يُدرِك المجتمع الدولي بنحوٍ متزايد أن له دوراً مهماً في إعادة تنشيط الاقتصاد العراقي -جنباً إلى جنب مع الجهود المبذولة لدعم القوات المسلحة العراقية لهزيمة تنظيم داعش الإرهابي-؛ إذ إن الاقتصاد القوي والمتجدد بإمكانه -وحده- أن يعالج بفعالية تحديات إعادة الإعمار والحكم في البلاد، وإن وضع استراتيجية متماسكة يتطلب خبرة دولية، ولكن تتمثل الخطوة الأولى في التأكد من أن أي تقييم أساسٍ للمشكلات المؤسسية في العراق سيرتكز على نهج صارم يستفيد من الخبرة المحلية لأصحاب الاختصاص من العراقيين.

استضاف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مؤتمراً تشاورياً وطنياً مع الشخصيات ذات الصلة من المسؤولين في الحكومة ومنظمات المجتمع المدني في بغداد في السادس من نيسان الحالي لاستعراض خارطة الطريق لمكافحة الفساد في العراق، وقد وصف رئيس الوزراء السيد حيدر العبادي في هذا السياق التأثير المتبادل بين الفساد والإرهاب، وأشار إلى أن خطته الأولى بعد تولي منصبه تركّزت على استئصال الفساد داخل المؤسسات العسكرية والأمنية.

تطرّق المؤتمر أيضاً إلى كيفية تمكن الخبراء من تقييم مدى الفساد في العراق على نحوٍ أفضل، واستشهد رئيس هيئة النزاهة حسن الياسري بمؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية (CPI)، وقدّم بعض التوصيات حول كيفية تحسين جودة تقييم هذا المؤشر في العراق. لقد دعا الياسري منظمة الشفافية الدولية (TI) لفتح مكتب لها في بغداد؛ من أجل تحسين مستوى التعامل مع التحديات العراقية والجهود المبذولة لمعالجة الفساد، ومن الجدير بالذكر أن لدى منظمة (TI) ما يقرب من 120 فرعاً في جميع أنحاء العالم و9 مكاتب في الشرق الأوسط بما في ذلك في دول اليمن، والكويت، وتونس، واقترح الياسري أيضاً أن يقوم مؤشر (CPI) بزيادة مصادر البيانات المستخدمة في تقييمه للعراق.

على الرغم من وجود نقاط ضعف متأصلة في مؤشر (CPI)، إلا أنه يُعدُّ قاعدة مهمة في تحديد مستويات الفساد في 177 بلداً حول العالم، وعند تحليل منهجية المؤشر نجد أنه لا يحدد فقط إمكانية تفاعل منظمة الشفافية الدولية مع العراق بنحوٍ أفضل، بل إنها تتوسع لتشمل أيضاً إيجاد أفضل الممارسات التي يحتاج المجتمع الدولي إلى اعتمادها في سعيه ليؤدي دوراً بناءً في العراق.

يعرَّف مؤشر (CPI) على أنه مؤشر مركب يعتمد على 13 مصدراً للبيانات التي تقيس مستوى إدراك الفساد، وبعض هذه المصادر مرتبطة بمناطق محددة مثل مؤشرات مصرف التنمية الأفريقي، أو مؤشرات برتلسمان للحوكمة المستدامة، التي لا تغطي سوى بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ودول الاتحاد الأوروبي. أما ما يخصُّ تقرير مؤشر (CPI) لعام 2016، فقد اعتمدت منظمة الشفافية الدولية (TI) على بيانات استخرجت من 5 مصادر لتحديد الترتيب العام للعراق، وهي: مؤشر برتلسمان للتحول الديموقراطي والتنمية الاقتصادية لعام 2016، ومؤشر مؤسسة “وحدة إيكونوميست للمعلومات” لعام 2016، وتصنيفات مخاطر البلدان لدى “جلوبال إنسايت” لعام 2016، وتقرير دليل المخاطرة العالمي لعام 2016، ومشروع أصناف الديمقراطية (VDEM) لعام 2016.

لم يَعمل في تلك الدراسات الاستقصائية الخمس أيُّ خبير مقيم في العراق، وذلك يعارض الغرض من تلك الدراسات، وبطبيعة الحال تُعدُّ الانطباعات أموراً غير موضوعية؛ لذا من الضروري التركيز على الانطباعات وشعور الأفراد الذين يتعرضون مباشرة للمسؤولين والممارسات الفاسدة في العراق.

