صوَّت الكونغرس الأمريكي يوم 28 أيلول الماضي بالإجماع على تجاوز قرار الرئيس أوباما باستخدام حق النقض ضد مشروع قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب (Justice Against Sponsors of Terrorism Act) أو ما يطلق عليه اختصاراً بـ(JASTA)، ويعد هذا القرار السابقة الأولى التي ينجح فيها الكونغرس في تحقيق ثلثي الأصوات اللازمة لنقض الفيتو الرئاسي منذ تولى أوباما لمنصب الرئيس، وكانت إحصاءات التصويت النهائية مدوية بلغت 97 إلى 1 في مجلس الشيوخ، و348 إلى 77 في مجلس النواب، وعبّرت الإدارة بسرعة عن استيائها إزاء القرار، مع وصف المتحدث باسم الإدارة الأميركية جوش إرنست إياها بأنّها “الأمر الأكثر إحراجاً الذي فعله مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة ربما منذ عام 1983”.

وباختصار.. فإن مشروع القانون يمهّد الطريق نحو أسر ضحايا الحادي عشر من أيلول لمتابعة الإجراءات القانونية في محاكم الولايات المتحدة ضد المملكة العربية السعودية بتهمة التواطؤ المزعوم في الهجمات على نيويورك وواشنطن عام 2001، وعلى الرغم من أن القانون ظهر كرد على هجمات 11 أيلول، إلَّا أنَّ نطاقه أوسع بكثير مع التداعيات المحتملة.

إن الحصانات السيادية موجودة كونها المعيار الدولي، وهي توفر الحماية للدول الأجنبية من المقاضاة في المحاكم المحلية، وينص قانون حصانات السيادة الأجنبية لعام 1976 في الولايات المتحدة على هذه الحماية، وإن كانت هناك استثناءات للدول الراعية للإرهاب؛ لذلك جاء هذا القانون ليعدل بنحو فعال قانون القضاء الاتحادي للحد من الحصانة السيادية الأجنبية؛ مما يسمح برفع دعاوى مدنية ضد أي دولة أجنبية أو مسؤول عن حدوث إصابات أو وفيات أو أضرار الناجمة عن فعل إرهابي مرتكب في الولايات المتحدة.

ادعى البيت الابيض أن معارضته لقانون العدالة ضد رعاة الإرهاب ينبع من حقيقة أن أي تغييرات في الحصانات السيادية يمكن أن يؤدي إلى أن تتخذ البلدان الأجنبية تدابير مماثلة، وبالتالي سيترك هذا الموظفين والعسكريين الأميركيين الذين يخدمون في الخارج أن يتعرضوا -ربما- للمقاضات في البلدان التي يعملون فيها.

يعتمد الدعم الساحق الذي يلقاه مشروع هذا القانون المثير للجدل من الحزبين في الكونغرس المقسم سياسياً على اثنين من العوامل الرئيسة التي تزامنت مع بعضها بعضاً: البيئة السياسية الداخلية في العام الانتخابي، وتزايد التدقيق العام نحو طبيعة علاقة الولايات المتحدة مع المملكة العربية السعودية.

