علي زياد العلي، باحث متخصص في الشؤون الدولية والاستراتيجية.

تعدُّ أجهزة الاستخبارات ذات أهمية استراتيجية قيّمة لدى جميع الحكومات، ففي عالم متقلب ومحاط بالهواجس والشكوك لا يمكن معرفة القيمة الحقيقية للاستخبارات إلَّا بعد اختبار عملها الأمني، فالاستخبارات ليست الميدان الأمني الوحيد للحكومات، لكنها تستخدم من قبل القابعين على عملية صنع القرار؛ من أجل تعضيد تصوراتهم حول الغموض الذي يشوب البيئة الأمنية (الداخلية، والخارجية) انطلاقاً من حيثيات التناغم والتنافر مع المحيط الخارجي.

تعاظمت أهمية دور أجهزة الاستخبارات العراقية بعد عام 2014؛ نتيجة الانتكاسات الأمنية التي ألقت بظلالها على مخرجات نشاطات هذه الأجهزة وعملها في ميدان البيئة الأمنية الداخلية، انطلاقاً من نظرية (الانبثاق والأفول) التي تتحدث عن صعود الأدوار الاستخباراتية وانحسارها. وقد انعكس الضغط الأمني لأحداث عام 2014 بنحوٍ فعال على أسلوب إدارة أجهزة الاستخبارات من خلال إعادة النظر في الهيكلية، والتنظيم، والأسلوب، والأداء الاستخباراتي الوطني؛ فإعادة النظر بأسلوب الإدارة والأداء جاء نتيجة الحاجة الملحة إلى دور فعال لهذه الأجهزة تماشياً مع حجم التهديد الاستخباراتي والأمني الذي عصف بالداخل العراقي والذي تمثل باتساع دائرة الاعتداءات الإرهابية؛ وبالنتيجة فإن مجال عمل هذه الأجهزة ينعكس سلباً على واقع البيئة الأمنية الوطنية.

من الضروري جداً أن تتبع مؤسسة الاستخبارات العراقية في المستقبل القريب استراتيجية الدفاع بـ(العمق الإقليمي) التي تهدف إلى كسر مصدات الأجهزة والمنظمات الداعمة لنشاطات التنظيمات الإرهابية في العمق الوطني، فمبدأ الدفاع في العمق هو استراتيجية يمكن وصفها بأنها الأنضج والأصلح لأداء مؤسسات الاستخبارات العراقية من خلال تفعيل نشاطاتها وتقليل جوانب ضعفها. ومن دون شك أن أي إخفاق يشوب عمل هذه الأجهزة هو انعكاس سلبي يعصف بديمومة البيئة الأمنية في العمق الاستراتيجي الوطني للعراق.

بعد عام 2014 انتقلت الاستراتيجية الآمنة لأجهزة الاستخبارات العراقية من النشاط المحجم والمحدود محلياً إلى التكتيك الإقليمي الموسع من خلال توسيع رقعة نشاطاتها؛ لتشمل المنشأ والمنطلق الاستخباري المضاد ولاسيما أن العراق اليوم يعاني من عزلة أمنية-إقليمية بأبعاد جزئية؛ بسبب المواقف والأدوار التي ترتبت على منطلقات السياسة الخارجية، لذا فالزخم الأمني الاستراتيجي لأجهزة الاستخبارات الوطنية بات بمرحلة الارتقاء الجزئية، ولاسيما من ناحية قياس منحنيات تأثير الأداء، ومنعكسات البيئة الأمنية المستقرة؛ فالانتصارات العسكرية على (داعش)، وحسم المعركة عسكرياً هو بالتأكيد بداية لمرحلة جديدة يقع ثقلها في مجمله على كاهل العامل الاستخباراتي الوطني، من خلال انتقال حلبة الصراع من المواجهة المكشوفة إلى المواجهة الاستخباراتية الأمنية.

ومن هنا يأتي دور البعد الاستخباراتي لرصد المعلومات في المناطق المحررة وتعضيدها، ورأب التصدعات الأمنية، فضلاً عن إدامة الاختراق المعاكس للمناطق الرخوة أمنية ولاسيما في منطقة عمق التأثير الأمني للعاصمة بغداد، التي تعني خط المواجهة الأول استخباراتياً، التي تمثل بوابة الموجهة والتحدي الأمني مع التنظيمات الإرهابية، فاستخبار الحدث قبل انطلاقه ومن ثم معالجته بتكتيكات أمنية خاصة بعيدة عن العمل العسكري المكشوف إعلامياً هو من صلب التكتيكات الاستخباراتية المتبعة في الوقت الحاضر.

ويبرز دور أجهزة الاستخباراتية العراقية في المرحلة المقبلة بمدخلين استراتيجيين تنصب اتجاهاتهما على الصعيد الداخلي والخارجي، هما:

المدخل الاستراتيجي الداخلي (البيئة الداخلية):

1- تحطيم حاجز الجمود الاختراقي للتنظيمات الإرهابية من خلال تفعيل أدوار العملاء المهجنين للحصول على المعلومة الدقيقة.

