ديفيد ب. روبرتس، أستاذ مساعد في جامعة كينغز اللندنية، ومؤلف كتاب (قطر: تأمين الطموحات العالمية لدولة المدينة).

بالنظر إلى القواسم الدينية والثقافية والتأريخية بين الحكومات الملكية لشبه الجزيرة العربية، يمكن أن تكون العلاقات بين حكومات هذه المنطقة مشحونة بنحوٍ ملحوظ؛ وآخر هذه المشاحنات تركزت حول حفل تخرج عسكري حضره أمير دولة قطر تميم بن حمد آل ثاني في 23 من أيار للعام الحالي، إذ إنه وفي وقت لاحق من ذلك اليوم أفادت وكالة الأنباء القطرية الرسمية (QNA) بأن الأمير ألقى خطاباً في المراسم ذكر خلاله التوترات بين قطر والولايات المتحدة، وتساءل عن المدة التي سيبقى فيها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في السلطة، قائلاً إن حماس هو الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، مؤكداً -مجدداً- دعم قطر لجماعة الإخوان المسلمين، وأشار إلى علاقات قطر “الطيبة” مع إسرائيل، وبعد ساعات قليلة نشرت الوكالة على موقعها عبر “تويتر” ثلاث تغريدات تعلن عن اكتشاف مؤامرة من قبل البحرين ومصر والكويت والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لتشويه سمعة قطر، وأعلنت عن سحب سفرائها من تلك الدول، لكنَّ المسؤولين القطريين نفوا أن يكون ما ذكرته الوكالة صحيحاً، قائلين إن الأمير “تميم” لم يتحدث في حفل التخرج، مبينين أن وكالة أنباء بلادهم كانت ضحية اختراق مدبر بعناية.

ولم ينفِ إنكار الدوحة الفضيحة الإقليمية التي أعقبت ذلك، ولم تسفر نتائج التحقيق التي أجراها مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) -بعد أسبوعين- عن أن القراصنة الروس كانوا مسؤولين؛ فقد ظهرت أكثر من اثنتي عشرة افتتاحية ومقالة في الصحف السعودية والإماراتية قامت بتأنيب قطر على سياساتها الخاطئة، كونها تتعارض مع أولويات الرياض وأبو ظبي، وقد انضمت مصر مع أقرب جيران لقطر -السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة- إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، وطالبت القطريين بالعودة إلى ديارهم في غضون أسبوعين، وفرضت البلدان الأربعة حصارا ًجوياً وبحرياً وبرياً على قطر، ويعدُّ هذا عقاباً طائشاً؛ لأن قطر تعتمد اعتماداً كبيراً على حدودها البرية مع المملكة العربية السعودية وعلى ميناء جبل علي في دبي للواردات، ولاسيما الواردات من المواد الغذائية الطازجة ومواد البناء.

وعلى الرغم من أن الحكومات الملكية الخليجية الأخرى لا يبدو أنها تصدق مزاعم الدوحة حول اختراق وكالتها، إلا أنه لا توجد لقطات من حديث تميم في المراسم العسكرية؛ فهو لا يتحدث عادةً في مثل هكذا مناسبات، وفي حين أنه من الممكن تصور أن “تميم” سيعطي بعض التصريحات وليدة اللحظة حول الدعم القطري الكبير لحركة حماس، فإنه يبدو من غير المحتمل أن يتحدث عن علاقات قطر مع إسرائيل أو أن يعترف علناً بأن قطر لها علاقات ضعيفة مع الولايات المتحدة، على الرغم من ثمن القيام بذلك.

بغض النظر عما إذا كان قد أدلى بها بالفعل، فإن العديد من التعليقات التي ذكرها تميم يمكن تصديقها؛ لأنها ليست بعيدة عن سياسة قطر الخارجية، والمشكلة هي أن قطر من المفترض أن تكون قد تركت هذه السياسات في عام 2014، خلال آخر مشاحنة بين دول الخليج؛ ولأن “تميم” بدا وكأنه قد أعرب عمّا يمكن أن يفكر به المسؤولون في الدوحة بنحوٍ خاص، فإن النزاع الذي طال أمده بين قطر وجيرانها قد عاد إلى الظهور.

