د. زهير جمعة المالكي، مستشار اقدم في مشروع الاتحاد الاوروبي لتطوير التعليم القانوني العالي في العراق.

لا تخرج الشركات الأمنية الخاصة -بغض النظر عن التوصيفات والتعريفات التي توردها عن نفسها في مواقعها الإلكترونية ونشراتها التعريفية- عن كونها مشاريع تجارية تقدم خدمات أمنية وعسكرية في آن واحد، وتشمل تلك الخدمات على أشخاص مدربين ومسلحين؛ لتوفير الحمايات للشخصيات والعجلات والأبنية والمواقع بأنواعها كافة سواء السكنية أو التجارية أو حتى العسكرية وغيرها من الأماكن. ومن ضمن خدماتها أيضاً تشغيل منظومات الأسلحة وصيانتها سواء الدفاعية أو الهجومية، فضلاً عن احتجاز المسجونين والتحقيق معهم، وتقديم المشورة للقوات المحلية وأفراد الأمن وتدريبهم. وقد تزايد الطلب على الشركات العسكرية والأمنية الخاصة منذ نهاية الحرب الباردة حتى أنها تحولت إلى نشاط اقتصادي كبير يقدم باقة أوسع من الخدمات، ويوظف بعض تلك الشركات ما يزيد على عشرة آلاف موظف دائمي ما عدا عشرات الآلاف من الأفراد المتعاقدين.

وعلى الرغم من أنّ العالم القديم قد عرف نظام المرتزقة المقاتلين منذ آلاف السنين، حيث إن التأريخ يسجل أن أكزينفون الأغريقي قد قاد عشرة آلاف مرتزق من مختلف المدن الأغريقية في حملة لقارة آسيا، وأن سويسرا أيضاً -البلد الذي يعد مضرب الأمثال في الحياد- كان حتى القرن الثامن عشر المصدر الأساس لتجنيد المرتزقة المقاتلين، ولكن شهادة الميلاد الحقيقية لنشاط الشركات الأمنية الخاصة تمّت كتابتها على يد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد الذي كتب قائلاً عام 2002: “لقد قررت تبني أنموذج تجاري بالبنتاغون يعلن الحرب علي النمط البيروقراطي؛ لنرتدي ثوب المغامرين الرأسماليين”. وقد نشر رامسفيلد عام (2006) خطته التي أطلق عليها (خريطة طريق من أجل التغيير)، وتم فيها تصنيف قوات وزارة الدفاع إلى قوات عاملة، واحتياطية، وخدمة ميدانية، ومرتزقة وهؤلاء جميعا يشكلون الكثافة والقتالية لوزارة الدفاع.

عدَّ القانون الدولي منذ عام 1899 صور المرتزقة كافة -سواء الاستخدام أو التدريب أو التجنيد- عملاً غير مشروع طبقاً للقانون الدولي مهما كان الهدف منها ولاسيما المواد من (29/31) من اتفاقيتي لاهاي لعامي 1899/1907 بشأن قوانين الحرب البرية وأعرافها والمادة (5) من اتفاقية جنيف الرابعة والمادة (46) من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977 لاتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949. وكذلك الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة، واستخدامهم، وتمويلهم، وتدريبهم الصادرة عن الأمم المتحدة، وقد صدرت العديد القرارات عن الأمم المتحدة تحرم عمل المرتزقة وتجرمه في صوره كافة، وإن المجتمع الدولي عَدَّ عمل المرتزقة جريمة من الجرائم ذات الاختصاص الدولي، ونظراً لخطورة هذه الجريمة نصّت الاتفاقية السابقة علي جعل الشروع والاشتراك فيها جريمة من الجرائم التي يجب معاقبة من يرتكبها، وجعلتها من الجرائم التي تستوجب تسليم المجرمين حتى في حالة عدم وجود معاهدة تسليم بين الدول، واعتبرت الجريمة وقعت في أراضي الدولة الذي قبض على المتهم فيها. ومن القرارات التي صدرت بهذا المجال القرار رقم (40/74 الصادر في 11/12/1985)، وقرار المجلس الاقتصادي والاجتماعي رقم (1986/43 المؤرخ في 23/5/1986) الذي دان فيه المجلس تزايد تجنيد المرتزقة، وتمويلهم، وحشدهم، ونقلهم، واستخدامهم. والقرار رقم (41/102 الصادر في 4/12/1986) بشأن المرتزقة؛ كوسيلة لانتهاك حقوق الإنسان ولإعاقة ممارسة الشعوب لحقها في تقرير المصير، الصادر عن الجمعية العامة في جلستها العامة رقم (97)، وكذلك أصدرت الجمعية العامة عدة قرارات بشأن المرتزقة منها القرار رقم (49/150 الصادر في 23/12/1994)، والقرار رقم (50/138 الصادر في 1/12/1995)، والقرار رقم (51/83) والقرار رقم (15/83 الصادر في 12/12/1996)، والقرار رقم (52/112 الصادر بالجلسة العامة رقم (70) في 12/12/1997)، بشأن استخدام المرتزقة كوسيلة لانتهاك حقوق الإنسان، وإعاقة ممارسة حق الشعوب في تقرير المصير. وقد أصدر مجلس الأمن الدولي عدة قرارات بشأن إدانة أي دولة تعمل على إجازة أو إباحة تجنيد المرتزقة وتقديم التسهيلات لهم؛ بهدف الإطاحة بحكومات دول أعضاء في الأمم المتحدة، منها القرار رقم (239/1967 في 10/6/1967)، والقرار رقم (405/1977 الصادر في 14/4/1977)، والقرار رقم (419/1997 الصادر في 24/11/1977)، والقرار رقم (946/1/12/1981)، والقرار رقم (507/1982 في 28/5/1982). وقد أصدر مجلس الأمن القرار رقم (1467/2003 في جلسته المعقودة في 28/3/2003) الذي قرر فيه المجلس اعتماد البيان المرفق بشأن الأسلحة الخفيفة والأسلحة الصغيرة وأنشطة المرتزقة والأخطار التي تهدد السلام والأمن في غرب أفريقيا.