ظهرت المشاعر السلبية العامة في الولايات المتحدة نحو المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة، مع تزايد الإدراك بأنها تؤدي دوراً غير بناء في سوريا، وتقوّض مصالح الولايات المتحدة من خلال دعمها لعناصر المعارضة الجهادية، بينما في الوقت نفسه تُورِّطُ الولايات المتحدة في حرب مكلفة ومدمرة في اليمن التي يبدو أنَّ لا نهاية لها في الوقت القريب، وقد تعرضت الشؤون الداخلية للمملكة أيضاً للتدقيق، إذ وجد استطلاع (بيو) -مركز بحثي أمريكي في واشنطن- في عام 2013 أن 72٪ من الأمريكيين يعتقدون أن المملكة العربية السعودية لا تحترم الحريات الشخصية لشعبها. لقد اكتسبت دعوات قيام الولايات المتحدة بإعادة النظر في طبيعة علاقتها الخاصة مع المملكة زخماً في الكونغرس بقيادة السناتور الديمقراطي كريس ميرفي، الذي عمل جاهداً على وضع شروط أكثر صرامة على المبيعات العسكرية الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية، ففي الشهر الماضي قدم مشروع قرار في مجلس الشيوخ يدعو إلى وقف نقل الأسلحة التي تقدر قيمتها بـ1،15 مليار دولار إلى المملكة، ورغم فشل تمرير القرار، إلّا أنَّه حشَّد دعم 27 من أصل 100 من أعضاء مجلس الشيوخ، الذي وصفته منظمة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) بأنه “بيان مذهل حول القلق بشأن السلوك السعودي في اليمن”، وقال السناتور الأمريكي آل فرانكلن في حديثه عن دعم القرار: “إن حقيقةَ أنّنا نصوّت اليوم سيبعث رسالة مهمة جداً إلى المملكة العربية السعودية بأننا نراقب أفعالها عن كثب، وأن الولايات المتحدة لن تغضَّ الطرف عن القتل العشوائي للرجال والنساء والأطفال”.

وبالتوازي مع هذا الإحباط المتزايد تمكنت حملة عامة منسقة وناجحة في الولايات المتحدة بنشر 28 صفحة سرية من تحقيق الكونغرس لعام 2002 عن هجمات 11 أيلول، التي يزعم بعضهم أنها تحتوي على أدلة تشير إلى أن المسؤولين السعوديين وفروا الدعم المالي واللوجستي إلى بعض منفذي الهجمات حينما كانوا يتدربون في الولايات المتحدة.

 في تموز من هذا العام -وبعد كثير من الضغط الشعبي- قررت لجنة الاستخبارات في مجلس النواب رفع السرية عن هذه الصفحات، وعلى الرغم من أن بعض أجزائه بقيت مخفية، وأظهر ملخص أحداث 11 أيلول أن مكتب التحقيقات الفيدرالي قد اشار أن اثنين على الأقل من الخاطفين ربما كانوا على اتصال مع ضباط من الاستخبارات السعودية، وأن الهاتف الذي أُخِذَ من أحد زعماء تنظيم القاعدة يحتوي على رقم يعود إلى شركة أمنية في الولايات المتحدة التي كانت تعمل لحساب السفير السعودي السابق في واشنطن الأمير بندر بن سلطان، بينما لم تكن الصفحات التي رفعت عنها السرية حاسمة، إلا أنها خلقت توتراً شديداً في العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية، وجدد النقاش حول مدى معرفة الرأي العام الأميركي حول الظروف التي أدَّت إلى هجمات في 11 أيلول.

وسط هذه الخلفية، وخلال عام الانتخابات الرئاسية التي تكون فيه العديد من المقاعد في الكونغرس أيضا لقمة سائغة، تم العمل على العدالة ضد رعاة الإرهاب كمشروع قانون يسعى إلى تقديم إجابات لضحايا 11 أيلول، وقد صدر إجماع من قبل مجلس الشيوخ على القرار في آيار عام 2016 وبعد ذلك في مجلس النواب في 12 أيلول من العام نفسه. تم عرض نسخة سابقة من مشروع القانون لأول مرة في عام 2009، ولكن لم تحرز أي تقدم في مجلس الشيوخ، ثم تم إعادة عرضها في وقت لاحق في عام 2015 من قبل السناتور الجمهوري جون كورنين بمساعدة السناتور الديمقراطي عن نيويورك تشارلز شومر الذي شرح مبررات دعمه لمشروع القانون على الرغم من قرار الرئيس أوباما استخدام حق النقض، إذ يقول شومر: “هذا القانون قريب وعزيز على قلبي كنيويورك، لأنه من شأنه السماح لضحايا 11 أيلول للحصول على مقدار ضئيل من العدالة، أي: إعطاؤهم وسيلة قانونية لمحاسبة الرعاة الخارجيين ومساءلتهم عن الهجوم الإرهابي الذي أودى بحياة أحبائهم”، والشخص الوحيد الذي عارض تجاوز الفيتو في مجلس الشيوخ هو السيناتور الديمقراطي الذي سيتقاعد قريباً هاري ريد.