يكمن الجانب الآخر المثير للقلق -بنحوٍ ساخر- في مؤشر (CPI) في انعدام شفافية التقيّمات التي تعتمدها منظمة الشفافية الدولية (TI)، إذ من ضمن المصادر الخمسة التي تشكل النتيجة الإجمالية للعراق، هناك ثلاثة مصادر غير متاحة للعامة لغرض الاطلاع، وبإمكان العملاء المشتركين فقط التعرُّف على تصنيفات البلدان في تقارير التحليل العالمي لمنظمة (IHS)، وتقرير دليل المخاطرة العالمي، وتقرير مؤسسة وحدة إيكونوميست للمعلومات، فضلاً عن ذلك فإن منظمة (IHS) التي تنشر تصنيفات غلوبال إنسايت، لم تَعُدْ تزوّد تقاريرها مع منظمة الشفافية الدولية، وبدلاً من ذلك، يتم الوصول إلى البيانات من خلال مؤشرات الحوكمة الخاصة بالبنك الدولي، التي لا تقدم سوى أرقام دون تحليل مفصل؛ فبناءً على ما سبق يُصبح من الصعب جداً على الباحثين ومنظمة الشفافية الدولية التأكّد من الأساس الذي سجلت به هذه التصنيفات.

للأسباب المذكورة آنفاً، نرى أن التقييم الدقيق لمؤشر (CPI) في العراق سيحتاج إلى دمج مصادر بيانات إضافية، وهو ما أشار إليه رئيس هيئة النزاهة حسن الياسري، ومن الجدير بالذكر وجود ثلاثة مصادر أخرى -فضلاً عن الدراسات الاستقصائية الخمس التي ذكرت سابقاً- تعترف بها منظمة الشفافية الدولية التي من الممكن أن تضم العراق في تقييماتها إلّا أنها لم تُفعّل بعد، وهي: مؤشر التنافسية العالمية (IMD)، ومؤشر استطلاع الرأي التنفيذي العالمي (EOS)، ومؤشر سيادة القانون الخاص بمشروع العدالة العالمي، فقد ضمت هذه الدراسات الثلاث العديد من الدول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تقييماتها؛ لكنَّ هناك دولاً لم يتم إدراجها في استطلاعات الرأي التي أجراها مؤشر استطلاع الرأي التنفيذي وهي: سوريا، وليبيا، والعراق، والأهم من ذلك، فإن هذا المؤشر يحدد وجهات نظر كبار رجال الأعمال الذين لديهم خبرة مباشرة مع بيئة الأعمال الوطنية، إذ يعمل منتدى الاقتصاد العالمي بنحوٍ وثيق مع أكثر من 160 معهداً شريكاً لإدارة الدراسات الاستقصائية، وعادةً ما تكون هذه المعاهد البحثية المحلية غير حكومية ذات فهم عميق للبيئة الاقتصادية والإدارية لكل بلد، وفضلاً عن ذلك يُعَدُّ هذا المؤشر جزءاً من تقييم أوسع أجراه مؤشر التنافسية العالمية الذي يقيس مجموعة من الأبعاد الأخرى بما في ذلك سياسة الاقتصاد الكلي والابتكار.

كما هو الحال مع مؤشر استطلاع الرأي التنفيذي، فإن مؤشر التنافسية العالمي (IMD) يقوم بدمج آراء المديرين التنفيذيين على الصعيدين الوطني والدولي، وفي عام 2016 أجاب 5480 من قادة الأعمال في 61 بلداً علی استطلاع مؤشر (IMD)؛ والمحصلة: فإن مؤشر سيادة القانون الذي أعده مشروع العدالة العالمية يدرس بنحوٍ أوسع  سلوك الموظفين العموميين داخل فروع الحكومة الثلاثة، ويبين مدى امتثالهم للقانون، ويتم طرح 53 سؤالاً على الخبراء في كل بلد، وقد أدرجت شبكة مشروع العدالة 7 بلدان في الشرق الأوسط في مؤشرها.