وقد دفع التحرُّك الدولي ضد عمل المرتزقة بأشكاله التقليدية كافة والموجه إلى محاربة قيام الدول والحكومات بتجنيد المرتزقة واستخدامهم بصورة مباشرة إلى ظهور فكرة (عسكرة الشركات وخصخصة الحروب)؛ انطلاقاً من أن التوجه الاقتصادي العام يقوم على تحويل معظم المهام -إن لم تكن جميعها- التي كانت تقوم بها الدولة سواءٌ أكانت سياسية أم عسكرية أم اقتصادية، وكذلك الثقافية، والتعليمية، والاجتماعية إلى القطاع الخاص بما يُعرف بنظام (الخصخصة)، بحيث يتم التعامل مع تلك المهام على أنها سلع تخضع لقوانين وآليات السوق؛ ومن هذا المنطلق ظهر توجه يدعو إلى إسناد كثيرٍ من المهام التي تقوم بها القوات النظامية التي تخوض حرباً إلى شركات خاصة بصفة مقاولات، ويؤدي ذلك إلى تخفيف عبء كثيرٍ من المهام عن كاهل الجيش، وهذه الفكرة فتحت الباب لشركات متعددة تقوم بمهام التموين والأعمال اللوجستية والأمنية، وباتت تلقى قبولاً في صناعة الجيوش الحديثة.

مع تزايد دور الشركات الأمنية الخاصة شُكِّلت في المقرّ الأوروبي للأمم المتحدة مجموعة عمل تضم (12) خبيراً دولياً من أجل وضع مدونة حسن سلوك لقطاع الأمن الخاص، وقد اُعْتُرف فيها بأنه  لا يمكن معاملة كل أجهزة الأمن المتخصصة بالحماية كمرتزقة؛ لذلك يجب التعامل مع وضع موظفي الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في حالة النزاع المسلح على أساس كل حالة على حدة، ولاسيما مع طبيعة المهام التي يشاركون فيها؛ لذلك يتم التعامل مع موظفي الشركات العسكرية والأمنية الخاصة على أنهم  أشخاص مدنيون ما لم ينضموا إلى القوات المسلحة لإحدى الدول، أو توكل إليهم مهام قتالية لصالح جماعة مسلحة منظمة تنتمي لطرف من أطراف النـزاع. أما إذا قام موظفو الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بأعمال ترقى إلى مستوى المشاركة المباشرة في العمليات العدائية فإنهم يفقدون الحماية من الهجمات في أثناء هذه المشاركة، وتجوز محاكمتهم إذا وقعوا في الأسر لمجرد المشاركة في عمليات عدائية، حتى وأن لم يرتكبوا أي انتهاكات للقانون الدولي الإنساني. وتعد حماية القواعد العسكرية من الهجمات التي يقوم بها الطرف المعادي. وإن جمع المعلومات التكتيكية العسكرية، وتشغيل نظم الأسلحة في عملية قتالية أمثلة على المشاركة المباشرة في عمليات عدائية قد تشمل أفراداً من الشركات العسكرية والأمنية الخاصة.