بعد يومين من رفض الكونغرس لحق النقض، رُفِعَت الدعوى الأولى ضد السعودية من قبلة أرملة لأحد ضحايا 11 أيلول في المحكمة الاتحادية في واشنطن العاصمة، في حين أنه من السابق لأوانه معرفة كيف يمكن لهذه الحالات أن تسير، إلا أن هناك عدداً من الأسباب التي قد تؤدي إلى عدم تحقيق قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب النتائج المرجوة للمدعينن ومن هذه الأسباب سببان مهمان هما:

 أولاً: أعلنت مجموعة من 28 شخصاً من أعضاء مجلس الشيوخ بالفعل عن خططهم لمراجعة قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب وطرق تحديده من أجل حماية الأمريكيين في الخارج، فمن هنا بيّن رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بوب كوركر: “إن التركيز الآن ينصب على الكيفية التي يمكننا بها خلق بعض التشريعات التصحيحية للتعامل مع كل ما قد يحدث من رد فعل سلبي”.

ثانياً: إن مشروع القانون يحتوي على شرط رئيسٍ يسمح للمدعي العام الأمريكي بوقف الدعوى المدنية إذا رأت وزارة الخارجية أنهم منخرطون في “مفاوضات بحسن نية” مع الدولة المدعى عليها، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى توقف يدوم 180 يوماً، ويمكن أن يتم تمديده مراراً وتكراراً، على الرغم من عدم وضوح ما إذا كانت حكومة الولايات المتحدة ستختار تفعيل هذا الشرط، وحتى إذا لم تعرقل الدعاوى القضائية، فقد أشار خبراء قانونيون إلى أنه من الصعب للغاية تجميع ما يكفي من الأدلة لإثبات -بنحو قاطع- أن حكومة أجنبية تقدم الدعم المادي لمنظمة إرهابية.

أما السعودية من جانبها فقد ردّت على هذا القانون من خلال وزارة خارجيتها، إذ حذّرت الأخيرة من “عواقب غير مقصودة ووخيمة” إذا لم يتم اتخاذ خطوات لتعديل هذه التشريعات، يمكن للمملكة أن تختار الرد من خلال تقليص التعاون العسكري ومكافحة الإرهاب مع الولايات المتحدة، أو اتخاذ تدابير اقتصادية تضغط على الكونغرس لتغيير توجهه بعد الانتخابات”.

 حينما قُدِّمَ مشروع القانون لأوّل مرة، ذكرت عدة تقارير أن وزير خارجية المملكة العربية السعودية قال للكونغرس إن حكومته تعتزم بيع ما يصل إلى 750 مليار دولار في الأصول الأمريكية إذا تمت الموافقة على القانون، على الرغم من أن الخبراء قد أشاروا إلى أن مثل هذه الخطوة سوف تسبب ضرراً أكبر لاقتصاد المملكة بدلاً من الولايات المتحدة، ويبدو أن المملكة العربية السعودية عازمة على مضاعفة جهود الضغط في الكونغرس، ففي الأسبوع الماضي، وقعت العقد العاشر مع جماعات الضغط في العاصمة الأمريكية مع الشركة التي ستوفر “التأييد والخدمات القانونية” رداً على مشروع قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب، ليصل الإنفاق السنوي للسعودية في الولايات المتحدة إلى ما يقرب من 16 مليون دولار، على وفق الوثائق التي تم الإفصاح عنها.

في حين أن هناك مؤشراتٍ قليلةً تدلل على أن التحالف الاستراتيجي بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة تحت التهديد في الوقت الحاضر، إلا أنّ المملكة تحاول احتواء الانتقادات التي تتمحور حولها بازدياد في الولايات المتحدة على الرغم من الجهود التي تبذلها جماعات الضغط في واشنطن. إن الكيفية التي سترد فيها الرياض والإدارة الأمريكية القادمة على مشروع قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب سيكون مؤشراً مهماً حول مستقبل التحالف الاستراتيجي بين الدولتين على المدى الطويل.