جيفان فاسجار، مراسل الفايننشال تايمز في سنغافورة وماليزيا.

تحتل سنغافورة أحد مراكز القمة بانتظام في الجدول الدوري العالمي، والآن تريد المملكة المتحدة تبني نهجٍ مماثلٍ.

ابتسم سي يو جوا حينما سُئِل عن كيفية ردة فعل والديه إذا ما حصل على نتيجة اختبار متدنية، وقال: “أهلي ليسوا صارمين ولكن لديهم توقعات عالية مني، لا بد لي من التفوق بنحوٍ جيّد في دراستي، هذا ما يتوقعونه مني”. يبلغ سي يو جوا من العمر 13 عاماً وهو تلميذ في المدرسة الأميرالية، وهي مدرسة ثانوية حكومية في الضواحي الشمالية لسنغافورة وافتتحت في عام 2002.

تحتل سنغافورة التي يعيش فيها حوالي 5.5 مليون نسمة المراتب العليا بنحوٍ روتيني في المقارنات العالمية في الرياضيات، وتضم أحد أكثر النظم التعليمية تميُّزاً في العالم، وفي جدول دوري مبني على نتائج الاختبارات من 76 بلداً التي نشرتها منظمة التعاون والتنمية في شهر آيار من العام الماضي، وجاءت فيه سنغافورة في المركز الأول، تليها هونغ كونغ، وكوريا الجنوبية، واليابان، وتايوان، عزز هذا التصنيف العالمي -المستند إلى اختبار قدرات الأطفال الذين يبلغون من العمر 15 عاماً في مواد الرياضيات والعلوم- الشعور بأن الأطفال الغربيين يتخلفون عن أقرانهم الآسيويين، إذْ كانت المملكة المتحدة في المرتبة الـ20 والولايات المتحدة في المرتبة الـ28 في الجدول.

يقول رئيس برنامج تقييم التعليم في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أندرياس شلايشر خلال اجتماع وزراء تعليم العديد من الدول: حينما جاء دور سنغافورة في الكلام خلال الاجتماع “أنصت الجميع بإنعام إلى كلامه”، فقد سعت الحكومات في جميع أنحاء العالم على تبني عناصر “الأنموذج السنغافوري” واتباع نُهُجِها الخاصة في تدريس الرياضيات والعلوم، وكان آخر هذه الدول هي المملكة المتحدة، التي أعلنت في شهر حزيران أن نصف المدارس الابتدائية في إنجلترا ستتبني أسلوب تدريس الرياضيات الذي يتم استخدامه في سنغافورة، مع تخصيص ما يصل إلى 41 مليون جنيه إسترليني لتمويل إعداد المعلمين وتوفير الكتب المدرسية الجديدة على مدى أربع سنوات، ولكن ما خصائص نظام التعليم السنغافوري التي تمكن الأطفال السنغافوريين من التفوق على أقرانهم الدوليين؟ وما مدى سهولة قيام الدول الاخرى باستيراد النجاح السنغافوري؟

تحد سنغافورة -البقعة المكتظة بالسكان في جنوب شرق آسيا- ماليزيا من الشمال وإندونيسيا من الجنوب، وقد حصلت البلاد -المصب التجاري البريطاني سابقاً- على الحكم الذاتي في عام 1959 وكانت جزءاً من الاتحاد الماليزي لمدة وجيزة قبل أن تستقل تماماً في عام 1965، والشعور السائد بأن الجيران ينظرون إلى سنغافورة بعين صغيرة كان عميقاً في النفسية الوطنية، وهذا ألهم الخوف والكبرياء في خطاب حكومي أمام نشطاء في عيد العمال العام الماضي، إذا قال رئيس الوزراء لي هسين لونج للمواطنين: “للبقاء على قيد الحياة، عليك أن تكون استثنائياً”، محذراً من الانصياع “للضغط المفروض عليهم الذي سيمثل نهاية سنغافورة”.

في كل صباح يتجمع تلاميذ المدرسة الأميرالية تحت رايات تحمل المعنى نفسه ببهرجة كلامية قليلة، إذ تحتوي إحدى الرايات على هذه الكلمات “لا أحد يدين لسنغافورة بلقمة العيش”، وتحتوي أخرى على هذه الكلمات: “يجب علينا الدفاع عن سنغافورة بأنفسنا”.

يشارك عدد كبير من طلاب المدرسة الأميرالية في مجموعات للتدريب العسكري بعد المدرسة. المصدر: يلفريد ليم.
يشارك عدد كبير من طلاب المدرسة الأميرالية في مجموعات للتدريب العسكري بعد المدرسة. المصدر: يلفريد ليم.

للمعجبين بالأنموذج التعليمي في هذه الدولة المدنيّة، فإن الخبر السار هو أنه قد تفوق نظامها على نظام التعليم العالمي السائد خلال مدة قصيرة نسبياً من الزمن، إذْ كان التعليم تحت الحكم البريطاني حكراً على الأثرياء، إذ كان معظم السكان -الصينون، والمهاجرون من الملايا والتامّين- أميّين، لكن الحكومة السنغافورية قامت بقيادة أول رئيس وزراء لها لي كوان يو بتوسيع النظام المدرسي ليشمل جميع السكان بعد إعلان الاستقلال، ويُعدُّ جذب المستثمرين الأجانب وبناء قطاع صناعي ناجح خطوةً حاسمةً في تنمية الدولة بعد الاستعمار، وقد آمن لي -الذي قاد البلاد لنحو 30 عاماً- بأن المدارس تحقّق غرضاً مزدوجاً: لخلق أمة ناطقة بالإنجليزية توحد السكان متعددي اللغات وتزويد المصانع بالعمال، وقال لي في عام 1966: لتبقى سنغافورة وتزدهر فمن “المطلوب خلق مجتمع حازم، وواعٍ، ومدربٍ تدريباً عالياً، ومنضبطاً للغاية”.

