علي رضا نوري، دكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة سان بطرسبرك

يعدُّ الاتفاق الأخير بين موسکو وواشنطن فيما يخص جنوب غرب سوریا نوعاً من التخطيط لمرحلة ما بعد داعش، وهذا الاتفاق مؤشر على ديناميكية وسائل السياسة الخارجية الروسية، وعلى نجاح هذا العمل والتعامل الانتقائي في هذه السياسة. وعلى الرغم من أن الفكر الداعشي سيبقى على هذا المنوال في الشرق الأوسط، ولكن بتلاشي هيكل هذه الجماعة الإرهابية وزوال مؤسساتها في العراق وسوريا، فهناك أطراف مختلفة متورطة في الصراع ومستفيدة منه في الوقت نفسه تهيئ نفسها لأجواء ما بعد داعش وللمساومة؛ للحصول على حصة الأسد في هذا الميدان، وقد سعى بعضهم -كروسیا- لتحقيق هذا الغرض منذ بضعة أشهر.

وبالتزام موسکو بمبدأ أصل تعدد الجهات فهي لم تنفِ التفاعل مع أي الأطراف في سوريا على مختلفِ المستويات سواء على الصعيد دون الوطني، والوطني، أم على الصعيد الإقليمي، والدولي، وعاد التفاعل مع الجميع بنسب مختلفة، فمحادثات أستانة، وجنيف وعلائم الأمن هي معطيات هذا الأصل. ومن جانب آخر فإن موسکو -بناءً على أساس مبدأ التعامل الانتقائي-، ما فقدت ولن تفقد تعاملها مع أمریکا في مجال معين على الرغم من وجود التوتر في مجالات أخرى. ومثال ذلك أنها أبدت توتراً في موضوع العقوبات الاقتصادية أو بشأن ملف أوكرانيا، لكن هذا التوتر لم يؤدِ إلى غلق باب التعامل في سائر المجالات الأخرى بما فيها سوريا.

لم تمنح روسیا -نظراً لمكانتها الراجحة في سوریا- امتيازات كثيرة لأمريكا في الحقل الميداني إلى يومنا هذا؛ وبهذا السياق، فإن اتفاق روسیا وأمریکا هو نتاج سیاسة تعدد الطبقات التي انتهجتها موسکو ونتیجه عدة شهور من المحادثات. أما الکرملین -وتزامناً مع تعامله مع إیران وترکیا في محادثات أستانة وكذلك في إطار أوسع في جنيف- فكانت له محادثات مع أمریکا، وممثلي الدول العربية ومنهم الأردن، وإسرائیل؛ ومن هنا فقد حظي هذا الاتفاق بمشارکة ودعم الدول الأخيرة، وفي الوقت نفسه يحقق لموسكو عدة أهداف، منها:

  1. عرض قدرة الکرملین في المجالات العسكرية والسیاسية في زمن واحد، وإدارة أزمة متعددة الطبقات والمستويات.
  2. ممارسة الضغط على حلفائها والتحكم بهم الذين من جملتهم طهران ودمشق وكذلك على ترکیا؛ ولأجل استجابة هذه الدول لمطالب موسکو بصورة أوسع بإبراز أن روسیا لديها اختيارات أخرى في إحراز التقدم في أهدافها.
  3. استعراض الاستعداد والرغبة في التعاون مع الدول العربية في المنطقة بما فيها العربية السعودية والأردن وغيرهما؛ وبهذا الاستدلال يتضح أنه يمكن لروسيا أن تكون نقطة توازن في حال عدم تعادل المنطقة، وكذلك تحول دون قيام هؤلاء بأعمال مخربة في سوريا وضد مصالح موسکو في المنطقة.
  4. الإشعار بالاهتمام نسبياً بمطالب إسرائيل خصوصاً بعدم فتح جبهة جدیدة في الجولان من قبل إیران وحزب الله؛ وبهذه الوسيلة يتم تخفيف ضغط اللوبي اليهودي العالمي.
  5. إثبات خطأ فرضية أن موسکو في الشرق الأوسط وفي سوریا تدعم الجانب الشیعي ضد التيار السني، والتأکید على دورها التوازني.

إن إیجاد المناطق الآمنة في جنوب سوریا بضمانة أمریکا هي أولى القضايا التي لا ترتضيها ولا ترغب بها إيران. وإن جميع هذه الأهداف عادةً غير قابلة للتحقق، وهناك موانع متعددة من الناحية العملية أمام تحقق الاتفاق والنتائج الحاصلة منه، لكن المشكلة تكمن في أن الأوضاع المضطربة في الشرق الأوسط وسوریا إذا بقيت من دون استراتيجية ومن دون خطط مسبقة فإنها ستفرز خسائر مضاعفة، واستطاعت موسکو بتنظيمها بعض الخطط أن تؤدي لعبتها السياسية بصورة أكثر ذكاءً؛ فالکرملین قد أعطى أمريكا امتيازات على الورق؛ لذا صار هذا الاتفاق ممكناً، ولكن نظراً لموقعه الأفضل في سوریا لم يعط أمريكا لحد الآن امتيازات كثيرة في الحقل الميداني. وقد بينت موسکو في هذا الاتفاق لواشنطن أنها مستعدة للتسوية والتعامل المتكافئ، فإذا كانت لدى أمریکا رغبة حقيقية بهذا الأمر واستعداد في إعطاء امتیازات في سائر المجالات ومنها موضوع العقوبات، وأوکرانيا وغيرهما، فعليها أن تعمل جادّةً، وحينها ستقوم روسیا بخطوات أكثر في هذا الإطار.

