هوارد إيسنستات، أستاذ مشارك في تأريخ الشرق الأوسط في جامعة سانت لورانس.

لمَ ستكون هناك مشكلة في تحدي أردوغان؟

لقد مضى أكثر من عام على محاولة الانقلاب ضد الرئيس التركي رجب طيب أوردوغان، ومنذ ذلك الوقت تمرُّ تركيا بحالة من الاضطراب، إذ كثفت الحكومة التركية من عمليات التطهير ضد أي شخص يشتبه بارتابطه برجل الدين فتح الله غولن الذي يتهمه أردوغان بالوقوف وراء عملية الانقلاب، على الرغم من أن غولن يعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1999. وفي هذا النطاق اتخذ أردوغان أيضاً عدة إجراءات ضد مجموعة واسعة من الأفراد الآخرين الذين ليس لهم صلة واضحة بحركة غولن، وصرحت وزارة العدل التركية بأنها بدأت “بإجراءات” ضد 169 ألف مواطن، وقامت باعتقال أكثر من 50 ألف شخص، فضلاً عن إعلان القيام باعتقالات جديدة بنحوٍ شبه يومي، وتم إقالة 150 ألفاً آخرين من وظائفهم للاشتباه بتعاونهم مع أنصار غولن؛ على الرغم من عدم وجود أي دليل يؤكد ذلك.

إن الاستفتاء الدستوري الذي أُجري في نيسان من هذا العام -الذي سيلغي رئاسة الوزراء في عام 2019- أزال فعلياً أي إجراءات تحقيقية موجودة في الحكومة التركية، وسيزود هذا الاستفتاء أردوغان بالنظام الرئاسي القوي الذي كان يرغب بالحصول عليه منذ فترة طويلة، وسيهبه كذلك قوة تحكم لا مثيل لها على القضاء والأجهزة الأمنية. وفي الوقت نفسه ومنذ أن تم تجديد الاستفتاء في تموز عام 2015 تزايد الصراع التركي العنيف مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، ولا يزال كلا الجانبين يقدمان العديد من الخسائر كل أسبوع، إذ قتل ما يقرب من 3 آلاف شخص منذ تموز عام 2015، ونزح حوالي 500 ألف مدني قسراً.

المعارضة التركية

استخدمت المعارضة التركية عبارة (بطانة من فضة)، ويعني أنها أظهرت إيماءات جديدة على قوتها في الأشهر الأخيرة، وأثارت آمالاً كبيرة بأن بمقدورها تحدي حزب العدالة والتنمية الحاكم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لعام 2019، بيد أن الحقيقة المرة هي أن هذا النشاط الجديد قد جاء متأخراً جداً.

وفي الفترة التي سبقت الاستفتاء الدستوري في نيسان كانت حملة “لا” التي عارضت النظام الرئاسي الجديد فعالة بنحوٍ مدهش؛ وبالنظر إلى مدى تفاوت الأحداث بشكل ملحوظ استفادت حملة “نعم” من الدعم الحكومي المفتوح والتغطية الشاملة من قبل الصحافة المدينة بسبب الحكومة، بينما كانت بعض شخصيات المعارضة -مثل زعماء الحزب الديمقراطي الشعبي المؤيد للأكراد (HDP)- وراء القضبان، وكان العديد من أتباعهم مشردين بسبب القتال الحاصل بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني؛ ونتيجة لذلك لم يتمكن الكثيرون من الذين يرغبون بــ”لا” من الإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء، وفضلاً عن ذلك، كان المسؤولون في البلديات الخاضعة لسيطرة حزب العدالة والتنمية يجمعون بشكل روتيني ملصقات حملة “لا”، ويعملون على منع هذه الحملة؛ وفي النهاية -وعلى الرغم من الأدلة الهامة على وجود مخالفات في التصويت- تمكنت حملة “نعم” من الحصول على نسبة 51.4% فقط من الأصوات؛ وقد يظهر للعيان تمكن أردوغان من تعزيز سلطته، ولكن ليس من دون فضح نقاط ضعف جديدة في الانتخابات.