ينتشر في العالم عددٌ كبير من الشركات الأمنية العسكرية العملاقة التي تتخذ من القارات الخمس بؤرة لنشاطها التدخُّلي المحموم؛ فعلى سبيل المثال تنشط الشركة البريطانية (G4) في (110) دول، وتُوَظِّف أكثر من (570) ألف موظف، في حين تمارس الشركة السويسرية الأمنية( سكيورتكس) نشاطها في (45) دولة، وتُوَظِّف ما مجموعه (250) ألف موظف، وكذلك الشركة الفرنسية ( سكوربكس) التي تمتلك فروعاً في آسيا وأفريقيا، فيما تعد شركة (داينكورب) أكبر الشركات الأمنية الخاصة في العالم إذ توظف (17) ألف شخص ولها أعمال تتجاوز (200) مليار دولار، وشركة (ميليتاري بروفشيونال رسورسيز)، وكذلك شركة (غلوبال ريسك إنترناشيونال البريطانية) التي تستخدم الكوركا من التبت وفيجي، وشركة (غستر باتلز)، وشركة (إريني)، وشركة (أو بي أس) الفرنسية، وشركة (ساندلاين)، وشركة (بنيتل إنترناشيونال سكيوريتي) التي لها أربعة فروع في إسرائيل، وفرنسا، والولايات المتحدة، وإيطاليا، وشركة (لفدان).

وتتخصص كلٌّ من تلك الشركات في مجال معيّن، مثل: تقييم المخاطر وهو المجال الذي تتخصص فيه شركة مثل (كونترول ريسك) لتوفير المعلومات الاستخباراتية والتحليلات، وهناك مجال تقديم الاستشارات الأمنية الذي تتخصص فيه شركات مثل: (دينكورب، وآرمور غروب)، ومجال تقديم دعم القدرات مثل الشركة البريطانية (إ س ج سكيوريتي)، وشركة (إ س فينال)، وشركة استراتيجيات المخاطر العالمية (غلوبال ريسك). وهناك من الشركات من تخصصت في مجال حمايات للأشخاص مثل: شركة (أوغارا بروتكتيف سيرفس)، وشركة (دين كورب الأمريكية)، وشركة (سيكيور بلوس) التي كانت تقوم بتأمين رموز تيار المستقبل السني في لبنان. أما في ما يخص تأمين المنشآت، فإن بعض الشركات الأمنية تؤدي أنشطة تأمين المنشآت العامة، ونقل الأموال مثل: شركة (آرمور كورب البريطانية).

مع تزايد الصراعات والمخاطر في منطقة الشرق الأوسط كثّفت الشركات الأجنبية وجودها في المنطقة، ومن بينها شركة (G4S) التي يعمل فيها (635) ألف موظف في (125) فرعاً، وتمتلك فروعاً في اليمن، والأردن، والسعودية، والبحرين، ولبنان، والعراق، وإسرائيل. وكذلك شركة (كوين سيرفس) لخدمات الأمن التي تتخصص في عدة أمور منها: أنظمة الأمن والحراسة، والأعمال البحرية. وشركة (سبيد سيرفس) التي يتركز نشاطها فى نقل الأموال.

ونتيجة للعديد من المخالفات التي تورط فيها الحراس الأمنيون التابعون لكبريات الشركات الخاصة في عدة مناطق مثل (جريمة ساحة النسور في العراق)؛ فقد عمدت تلك الشركات إلى تغيير أسمائها، أو الاستعانة بشركات محلية للعمل من خلالها؛ حيث إن شركة (بلاك ووتر) العالمية قامت بتغيير اسمها إلى (Xe) بعد أن قام مديرها التنفيذي السابق ومالك معظم أسهمها إيريك برنس ببيعها إلى مستثمرين آخرين لينتقل إلى دولة الإمارات العربية كما ذكرت التقارير الصحفية. وقد لجأت بعض الشركات أيضاً إلى أسلوب لطيف من خلال ترجمة أسمائها الإنجليزية إلى أسماء عربية؛ لتجنُّب أي ملاحقات عن أي مخالفات قد تحصل في أثناء أداء عملها في منطقة معينة.