تعود جذور النزاع الحالي بين قطر والسعودية على وجه التحديد إلى ما لا يقل عن ثلاثة عقود ولاسيما السنوات التي تلت عام 1971، حينما حصلت قطر على استقلالها من المملكة المتحدة، وقد تولى خليفة بن حمد آل ثاني -جد أمير البلاد الحالي- السلطة في غضون ستة أشهر من الاستقلال، وقد قام بتحديث اقتصاد البلاد، وزيادة المعاشات التقاعدية، ورفع مستوى العمالة للسكان المحليين. وفي مجال السياسة الخارجية اتبع بدأب قيادة المملكة العربية السعودية؛ وهذا ما يتناسب مع النمط طويل الأمد؛ إذ كانت المملكة العربية السعودية تعدُّ قطر -التي تعد اليوم موطناً لحوالي 300،000 قطري- دولة تابعة وخاضعة لها تأريخياً.

وكان الحكام السعوديون غير راضين عن هذه الفكرة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، حيث اعتلى حمد بن خليفة آل ثاني السلطة، ورفض الأمير الشاب آنذاك دور السعودية المهيمن، وسعى بدلاً من ذلك إلى صياغة سياسة خارجية مستقلة تقوم قطر بموجبها بتنويع علاقاتها مع دول أخرى، ومن خلال تحسين علاقات قطر مع إيران وفتح العلاقات مع إسرائيل ضد مشيئة الرياض، حث حمد على عصر العلاقات السيئة بين قطر وجارتها الأكبر التي شهدت -من بين نزاعات أخرى- سلسلة من المصادمات والمناوشات الحدودية في أوائل التسعينيات، وحينما أخذ حمد في النهاية السلطة من والده في انقلاب سلمي عام 1995، دعمت السعودية -بنحو مزعوم- انقلاباً مضاداً لاستعادة خليفة، إلا أنها قد فشلت في ذلك.

في عام 1996، أنشأت قطر قناة الجزيرة الإخبارية، وكانت المملكة العربية السعودية هدفاً خاصاً في التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن؛ وعليه، فقد غضب حكام دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بسبب مشاهدة عشرات الملايين من مواطنيهم لقناة الجزيرة، ففي عام 1999 أغلقت الحكومة الجزائرية بث القناة في أجزاء من عاصمة الجزائر لمنع المواطنين من مشاهدة المقابلات مع الدبلوماسيين المنفيين أو المغتربين.

وبحلول عام 2002، سحبت المملكة العربية السعودية سفيرها من قطر لإجبار البلاد على السير في الطريق الصحيح، وقد عاد الدبلوماسيون السعوديون في عام 2008 لكن بشرط أن تمنع قطر من تغطية الجزيرة للمملكة العربية السعودية، إلا أن هذا التنازل الطفيف كان لا شيء بالنسبة للسعودية، إذ أظهر أمير قطر أن بلاده يمكن أن تفعل ما تريد وهو مطمئن.

مع اندلاع الربيع العربي في عام 2010، خضعت السياسة الخارجية القطرية للتحول، فلم تعد الدوحة تبحث عن دور كنوع من الوسيط المحايد الذي له صلات حول معظم جوانب النزاعات المختلفة في الشرق الأوسط، وبدلاً من ذلك، سوف تختار التدخل المحسوب من أجل مصلحتها؛ إذ أرادت النخب القطرية دعم الانتفاضات الشعبية ضد الأنظمة “الاستبدادية” الراسخة في مصر وليبيا وسوريا وتونس، لكن وزارة الخارجية القطرية كانت حديثة ولا تمتلك الخبرة الواسعة، وهيمن عليها الوزير، وكانت عرضة لخطر النفوذ والوجود الشخصي بدلاً من صنع القرار المؤسسي؛ لذلك أصبحت النخب القطرية مجموعة خاصة من المنفيين والمغتربين العرب الذين انتقلوا إلى الدوحة على مدى عقود، وكثير منهم يعتنقون الدين الإسلامي كوسطاء، ومثال على ذلك، المحاور القطري في ليبيا، اسمه علي وهو رجل دين يدعو إلى الجاهلية!