وما يثير الدهشة، قيام كمال كيليكدار أوغلو زعيم حزب المعارضة الرئيسي -حزب الشعب الجمهوري (CHP)- بقيادة تظاهرة الـ 280 ميلاً التي سمّاها “أنصار العدالة” والتي تبدأ من أنقرة وتنتهي باسطنبول، وعلى مدى أسابيع، تمكن كيليكدار أوغلو من جذب انتباه وسائل الإعلام بعيداً عن أردوغان، ورد حزب العدالة والتنمية على المسيرة قائلاً إن المشاركين فيها كانوا “يدعمون الإرهاب”، لكن أردوغان امتنع عن القيام بحملة قمع فعلية، مدركاً أن القيام بذلك سيتخطى الخطوط الحُمر ويغضب البلاد، وانتهت المسيرة في إسطنبول مع تجمع ضخم استقطب مئات الآلاف من المواطنين؛ لقد كانت هذه المسيرة سياسية بشكل ملحوظ ومهرجاناً للتحدي بقدر ما كان اجتماعاً سياسياً، ولأول مرة بدا نقاد الحكومة متفائلين.

إلا أن هذا التفاؤل قد يكون في غير محله، لكن مسيرة كيليكدار أوغلو أظهرت إدراكه بأن المعارضة يجب أن تكون أكثر إبداعاً وديناميةً مما كانت عليه في الماضي لكي تكون فعالة، وفضلاً عن ذلك، حصلت المسيرة -مثل حملة “لا” قبل استفتاء نيسان- على تأييد كل من الحزب الديمقراطي وعناصر “المتمردين” لحزب الحركة القومية -الذي تم تقسيمه مؤخراً منذ أن قامت الحكومة بالتدخل للإبقاء على “ديفليت باهشيلي” رئيساً للحزب-. ويبدو أن المعارضة -على الأقل في الوقت الحاضر- تفهم أنه من خلال التعاون فقط يمكن أن تأمل مواجهة تمسك أردوغان بالسلطة، ويمكن تخيل السيناريو الذي ستنجح فيه المعارضة في هذا الأمر، لكنه سيستغرق وقتاً طويلاً؛ فقد أعلن ميرال أكسينر -أبرز متمردى الحركة الشعبية لتحرير الشعب (MHP)- أن الجماعة التي يقودها ستشكل حزباً جديداً في شهر تشرين الثاني القادم؛ وهذا أمر مهم ليس فقط لأنه سيهدد مكان “باهشيلي” في البرلمان، بل سيقوم أيضاً بوضع حزب الحركة الشعبية على أنه أقل حزب معارض وشريك لحزب العدالة والتنمية، ولكن أيضاً بسبب أن حزب اليمين الجديد يمكن أن يستقطب أصواتاً من حزب العدالة والتنمية.

إن تركيا في صميمها بلد يمين الوسط؛ وهذا كان أحد الأسباب الرئيسة لنجاح حزب العدالة والتنمية أن يكون لديه عدد قليل من المنافسين للتنافس مع هذا الفيلق من الناخبين، وفي انتخابات عام 2019، ستخلق أحزاب يمين الوسط تحدياً حقيقياً لحزب العدالة والتنمية في التنافس على شريحة الناخبين في البرلمان؛ مما سيفتح المجال أمام “تحالف كبير” بين أحزاب المعارضة، وسيكون المرشح الديناميكي الذي يمكن أن يوحد يمين الوسط هو الأمل الحقيقي الوحيد للمعارضة في تحدي أردوغان للرئاسة، وقد لا يكون اليساريون والتقدميون متحمسين لهذا المرشح، ولكن الخوف من أردوغان يمكن أن يدفعهم إلى دعم مرشح يميل إلى اليمين، وعلى الرغم من مرور 15 عاماً من سيطرة حزب العدالة والتنمية على السلطة وعلى معظم وسائل الإعلام التركية، لم يتمكن الحزب أبداً من توسيع قاعدته الانتخابية إلى أكثر من 50%، فحتى لو كان ما يقارب 40% من المواطنين موالين تماماً لأردوغان، فإن ما يقرب من نصف البلاد لا تزال تعارضه، ومن غير المرجح أن يتغير هذا الواقع.