2- رفد صانع القرار العراقي برؤية معلوماتية مستقيمة؛ ومن شأن هذا إعادة صياغة القرارات الاستراتيجية بصورة صحيحة على صعيد الأمن الاستراتيجي وعلى الصعيد السياسي.

3- كسر الجمود الاستخباراتي (المكتبي) من خلال تضيق فجوة المسافة بين العناصر الاستخباراتية والبيئة الأمنية (الداخلية والخارجية)، الذي من شأنه الانعكاس على حسن الأداء الاستخباراتي.

4- تكثيف الجهود الاستخباراتية في المناطق البعيدة من الأماكن المأهولة، حيث تمثل هذه المناطق دوائر رخوة للبيئة الآمنة الوطنية انطلاقاً من البعد الجغرافي الذي يعد نقطة مفصلية في دائرة الأمن الاستراتيجي الوطني.

5- تضليل العدو من خلال إمداده بمعلومات زائفة من طريق استراتيجية (الاختراق الزائف) التي تمكن الأجهزة الاستخباراتية من زرع معلومات تكتيكية مزيفة داخل المنظمات الإرهابية.

6- تشكيل هيئة الإنذار المبكر الاستخباراتية التي يقتصر عملها على جمع المعلومات المستقبلية من دوائر البحث والتقصي (صناديق الأفكار)، التي ترتبط مباشرة بالهياكل العليا لأجهزة الاستخبارات الوطنية؛ من أجل إعطاء تصورات ذهنية لهيكلة البيئة الأمنية الداخلية والإقليمية، وهو بالتأكيد سيساهم بنحوٍ كبير بكسر حاجز الصدمة الأمنية.

المدخل الاستراتيجي الخارجي (البيئة الإقليمية – الدولية):

1- تنسيق الجهود الاستخباراتية المحلية مع الأجهزة الاستخباراتية الإقليمية، من خلال تكثيف الارتباط والنفوذ والتعامل المسيطر عليه بالتعاون الأمني والتنسيق المؤسساتي المحسوب، من دون أن يؤثر هذا التنسيق على عمل الاستخبارات في الداخل بالابتعاد عن الاتكال على الأجهزة الخارجية بنحوٍ كبير في اقتناص المعلومة.

2- تعضيد التنسيق الاستخباراتي مع الاستخبارات الدولية (المتنفذة)، فمن ضرورة الارتقاء بعمل أجهزة الاستخباراتية الوطنية هو إيجاد نوع من الترابط والتعاون مع الأجهزة الاستخباراتية الدولية العريقة الذي يعطي استفادة من الإمكانيات الحديثة في استقصاء المعلومة، فضلاً عن تكثيف التعاون من أجل تبادل المعلومات الذي سينعكس إيجاباً على البيئة الأمنية الوطنية.

3- الاختراق المضاد للاستخبارات الإقليمية لكشف بوصلة التأثير على الأمن الوطني العراقي، وكسر حاجز العمل في الداخل، وإيجاد نوع من التوازن لرفع مستوى الجهد الاستخباراتي الخارجي؛ ليوازن حجم الجهد الخارجي.

4- تكثيف الجهد الاستخباراتي في الخارج الإقليمي والدولي، انطلاقاً من مبدأ أن البيئة الداخلية لها علاقة ترابطية مع متغيرات البيئة الدولية؛ وبالتالي لا بدَّ من تكثيف الجهود الاستخباراتية في الدائرة الإقليمية والدولية، وضوررة الابتعاد عن تغليب الجهد الداخلي على الجهد الخارجي، فبالتأكيد أن انعكاسات البيئة الخارجية هي ذات تأثير على البيئة الأمنية الوطنية.

ومما ذُكِرَ من معلومات واقتراحات في مظانِّ هذه الورقة يمكن القول إن دور أجهزة الاستخبارات العراقية في الدائرة الأمنية الداخلية والإقليمية لا يقتصر عمله على الكشف المبكر عن الاعتداءات الإرهابية في الداخل الوطني والاختراق المضاد، ولكن يتبلور عمل هذه الأجهزة ليشمل رفد الجهات العليا بمعلومات استراتيجية تعضد وجهة نظر صانع القرار ببعض المعلومات حول المسائل الاستراتيجية الداخلية والخارجية، وإن ارتقاء دور هذه الأجهزة هو انعكاس وظيفي لطبيعة توجهات الإدارة الاستخباراتية نحو صياغة الأمن الوطني الوظيفي، فالدور المستقبلي لهذه الأجهزة في البيئة الداخلية الوطنية يجب أن يتم على وفق رؤية وطنية شاملة تعكس طبيعة الواقع المجتمعي والثقافي، فكلما ارتقى الدور الاستخباراتي لهذه الأجهزة إلى المستوى المطلوب عكس أداء الأمن الداخلي مستوى سقف الطموحات الوطنية وصولاً إلى الهدف المنشود المتمثل بالسيادة الاستخباراتية الوطنية.