لقد أدّت النزاعات المتكررة في عدة مناطق بالشرق الأوسط للجوء دول المنطقة إلى الاستعانة بخدمات الشركات الأمنية الخاصة؛ لتقديم خبراتها، ومقاتليها للدفاع عن مصالح تلك الدول، ولاسيما مع شعور دول المنطقة الغنية بأنّ قواتها المسلحة غير كافية أو غير قادرة على القيام بالمهام المطلوبة منها مع غياب الخبرة للتعامل مع مستجدات الوضع الدولي والإقليمي؛ حيث أشارت تقارير نشرتها صحيفة نيويورك تايمز وذكرتها قناة (بي بي سي) إلى قيام دولة خليجية بتوقيع عقد بمبلغ (529) مليون دولار لإنشاء شركة خاصة مهمتها تنفيذ العمليات الخاصة بمكافحة الإرهاب داخل الدولة، وحماية خطوط البترول، وناطحات السحاب، والمنشآت الحيوية، فضلاً عن المشاركة في الدفاع عن هذه الدولة في حال تعرضها لهجوم خارجي. وقد أعلن المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر لنيويورك تايمز أن وزارته تعكف على التحقيق فيما إذا كان المشروع ينطوي على انتهاك للقوانين الأمريكية التي تنصُّ على ضرورة حصول الأمريكيين على موافقة من الحكومة الأمريكية قبل ضلوعهم في تقديم التدريب العسكري لأي قوات أجنبية.

ومن ناحية أخرى فإن الدول الغنية في المنطقة وجدت في أسلوب تأسيس الشركات الأمنية وسيلة جديدة للتحكم بمسار الأمور في الدول الأخرى في المنطقة من خلال توقيع عقود مع تلك الدول؛ لتقديم الحمايات سواء لطرق المواصلات أو المنشأت الحيوية، مثل: المطارات، والموانئ، وأنابيب نقل الطاقة حيث إن قيام أي دولة بتسليم طرقها الحيوية إلى إحدى تلك الشركات يجعل للدولة المالكة للشركة القدرة على التحكم بتلك الطرق والمنشآت الحيوية، وهذا ما دفع إحدى الدول الخليجية إلى تأسيس أكثر من شركة بأسماء وإدارات عالمية؛ للتمكن من التحكم بمسار الأمور في عدة دول تفوقها حجماً ومساحةً وعدد سكان.

وعلى الرغم من محاولات بعض الشركات في المنطقة تغطية أسمائها الحقيقية أو العمل تحت ستار أسماء محلية فإن الصراعات بين حكومات المنطقة أدّت إلى الكشف عن العديد من الجوانب المتعلقة بعمل تلك الشركات وحجم تدخلاتها في التأثير على سيادة الدول تلك، ولعلَّ آخر الحوادث التي هزت وضع الشركات في المنطقة هو قيام مجموعة حقوقية تتخذ من لندن مقراً لها برفع دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية -ليس على الدول التي تستعين بتلك الشركات كون تلك الدول غير موقعة على اتفاقية المحكمة وغير خاضعة لولايتها القضائية، وليس على الشركات لأنها شركات محلية وليست من أشخاص القانون الدولي- على الأشخاص العاملين في تلك الشركات ولاسيما من دول أمريكا اللاتينية الموقعة على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية؛ وبهذا تم الدخول من خلال ثغرة لم يتم أخذها بالحسبان من قبل الشركات أو الدول، فتلك التحقيقات قد تقود إلى إدانة شخصيات كبيرة كانت تتوقع أنها محمية ومحصنة بمناصبها السيادية الوطنية.

من خلال ما ذُكِر آنفاً يمكن أن نقول إن المهمة المعلنة للشركات الأمنية الخاصة يمكن أن يتم تغليفها بمصطلحات قانونية براقة وجميلة من منطلق شعار (تقديم الأمن ومحاربة الإرهاب) من خلال عناصر كفوءة ومدربة، ولكن تجاوز تلك الأهداف المعلنة واللجوء إلى القوة المفرطة يضع محددات كبيرة على عمل تلك الشركات، ويلقي بظلاله على أسلوب عملها ولاسيما أن تلك الشركات تحيط عقودها الموقعة بأعلى درجات من السرية والغموض، وإن اللجوء إلى الاستعانة بأشخاص أجانب لتأمين الحمايات -وإن كان على سبيل الإشراف غير المباشر- يمثل خرقاً كبيراً لسيادة الدولة، ويجعل مقدّراتها بيد أشخاص لا تربطهم بالدولة سوى آليات السوق من عرض وطلب.