وعلى الرغم من هذه الحساسيات، فإن حزب العدالة والتنمية يحتفظ بمزاياه، إذ يعد أردوغان سياسياً موهوباً بشكل ملحوظ، ولكن من الواضح أن بعض ناخبي حزب العدالة والتنمية بدأوا يحترسون منه، وفي أعقاب محاولة الانقلاب مباشرة، ارتفعت شعبية أردوغان، ومع ذلك وعلى وفق مسح أجرته “إسطنبول للبحوث”، أيّد 10% من ناخبي حزب العدالة والتنمية مسيرة العدالة لكيليكدار أوغلو، ولكن هذه الرغبة قد لا تترجم بالضرورة إلى التصويت لمنافس. ففي الانتخابات الرئاسية عام 2014، توحد حزب الشعب الجمهوري وحزب الجبهة الشعبية خلف السياسي أكمل الدين إحسان أوغلو، الذي كان من المفترض أن تكون مؤهلاته وشهاداته الإسلامية جاذبة للناخبين المتدينين، إلا أن أداءه كان ضعيفاً، ومن المحتمل أن يكون حزب الحركة الوطنية وحزب الشعب الديمقراطي والحزب الجديد الذي تتصوره الحركة الشعبية لتحرير الشعب معرضين جيمعاً لخطر عدم الحصول على الـ 10% المطلوبة في الانتخابات؛ الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة مقاعد حزب العدالة والتنمية في البرلمان؛ إذ كانت الأغلبية البرلمانية لحزب العدالة والتنمية مستفادة دائماً من النظام الانتخابي التركي الذي يعاقب الأحزاب الصغيرة، ففي انتخابات عام 2002 حصل حزب العدالة والتنمية على 34.3% فقط من الأصوات، بيد أنه حصل على 363 مقعداً في البرلمان الذي يضم 550 مقعداً، وفضلاً عن ذلك وحتى لو فقد حزب العدالة والتنمية أغلبية المقاعد فإنه لن يتم بالضرورة إزاحته من السلطة، ففي عام 2015 قام حزب العدالة والتنمية بتدوير الانتخابات البرلمانية، حيث حصل على 41% فقط من الأصوات، وبدلاً من إنشاء ائتلاف، فقد حاصر الحزب الحكومة المؤقتة التي كانت في الأساس استمراراً لقاعدة حزب العدالة والتنمية، وحينما لم يتم إنشاء أي ائتلاف بعد ثلاثة أشهر، دعا أردوغان إلى إقامة انتخابات جديدة، إذ تمكن حزب العدالة والتنمية من كسبها بسهولة.

تكمن المشكلة في كل هذه السيناريوهات بأنها تقوم على افتراض إجراء انتخابات حرة ونزيهة، لكن  هذا الافتراض لم يعد مرجحاً في تركيا، إذا كانت الدروس المستخلصة من استفتاء نيسان هو أن قاعدة أردوغان قد أُضعفت، وأن المعارضة لا يمكن أن تعتمد على تكافؤ الفرص أو حتى عد الأصوات الصحيحة، ولم تعد الصحافة حرة، فضلاً عن أن مؤسسات الدولة الأساسية -بما في ذلك القضاء- تعدُّ الآن امتداداً لحزب العدالة والتنمية.

يبدو من الواضح أن أردوغان يرى أنه من الجيد كسب حزب الشعب الجمهوري في البرلمان؛ إذ يُعَدُّ بمنزلة طبقة الحماية ضد خطابه الاستبدادي، وكدليل على حسن نواياه الديمقراطية، ويؤكد تسامح أردوغان مع مسيرة العدالة على فهمه للأخطار التي تهدد المعارضة الرئيسة، ومع ذلك لا يعني أنه سيسمح للمعارضة بإزاحته.

إن عملية التطهير التي هزت بالفعل نسيج المجتمع التركي لم تقل وتيرتها بل على العكس ازدادت، وتم تطهير الآلاف من الأكاديميين في جميع أنحاء البلاد في حين أن معظم الجامعات النخبوية التركية لم يمسسها أحد، ولكن بعد يوم من انتهاء مسيرة العدالة، تم شمول جامعة البوسفور بمجموعة جديدة من الاعتقالات التي تستهدف أعضاء هيئة التدريس، وقد أُلقي القبض على المدافعين عن حقوق الإنسان، بمن فيهم أولئك الذين يعملون في منظمات دولية كبرى مثل منظمة العفو الدولية؛ وأخيراً أدركت المعارضة التركية أنها يجب أن تجد سبباً مشتركاً من أجل المعارضة وبفعالية ضد تمسك الرئيس أردوغان بالسلطة، إلا أنها قد وصلت إلى هذا الإدراك بعد فوات الأوان.


 

المصدر:

 https://www.foreignaffairs.com/articles/turkey/2017-07-21/hard-truth-about-turkeys-opposition