لم يكن لدى المسؤولين القطريين أيُّ مؤازرة تدعم جماعة معينة مثل جماعة الإخوان المسلمين، وعدَّت الدوحة أن معظم أعضاء هذه المنظمة معتدلون، وفضلاً عن ذلك كان الإخوان المسلمون عبارة عن مجموعة إقليمية وقومية واسعة، وفي بداية الربيع العربي، بدا أن وقتهم قد حان، إذ يبدو أن العناصر الداعمة لجماعة الإخوان المسلمين كانت خياراً مدروساً، وفي الوقت نفسه، اتضح أن قطر تعمل على تطوير علاقاتها مع جماعات أكثر تطرفاً، مثل حماس، والجماعة الفلسطينية، وجبهة النصرة التي كانت فيما مضى تتبع تنظيم القاعدة في سوريا. إن ممانعة قطر في مناقشة هذه العلاقات قد أضرَّ بسمعتها بنحوٍ علني وعميق، فالتفسير الأكثر إلحاحاً لبناء قطر للعلاقات مع حماس وجبهة النصرة هو أن الدوحة سعت إلى تهدئة هذه الجماعات؛ ففي أيار من عام 2017، أقنعت قطر حماس بالتخفيف من موقفها من السلام مع إسرائيل، وفي يوليو من عام 2016، أدت قطر دوراً لإقناع جبهة النصرة بإنهاء انتمائها الرسمي مع القاعدة.

شعر المسؤولون في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية منذ مدة طويلة بالقلق إزاء تصاعد الإسلام السياسي؛ خوفاً من أن تمكين هذه الجماعات قد يؤدي إلى تقويض أمنهم وأمن حلفائهم، إذ أثار الربيع العربي مخاوفهم؛ لذلك حينما تنحى حمد بن خليفة في عام 2013 لصالح ابنه تميم، أظهرت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة فرصة أخرى للضغط على قطر للتغيير، وفي أوائل عام 2014، سحبا سفراءهما من الدوحة، وهو ما فعلته البحرين كذلك، ودعت وسائل الإعلام في جميع أنحاء الخليج والمتعاطفة مع السعوديين إلى مزيد من التصعيد لإغلاق حدود قطر مع المملكة العربية السعودية ولمنع الخطوط الجوية القطرية من التحليق عبر المجال الجوي السعودي.

بحلول شهر تشرين الثاني من العام 2014، وافقت قطر على مجموعة من المطالب، بما في ذلك كبح دعمها لجماعة الإخوان المسلمين؛ وعليه غادر عدد من الأعضاء رفيعي المستوى من المجموعة الدوحة، ولكن لم يحدث تغيير جوهري في السياسة الخارجية الواسعة في قطر؛ لأنها لم ترغب في التخلي عن الاتصالات التي استثمرتها منذ عقود، ولا يمكن لأمير البلاد الجديد أن يتسامح بطريقة مهينة في التخلي عن مواقف طويلة الأمد بعد مدة وجيزة من توليه السلطة.

وعلى الرغم من توفير قطر للقوات والمعدات العسكرية للحرب التي قادها السعوديون والإماراتيون في اليمن عام 2015، بدت وكأنها تبشر بعمل مؤقت وجديد، إلا أنها كانت في الواقع تعمل على تحريف الحقائق والخداع: إي لم تكن مساهمات الدوحة تُذكر.

ليس من الواضح سبب تحول الحكومات الملكية في الخليج بسرعة إلى الضغط في هذا الوقت، لكن التساؤل هو: هل كان رد فعلهم نتيجة للتطورات الأخيرة أو استجابة لفشل قطر الملحوظ في التمسك بنهايتها في صفقة عام 2014؟ وفي كلتا الحالتين، يمكن أن تكون القشة الأخيرة هي استعداد قطر لدفع فدية ضخمة إلى احدى الفصائل العراقية في نيسان؛ لضمان عودة 26 قطرياً، بمن فيهم عددٌ من عائلة آل ثاني، الذين تم القبض عليهم في أثناء عملية صيد الصقور في جنوب العراق قبل 16 شهراً (الصفقة المعقدة التي جلبت إطلاق سراحهم تنطوي أيضاً على عمليات نقل رهائن واسعة في سوريا). على الرغم من أن بعض التقارير تشير إلى أن الكثير من الأموال ما زالت مع الحكومة العراقية في بغداد، وبقدر ما كان بعض المراقبين السعوديين والإماراتيين قلقين، إلا أن الصفقة كانت دليلاً آخر على استعداد قطر للتآمر مع العدو.