ومن هذا المنطلق ففي حال نجاح الاتفاق على أرض الواقع، ستكون هناك توافقات أكثر في سوريا متوزعة على مختلف الأصعدة، وعلى الرغم من أن روسيا تدرك سير تراجع الهيمنة الأمريكية إلا أنها تعرف جيداً أن بعض قدرتها الإيجابية أو السلبية والمؤذية سيتم الاحتفاظ بها للمستقبل القريب؛ لذا فإن التعامل مع أمریکا طريق أقل كلفة للحصول على المنافع ودفع التهدیدات ومن جملتها في سوريا، فهذا النهج الناتج عن أصل في السياسة الخارجية لروسيا الذي على أساسه تحل وتدار المناقشات الإقليمية والدولية في مفهوم إدارة الحكومة العالمية المشتركة تعده التعامل الوحيد الممكن بين القوى العظمى التي من ضمنها روسیا وأمریکا، في حين أن موسکو -خلافاً للماضي- غير مستعدة لإعطاء امتيازات لواشنطن في ظل ظروف الضعف التي هي فيها، بل إنها تسعى إلى أن تكتسب منها امتيازات أكثر.

وفي الوقت نفسه فإن الاتفاق الروسي الأمريكي يحمل إفرازات لإیران فيما يتعلق بمصالح طهران المهمة في سوريا التي من قبيل سلامة أراضي هذه الدولة، ووحدتها، وحفظ سيادتها على جميع بقاعها بما فيها الجنوب، وضمان حفظ حضورها في سوريا والارتباط مع حزب الله وعدم تدخل أمریکا وإسرائیل في أمور سوريا ولاسيما فيما يتعلق بمستقبل بشار الأسد، فلو لم تراعَ جميع هذه الموارد في اتفاق روسیا وأمریکا وهو كذلك، فإن اختلاف أهداف إيران مع أمريكا مؤكد، وأنّ لموسکو أهدافها الخاصة أيضاً، وظهر تباین هذه الأهداف مع أهداف إيران في مختلف المفاصل.

ويُعَدُّ إیجاد مناطق آمنة في جنوب سوريا بضمانة أمریکا من أوائل الأمور التي لا ترغب بها إيران، وكذلك فإن فقرة المساعدات الإنسانية الواردة في الاتفاق تجعل يد أمریکا مفتوحة في التدخل. ومن ناحية أخرى فإن أحد المطالب الإسرائيلية هو إيجاد مناطق خالية من تواجد إيران وحزب الله في جنوب سوريا ولاسيما في حدود الجولان، ويبدو أن ذلك من الممكن تحقّقه في هذا الاتفاق بضمانة روسيا وأمريكا، فعلى الرغم من أن هذا الأمر لا يعني بالضرورة الاتفاق على إخراج إيران وحزب الله من جنوب سوريا، ولكنه يخلق بطبيعة الحال ضغوطات معينة.

إن إيران ضعيفة في تحقيق المكاسب السياسية، وذلك على الخلاف من قدرتها في الحقول العسكرية. أما ما يخص مستقبل بشار الأسد فيعدُّ موضوعاً حساساً بالنسبة لطهران، وإن كان يبدو أن الاتفاق الروسي الأمريكي ساكت عنه، لكن فيما يتعلق بالاتفاقات الكبرى بشأن سوريا في مفهوم الحكومة الانتقالية أو الوطنية فمن المؤكد أنه قد أشير إلى هذه القضية أو يشار إليها. ويبدو أن أمریکا خلال هذا الاتفاق قد قبلت سلامة الأراضي وحضور بشار الأسد في هذه المدة، لكن لا يستبعد حذفه بهدوء وتدريجياً في عملية سیاسية، وكذلك روسیا قد أكدت مرراً أن وجودها في سوريا ليس حفاظاً على بشار الأسد، بل لحفظ حكومة دمشق القانونية، وأظهرت أن طهران هي أيضاً غير متحسسة من هذا الأمر.

وعلى الرغم من أن أمام هذا الاتفاق طريقاً طويلاً حتى يتحقق عملياً وموانع كثيرة، وأن الاتفاقيات الماضية لم تحقق شيئاً ملموساً للسلم في سوريا، وأن القوة هي التي كانت المسيطرة على الساحة، ولكن نظراً لقرب نهاية داعش في سوريا والعراق يبدو أنه لا بد من اتفاق جديد لمدة ما بعد داعش، وأن يُدرس بنحوٍ أكثر جديّة. فلا شك أن روسیا التي كان لديها برنامج نسبي للحرب كذلك لديها برنامج سياسي نسبي لأجواء ما بعد الحرب، ومن ضمن هذه البرامج احتمال السعي لدمج الاتفاق الحاصل مع أمريكا واتفاق أستانة-جنيف برعاية إیران، وروسیا، وترکیا، وبعبارة أخرى اتصال المناطق الآمنة في الجنوب بالمناطق الآمنة في الشمال.

