سيّد علي نجات، ماجستير في الدراسات الإقليمية والشرق الأوسط.

ثمّة عدة أسباب على الصعيد الداخلي والإقليمي والدولي تؤدي دوراً مهمّاً في نموّ الخطاب السلفي الجهادي الحديث وانتشاره، وإنّ إحدى هذه العوامل التي لم يُلتَفَت إليها كثيراً تتمثّل بالسجون التي تضمّ الإرهابيين من مختلف بقاع العالم كغرب آسيا، وشمال أفريقيا، وأمريكا، وحتّى من بعض الدول الأوروبيّة.

ومنذ مطلع القرن الواحد والعشرين أصبحت بعض السجون في بعض الدول العربية -كالعراق وسوريا والسعودية واليمن وليبيا- وفي بعض الدول الأوروبية -مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا- وكذلك في الولايات المتحدة، مراكز لتنشئة السلفيين؛ إذ يمثّل السجن بيئة مناسبة ومركزاً جيّداً لترويج العقائد المتطرّفة، فطوال مدة الحبس ينتمي الأفراد إلى مجاميع وتكتّلات حفاظاً على أمنهم الشخصي، وهذا من أهمّ الأمور لكلّ من يُسجَن في هذه الأماكن. وينجذب السجناء في السجون المزدحمة والمخيفة للشخصيات المتنفذة والقويّة الذين يكونون في أغلب الأحيان من الإرهابيين المحترفين والبارزين، وهم من يروّجون للفكر المتطرّف في هذه السجون.

وتتمحور مجاميع السجناء على وفق توجّهات قوميّة ودينية، فضلاً عن أنّ الشعور بالضياع الروحي والعُزلة التي يعاني منها كلّ السجناء تقريباً هو عاملٌ لإيجاد الوحدة بينهم؛ لذلك تجد الأفكارُ المتطرّفة بيئةً مناسبةً وخصبة للنمو بين هذه المجاميع، وبعد إطلاق سراح مثل هؤلاء الأفراد يكونون على أتمّ الاستعداد لتنفيذ العمليات الإرهابية والإجرامية بطريقة الذئب المنفرد[1].

إنّ منهجية سوق الأفراد إلى ممارسة العنف والسلوكيات المتطرفة تبدأ من السجون، ومن ثمّ يصبحون بكلّ سهولة طُعماً للنشطاء الذين يعملون على استقطاب الأعضاء الجدد بين جدران السجون لدعم الشبكات الإرهابية؛ فمن خصائص السجون المنتجة للإرهابيين -التي تجعل السجين ينجذب للأيديولوجيات المتطرفة والإرهابية- الوضع المزري والمأساوي داخل هذه السجون كالإجراءات الأمنية المشددة، وضعف البرامج التعليمية والإصلاحية، وأعداد السجناء الهائلة مقارنة مع المكان المتوفر، والمبالغة في استعمال العنف والتعذيب الجسدي والنفسي المشدد، والحرمان من النَّوم، والحبس في زنزانات ضيّقة وانفرادية، والبيئة غير الصحيّة، والنقص في الماء والمواد الغذائية، وغيرها من الأمور.

والسبب الآخر الذي يجعل السجين ينجذب للتطرّف هو دمج السجناء مع بعضهم من دون الاكتراث بسوابقهم وطبيعة الجريمة التي سجنوا بسببها، إذ بظنّ مديرو السجون أنّ اعتقال مرتكبي الجرائم غير الأمنيّة وزجّهم مع الإرهابيين المعروفين ومرتكبي الجرائم الأمنية كفيلٌ بمعاقبة هؤلاء، ولكنّ هذا يؤدّي إلى سوق هؤلاء إلى الأفكار المتطرّفة والإرهابية، فضلاً عن أنّ السجناء المؤمنين بالأفكار الجهاديّة يجيدون كيفية جذب الأفراد إلى تنظيماتهم، وأنّ السجناء الجُـدُد غير المتطرفين بعد مشاركتهم في المحاضرات الدينية والشرعية وإعلانهم التوبة ينجذبون للعقائد السلفية والجهادية، ومن انتهاء مدّة محكوميتهم وإطلاق سراحهم يطبّقون الأفكار التكفيرية في العالم الواقعي؛ وبالتالي يتحوّل الفرد المسجون بسبب جريمة غير إرهابية إلى إرهابيّ خطير جاهز لتنفيذ أيّة عمليّة إرهابيّة.