يجب أن يستند أي تقييم جدي إلى بيانات أولية موثوقة ومحدثة، فضلاً عن الحاجة إلى البحث عن أصوات محلية أصيلة، هو ما يتم غضُّ النظر عنه في العديد من التقارير عن العراق؛ ويعود ذلك في كثير من الأحيان إلى عدم فهم طبيعة البيئة البحثية هناك، ومن المعروف أن بيانات الحكومة الرسمية يصعب الوصول إليها عبر الإنترنت، ولا يعزى ذلك -في بعض الأحيان- إلى وجود سياسة متعمدة تهدف إلى إخفاء المعلومات، فيكمن السبب وراء صعوبة إتاحة هذه البيانات إلى انعدام ثقافة الشفافية والافتقار إلى الخبرة الفنية، ولكن هذا لا يعني أنه لا يمكن الحصول عليها من خلال وسائل أخرى مشروعة تماماً، ومن الأمثلة على ذلك الدائرة الحكومية الرسمية لجمع البيانات والإحصاءات المعروفة بـ“الجهاز المركزي للإحصاء”، فلا يحتوي موقعها الرسمي إلا على جزء صغير من التقارير العامة التي تختارها للنشر، وبإمكان المنظمات غير الحكومية الحصول على نسخ من تقارير اللجنة بتقديم طلبات رسمية يسيرة؛ وذلك يقودنا إلى النقطة الرئيسة وهي أن الباحثين في البلد نفسه قادرون على تنمية علاقات عمل مع الدوائر الحكومية، وهذا يُعدُّ ميزةً إيجابيةً واضحةً من أولئك الذين يعتمدون على الموارد المتاحة عبر الإنترنت فقط.

إذا كان المجتمع الدولي جاداً في تقديم حلول مستدامة لمساعدة العراق على كسر دوامة الفساد وسوء الإدارة، فلا بدَّ من الاعتراف بعدم إمكانية القيام بذلك من دون وجود نهج تعاوني يضم الشخصيات المحلية الفاعلة بالعراق في التقييمات.

وبطبيعة الحال، فإن إجراء تقييم أساسي دقيق هو مجرد بداية رحلة طويلة نحو التصدي للفساد، وسيواجه العراق صراعاً شاقاً للقضاء على ممارسات الفساد التي أصبحت راسخة داخل مؤسسات الدولة؛ ولهذا السبب فأن الشرط المسبق لاقتراح إجراءات علاجية مثل التشريعات المتعلق بمكافحة الفساد هو التوصل إلى فهم سليم للمشهد البيروقراطي القائم الذي يمكن الموظفين الفاسدين من العمل في دوائر الدولة دون عقاب، وحتى إذا توافرت الإرادة السياسية لمعالجة هذه المشكلة نحوٍ جدي، فإن المبلغين عن المخالفات والمحققين حول الفساد سيحتاجون إلى ضمانات كافية تمكنهم من أداء عملهم بأمان.


 

المصادر:

  1. Reuters, Iraq’s anti-corruption czar: the job so tough they won’t let you quit. Reuters (Apr 7, 2017) http://www.reuters.com/article/us-mideast-crisis-iraq-corruption-idUSKBN1751VV
  2. داعياً لفتح مكتبٍ لها في العراق … الياسريُّ يطالب منظمة الشفافية الدولية باعتماد مصادر أكثر لمعلوماتها التي تتبنَّاها في إصدار تقاريرها السنوية

http://nazaha.iq/body.asp?field=news_arabic&id=4023

  1. Measuring corruption in Iraq: between perceptions and reality, Open Democracy (Oct 25, 2010) https://www.opendemocracy.net/ali-al-mawlawi/measuring-corruption-in-iraq-between-perceptions-and-reality

تعريف بعض الاختصارات.

  • منظمة الشفافية الدولية Transparency International (TI)
  • مؤشر مدركات الفساد Corruption Perceptions Index (CPI)
  • مؤشر أصناف الديمقراطية Varieties of Democracy (VDEM)
  • مؤشر مؤسسة وحدةإيكونوميست للمعلومات Economist Intelligence Unit (EIU) Country Risk Ratings
  • تقرير دليل المخاطرة العالمي Political Risk Services International Country Risk Guide
  • تصنيفاتمخاطر البلدان لدى “جلوبال إنسايت” Global Insight Country Risk Ratings
  • مؤشربرتلسمان للتحول الديموقراطي والتنمية الاقتصادية Bertelsmann Transformation Index (BTI)
  • مؤشر التنافسية العالمية IMD World Competitiveness Yearbook
  • مؤشر استطلاع الرأي التنفيذي العالمي World Economic Forum Executive Opinion Survey (EOS)
  • مؤشر سيادة القانون الخاص بمشروع العدالة العالمي World Justice Project Rule of Law Index