسببت في مقتل آلاف الفلسطينيين وإصابة عشرات الآلاف، ومقتل مئات الإسرائيليين وإصابة العديد منهم، وتدمير عشرات الآليات والمدرعات العسكرية الإسرائيلية.

ونتج عن الانتفاضة الثانية إقصاء معظم القادة الفلسطينيين من الصف الأول، وإلحاق الدمار بالبنية التحتية الفلسطينية وممتلكات المواطنين، وانسحاب إسرائيل من قطاع غزة بعد فشل الجيش الإسرائيلي في مواجهة الفصائل المسلحة الفلسطينية، ولاسيما حماس؛ حيث تمكن الفلسطينيون من تصنيع أول صاروخ فلسطيني في غزة، وقاموا بقصف البلدات الإسرائيلية.

وعلى الرغم من بناء إسرائيل لجدار الفصل بينها وبين المناطق الفلسطينية، سادت حالة من انعدام الأمن في الشارع الإسرائيلي بسبب العمليات الانتحارية مسببة في تهديد السياحة في إسرائيل التي تشكل نحو 6% من الدخل القومي الإسرائيلي، وتطورت قدرة الفصائل المسلحة الفلسطينية على اختراق الجدار الأمني، واغتيال وزير السياحة الإسرائيلي، مع قتل المئات من الإسرائيليين.

إن الاحتجاجات الفلسطينية الحالية قد تتجه إلى منحى غير متوقع كما حصل من قبل بعشرات الهجمات المسلحة التي شنها فلسطينيون غاضبون يائسون بنحوٍ منفرد ضد أهداف إسرائيلية دون دراية الفصائل الفلسطينية، ومن الممكن ولادة فصائل جديدة تتبنى العمل المسلح، ومن غير المتوقع أن تدخل غزة في حرب جديدة ضد إسرائيل، ولكن إذا قامت انتفاضة جديدة فإن الجيش الإسرائيلي سيدخل في مواجهة الفتيان والأطفال المحتجين غير المسلحين، وهو سيناريو مقلق للإسرائيليين في سيناريو مشابه للانتفاضتين الأولى والثانية.