وفضلاً عن ذلك فإنّ التعذيب الشديد في السجون -باستثناء السجون الأوروبيّة- يُعدُّ سبباً مهمّاً في راديكالية الفرد، فالسجناء الذين يتعرضون لمختلف أنواع التعذيب يعملون -بعد إطلاق سراحهم- على الانتقام، إذ يكونون ناقمين على حكوماتهم ومجتمعهم؛ وبالتالي تكون سجون الإرهابيين سبباً في تحويل الأفكار المتطرّفة إلى تطبيق.

لقد عملت الأنظمة العربية الدكتاتورية طوال العقود الخمسة الأخيرة على استخدام شتّى أساليب التعذيب ضد السجناء السياسيين والإسلاميين من دون الاعتناء باحتياجاتهم الأساسيّة كالماء والمواد الغذائية والدواء، وكذلك عملت هذه الأنظمة على تحقير ذوي الأفكار الإسلامية؛ وهذا ما أدّى إلى انتشار الخطاب السلفي الجهادي وتنشئة الارهابيين.

ثمّة العديد من السجون في العراق كسجن أبو غريب وبوكا والتاجي، وسجن صيدنايا في سوريا، وسجن طرّة في مصر، وسجن أبوسليم في ليبيا، وسجن رومية في لبنان، وسجن الحائر في السعودية، وسجن المرناقية في تونس، والسجون الأردنية واليمنية، كلّها تسببت بانتشار التطرّف وتوسّعه في المنطقة والعالم، وإنّ أغلب الإرهابيين وزعماء الحركات الإرهابية كانوا محبوسين في أحد هذه السجون، فشُكري المصطفى وأيمن الظواهري كانوا في السجون المصريّة، وأبو مصعب الزرقاوي وأبو محمد المقدسي كانوا في سجون الأردن، فضلاً عن عدد كبير من المتنمين لتنظيم القاعدة من أمثال ناصر الوحيشي كانوا من المسجونين في السجن المركزي بصعناء.

إنّ أغلب زعماء تنظيم داعش والمسؤولين الكبار في هذا التنظيم الإرهابي كانوا في السجون الأمريكية في العراق كسجن بوكا وسجن أبو غريب، ومن أبرز هؤلاء يمكن الإشارة إلى أبو بكر البغدادي الذي يعدّ نفسه الخليفة في الدولة الإسلامية، وكذلك “سمير عبد محمد العبيدي” المعروف بـ”حجي بكر”، و”فاضل عبد الله الحيّالي” المعروف بـ”أبي مسلم التركماني”، و”أبو أيمن العراقي” و”أبو محمّد العدناني”.

وكان المتهمون بقضايا أمنية وإرهابية في سجن بوكا يُزَجّون مع السجناء الذين ينتمون لجهاز الأمن الصدّامي؛ لذلك يمكن أنْ نقول إن مجالسة السلفيين المتطرفين مع البعثيين الصداميين ترك أثراً كبيراً على شخصيّة مثل أبي بكر البغدادي وعلى التنظيم الذي يقوده. وفضلاً عن زعماء داعش في العراق فإنّ الداعشيين في سوريا من أمثال “أبي علي الشرعي” كانوا من المسجونين في سجن صيدنايا بسوريا.

لقد ترك سجن “صيدنايا” في سوريا أثراً كبيراً في انتشار الخطاب السلفي، ففي تموز 2011 أُطلق سراح ما يقارب 1500 شخص من أبرز الشخصيات السلفيّة الجهادية، ومن الذين أدوا دوراً في تدهور الوضع الأمني السوري منذ عام 2004، وذلك لشمولهم بالعفو العام الذي أطلقه الرئيس السوري. ومن ضمن هؤلاء يمكن الإشارة إلى “زهران علوش”، و”حسّان عبّود” المعروف بـ”أبي عبد الله الحموي”، و”أحمد عيسى زكريا الشيخ” المعروف بـ”أبي عيسى الشيخ”، و”أبي خالد السوري” المعروف بـ”عمير الشامي” وغيرهم من الإرهابيين. وانضمّ هؤلاء بعد إطلاق سراحهم إلى التنظيمات الإرهابية، وبادروا إلى تأسيس المجموعات الجهادية المتطرّفة والخطرة من أمثال (جيش الإسلام)، و(صقور الشام)، و(أحرار الشام)، و(لواء التوحيد)، وغيرها من التنظيمات الإرهابية التي لا تزال منهمكة بمحاربة النظام السوري.

أمّا مجموعة سجون طرّة في مصر فقد حدثت فيها الكثير من الانتهاكات، فعلى سبيل المثال أوضح تقرير صادر من الأمم المتحدة في سنة 1997 بأنّ المسؤولين في هذا السجن لا يوفّرون خدمات صحيّة للسجناء. وتتكوّن سجون طرّة من خمسة سجون، منها سجنٌ مخيف يُعرَف بـسجن (عقرب) الكائن على بُعد 14 كليومتراً جنوبي القاهرة، وكان يُزجّ فيه السجناء السياسيون المناوئون لحكومة حسني مبارك ويُعذّبون.