وعلى الرغم من أن تحقق هذا الأمر صعب جداً، لكن في حال دعم أمریکا عملياً، وفي حال عدم مخالفة تركيا وإسرائيل والدول العربية أيضاً، سيكون تطبيق ذلك ليس بعيداً عن متناول اليد، وفي ظل هذه الظروف سيضيق نطاق المخالف المحتمل للمقاومة، أي طهران ودمشق، ولاسيما أن إيران ضعيفة في تحقيق المكاسب السياسية بخلاف اقتدارها في الساحة العسكرية، ومن جانب آخر فإن موسکو تعلم جيداً أن تحقق اتفاق نهائي حول دولة عربية بين دول غير غربية، وهي روسیا، وإیران وترکیا، غير مقبول من جهة معارضي سوريا. لكن إدغام هذا الاتفاق مع اتفاق الجنوب الذي يتضمن حضور الأردن الدولة العربية وأمریکا والدعم النسبي من سائر الدول العربية سيكون أكثر مقبولية.

وإذا تم افتراض أن هذا الاتفاق الشامل قد تحقق، وكذلك في حال أنه قد جرى التأكيد ضمنياً وصراحة على سلامة ووحدة الأرض السورية، وفي ذلك يتم تحليل مسألة الكرد المهمة إجمالاً، ففي هذه الصورة يضعف احتمال مخالفة تركيا والعراق وحتی حكومة دمشق لذلك. وحتى إسرائيل -وعلى الرغم من إعلان مخالفة نتنیاهو- فإنها ستصل بصورة نسبية إلى رغباتها المبتنية على الحد من نشاط إیران وحزب الله، ولاسيما أن روسيا وأمريكا هما اللتان تضمنان لها ذلك الأمر.

فإذا تحققت هذه الخطة، فإن على روسیا أن تعلن نفسها المنتصر في المجالين العسكري والسياسي، وسيكون ذلك إنجازاً كبيراً لها، إذ إن موسکو -وإن كانت قد أظهرت أنها تأخذ مصالح إيران بعين الحسبان وإنها من الناحية العملية أيضاً لا تستطيع أن تتجاهل هذه المصالح بسبب احتياجها لطهران- سترجح مصالحها الخاصة على مصالح طهران بطبيعة الحال في الخطط الكبرى الإقليمية، ومن المؤكد أن هذه المسألة لا تعني بالضرورة نقض مصالح إيران، بل إنها مؤشر إلى ضرورة الحزم والاحتیاط أكثر بشأن سیاسة روسيا المتعددة الطبقات في مرحلة ما بعد داعش التي تُعدُّ من السياسة المندرجة تحت سياستها الشاملة للمنطقة‌ والدولية.

والنقطة التي تحظى بأهمية هنا هي أن توافق جنوب سوريا يمكن أن يكون حافزاً لعقد اتفاقيات أكثر بين روسیا وأمریکا، وكذلك أن روسیا وأمریکا -كما هو ظاهر- مختلفتان في عدة مجالات ابتداءً من كوريا الشمالية وحتى الناتو، والدرع المضاد للصواريخ، وأمن أوروبا، والمعاهدات الكبرى للحد من التسلح، وأمن سيبريا، وأوكرانيا، والعقوبات، والعلاقات الجانبية وغيرها.

وفي أوساط هذه الاختلافات المتعددة تبقى سوریا أرضية وموضوعاً يمكن التوصل فيه إلى توافق أولي وبسط ذلك إلى سائر الأراضي، وفي المقابل أن موسکو وواشنطن يدركان أنهما إذا لم ينطلقا بالمصالحة من نقطة -وإذا كان الاتفاق الأخير شأنه شأن الاتفاقات السابقة التي لم تكتمل- فيحتمل أن تُصعّد العلاقات فيما بينهما في المجالات الأخرى.

وبالطبع فإن مكانة ترامب المتزلزلة داخل أمریکا والضغوط الكبيرة التي تمارس ضده من قبل مخالفیه الذين يتهمونه بعلاقات غیر قانونية مع موسکو في مرحلة ما قبل الانتخابات من شأنهما أن يشكلا مانعاً أمام اتفاق موسع مع روسيا؛ لكن حقيقة الأمر أن الضغط على ترامب بحجة روسيا لم يكن سوى ذريعة لإدارته غير المتعادلة، ويوجد من الناحية العملية منطق مشترك بين موسکو وواشنطن؛ من أجل السيطرة على الأمور الإقليمية والدولية وإدارة العلاقات الثنائية، وهو لا ينفي التسوية التي من جملتها في سوریا والشرق الأوسط.


 

المصدر:

http://npps.ir/ArticlePreview.aspx?id=121909