ومن الجدير بالذكر أيضاً أن النزاع اندلع سريعاً بعد أوّل رحلة خارجية لترامب، فعلى عكس أي رئيس جديد قبله جعل ترامب السعودية أول محطة له، ولم تتمكن الحكومات الملكية في الخليج -بعد علاقتها الصعبة مع إدارة باراك أوباما- من تلقي زيارة أفضل، وكان حضور ترامب حضوراً مليئاً بالثقة، وكان خطابه أمام القادة العرب في الرياض داعماً إلى أقصى الحدود؛ إذ شعرت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة بالشجاعة، وفي الوقت نفسه، فإن قطر معروفة في الأوساط السياسية في واشنطن بأنها شريكٌ أقل ثقة كونها مقراً لقناة الجزيرة -التي غالباً ما تنتقد السياسة الأمريكية-، وهي راعية لجماعة الإخوان المسلمين -الذين يعارضهم العديد من المراقبين الأميركيين-، وخصوم حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المدعومين من قبل الولايات المتحدة.

بيد أنه منذ أوائل التسعينيات استضافت الدوحة القوات الأمريكية بأعداد كبيرة، واشترت كميات متزايدة من المعدات العسكرية، وتعد قاعدة العديد العسكرية (Al-Udeid) للقيادة المركزية الأميركية جنوب غرب الدوحة جزءاً جوهرياً من البنية الأساسية العسكرية العالمية في واشنطن؛ وبسبب حجم القاعدة الأمريكية وأهميتها في قطر، سيكون من المستحيل نقلها في أي إطار زمني معقول، ولكن ذلك لا يمنع من وجود التدخلات الأخرى من جانب الولايات المتحدة؛ ففي السادس من شهر حزيران الحالي بيّن ترامب من خلال تغريداته عبر برنامج “توتير” دعمه للضغط على قطر، وبعد يوم واحد دعا إلى الهدوء والحوار.

وإلى الآن، أثبتت قطر مرونتها، وقد انخفض تصنيفها الائتماني من قبل وكالتين للتصنيف، لكنها ما زالت قوية من ناحية الموارد المالية، وتعمل موانئ سلطنة عمان في “صحار وصلالة” كمحطات لنقل البضائع المتوجهة إلى قطر؛ مما يخفف من بعض الضغوط، وقد زودت تركيا وإيران البلاد بمئات الأطنان من الفواكه والخضراوات ومنتجات الألبان يومياً، ويعدُّ الغاز الطبيعي المسال في قطر أمراً بالغ الأهمية بالنسبة للدول في جميع أنحاء العالم كالمملكة المتحدة والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية، ومن ناحية أخرى، فإن الوضع بدأ بالتصاعد إثر وجود مجموعة جيدة من الحلفاء.

ولكن المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة يعتلان أعلى مستوى من الثقة والقوى الإقليمية وفي علاقاتهما مع الولايات المتحدة؛ ومما لا شك فيه أن هذا الخلاف ليس خالياً من الثمن الباهض بالنسبة للبلدين، إذ فقدا التجارة، وأضرا بسمعتهما من طريق التضحية بالعقود التجارية الدولية إلى الخلافات السياسية المحلية، لكن قطر تضررت أكثر، والأهم من ذلك يتم تضييق الخناق عليها مع الوقت.

لا تستطيع قطر تغيير موقعها، ويجب أن تجد طريقة لتسوية الخلافات مع ثلاث من أقرب جيرانها، ويجب على الدوحة أن تجد حل وسط، ولكن لا يمكن لجيران قطر أن يضغطوا علناً على الدوحة لتغيير سياساتها، ومن المحتمل أن تطالب دول الخليج الأخرى بأن تغلق قطر قناة الجزيرة كشرط للمصالحة؛ ولكن هذا سيكون مطلباً صعباً، وبإمكان كلٍّ من السعودية والإمارات الضغط على الدوحة؛ إذ حتى الآن لم تَعُدِ العلاقات بينهما كسابق عهدها، فإنهما بحاجة للسماح لقطر بطريقة مشرفة للتخفيف من حدة التصعيد، تماماً كما تحتاج البلاد لإقناع حلفائها السابقين بأن هذه المرة قد أخذت رسالتهم على محمل من الجد وعلى عاتقها.


 

المصدر

https://www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2017-06-13/dustup-gulf?cid=soc-tw-rdr