أما السجون السعودية فهي أيضاً أدت دوراً كبيراً في نشر التطرّف وتنشئة الإرهابيين؛ فسجن الحائر هو أكثر سجون آل سعود رُعباً في الرياض، وثمّة سجون سعودية مماثلة كسجن ذهبان في جدّة، وسجن القصيم في منطقة القصيم. وتضمّ هذه السجون إلى جانب المحكومين السعوديين العديد من السجناء المصريين والتونسيين والعراقيين والسوريين واليمنيين، ويتلقّى هؤلاء السجناء -إلى جانب تعرّضهم للتعذيب- تعليماً للأفكار والعقائد الوهابية. ويحفّز المسؤولون السعوديون السجناء ذوي الميول السلفيّة، ويخصصون لهم بعض المحفزات بإزاء ذهابهم إلى سوريا والعراق تحت عنوان الهجرة والجهاد ومحاربة الكفر، ويشجعونهم على ذلك ويدفعون لهم مبالغ مالية أو يشملونهم بأحكام العفو.

أمّا سجن “أبو سليم” في ليبيا فقد كان من أخطر السجون التي يرعاها نظام القذّافي، وقد حدثت فيه جرائم وانتهاكات متعددة، أهمّها مجزرة سنة 1996، ففي هذه السنة داهمت قوّات مكافحة الشغب السجن بحجّة القضاء على السجناء المتمردين وأطلقت النّار على السجناء وقتلت أكثر من 1200 منهم؛ وأدّت هذه الحادثة إلى انتشار المزيد من الأفكار المتطرفة وترسيخها بين السجناء.

والسجن الأشهر والأهم الذي يضمّ العديد من الإرهابيين هو سجن غوانتانامو الذي تأسس بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانسان في سنة 2001 في خليج غوانتانامو في الجنوب الشرقي من كوبا، إذ نقلت الحكومة الأمريكية كلّ المتورطين والمتهمين بالمشاركة في نشاطات إرهابية خارج أمريكا إلى هذا المعتقل، وإنّ الوضع المزري والمأساوي في هذا السجن أثار استهجان الكثير من الأفراد والسياسيين الأمريكيين في داخل أمريكا وخارجها، حتّى باتت الدعوة إلى إغلاقه من أهمّ الشعارات الانتخابية التي اعتمدها باراك أوباما في حملته الانتخابية؛ إذ قال أوباما في وصفه لوضعية هذا السجن: “إنّ الوضع في داخل معتقل غوانتانامو يولّد إرهابيين أكثر من الإرهابيين المعتقلين فيه”. لقد التحق الكثير من الذين أُطلق سراحهم من غوانتانامو بالتنظيمات الإرهابية، ومن ضمن هؤلاء يمكن الإشارة إلى (رونالد فيدلر) المعروف بـ(أبي زكريا البريطاني) الذي انضمّ إلى تنظيم داعش بعد إطلاق سراحه من غوانتانامو، وقد نفّذ عملية انتحارية بسيّارة مفخخة في مقرّ عسكري للجيش العراقي في جنوب غرب الموصل.

مما تقدم ذكره يمكننا القول إنه إذا عرفنا أنّ السجون الراعية للإرهاب هي العامل الرئيس في تنمية التطرّف والعنف فستكون مقابلة هذا الأمر طريقة مهمّة لمكافحة الارهاب وللحدّ من انتشاره؛ لذلك يجب أن تغيّر هذه السجون في طريقة إدارتها وتعاملها مع السجناء، وأن يتمّ ذلك من خلال فصل السجناء المؤمنين بالأفكار والعقائد السلفيّة عن سواهم، وأنْ تقام برامج تعليمية وعلمية وإصلاحية مكثّفة، وأنْ تتوقف عمليات التعذيب الجسدي والنفسي للسجناء، وتتوافر لهم الاحتياجات الضرورية.


 

المصدر: موقع مركز السياسات العامة، التابع لمركز الدراسات الاستراتيجية في مكتب رئاسة الجمهورية الإيرانية

http://npps.ir/ArticlePreview.aspx?id=131939

[1] ذئب منفرد Lone wolf هو الشخص الذي يرتكب أعمال عنف في دعم مجموعة، أو حركة، أو أيديولوجيا، ولكن يفعل ذلك وحده، خارج عن هيكل القيادة ودون مساعدة مادية من أي مجموعة.