لا يزال السياسيون السنغافوريون يجرون مناقشات حول التعليم من حيث المرافق الاقتصادية، إذْ تحدث رئيس الوزراء السنغافوري لي هسين لونج في خطابٍ له في شهر آيار عام 2015 عن المحادث مع وزير التعليم الكوري الجنوبي قائلاً: “لقد قمنا بمقارنة الملاحظات وقلت له –أي وزير التعليم الكوري- نحاول العمل على تدريب الناس على الوظائف التي يمكن أن يشغلوها في سنغافورة، وحينما يتخرج طلابنا يجدون فرص عمل على الفور… لقد كان حسوداً (في إشارة إلى وزير التعليم الكوري الجنوبي)”.

وقد تابع لي الإشارة إلى كوريا الجنوبية واستخف بها لامتلاكها مؤسسات تدرس الأدب الألماني أكثر من ألمانيا نفسها، وقال: “كم عدد مدرسي الألمانية الذين تحتاج إليهم كوريا؟” مشيراً إلى أن الطلبة الكوريين الحاصلين على شهادة البكالوريوس في موضوعات مثل الألمانية سيواجهون مشكلة البطالة نفسها بين الشباب كما هو الحال في العديد من البلدان الأخرى.

تُدرّس الرياضيات والعلوم التي تُعدُّ كمواد أساسية في سنغافورة في مراحل التعليم الابتدائي والثانوي،  بينما يمكن للطلبة اختيار دراسة العلوم الإنسانية للمستوى A، إلا أن عليهم مواصلة دراسة إما الرياضيات وإما مادة علوم واحدة على الأقل حتى مغادرتهم المدرسة (والعكس أيضاً صحيح، إذْ يجب على طلبة العلوم أن يأخذوا موضوعاً واحداً من العلوم الإنسانية)، ومن السنوات الأخيرة من المرحلة الابتدائية وما بعدها تدرس الرياضيات للأطفال من قبل معلمين متخصصين.

طُوِّرت “الطريقة السنغافورية” من قبل فريق من المعلمين في الثمانينيات الذين منحوا مهمة خلق مواد تعليمية ذات جودة عالية من قبل وزارة التربية والتعليم، وقاموا بدراسة أحدث الأبحاث حول السلوكيات العلمية، وكذلك السفر إلى مدارس في بلدان أخرى مثل كندا واليابان لمقارنة فعالية أساليب التدريس المختلفة، مع هدف الابتعاد عن التلقين والتركيز قاموا بدلاً من ذلك بتعليم الأطفال على كيفية حل المشاكل، تأثرت الكتب المدرسية التي صممتها مجموعة المعلمين بعلماء النفس التربويين مثل الأمريكي جيروم برونر، الذي افترض أن الناس يتعلمون في ثلاث مراحل: استخدام الأشياء الحقيقية، ومن خلال الصور، ومن خلال الرموز، وساهمت هذه النظرية في تركيز سنغافورة القوي على نمذجة المسائل الرياضية مع الوسائل المرئية باستخدام كتل ملونة لتمثيل الكسور أو النسب، على سبيل المثال.

التلاميذ تان جين تنغ، وضياء حريش، وسيعا يو. المصدر: يلفريد ليم.
التلاميذ تان جين تنغ، وضياء حريش، وسيعا يو. المصدر: يلفريد ليم.

إن المنهج السنغافوري ميسّرٌ جدّاً في المرحلة الابتدائية بنحوٍ أكثر من العديد من البلدان الغربية، إذْ يغطي هذا المنهج موضعات أقل ولكن بعمق أكبر بكثير، ويعد ذلك عاملاً حاسماً في فعاليته، وعلى وفق الباحث الألماني أندرياس شلايشر الذي قال: “حينما تنظر إلى إنجلترا والولايات المتحدة، فإن [مناهجهم] واسعة جداً ولكن ليست عميقة، فهم يعلمون الكثير من الأمور ولكن على مستوى ضحل، فالرياضيات في سنغافورة لا تتمحور حول معرفة كل شيء، ولكن حول التفكير مثل عالم رياضيات”.

يعتقد الغرب أن بعض الأطفال لديهم قدرة أكبر في موضوعات معينة أكثر من غيرهم، لكن الأمر ليس كذلك في سنغافورة، حيث يتم مكافأة الحرص بدل المواهب، ويقول مسؤول مراجعة المناهج الدراسية الوطنية في إنجلترا في المدة 2010-2013 تيم أوتس -وهو الآن مدير البحوث في مجلس تققيم امتحان كامبريدج- إنه يجري أخيراً اعتماد هذا النهج في النظام الإنجليزي، إذ قال: “إن هذا نهج مختلف عن الاعتماد على القدرات، ويُعَدُّ إصلاحاً جذريّاً في الطريقة التي ينظر بها إلى الأطفال”.

إنّ التحوُّل من أنموذج قائم على القدرة على التعلم الفردي، إلى الأنموذج [الذي يقول: إن] “جميع الأطفال قادرون على أي شيء يتوقف على كيفية تقديم هذه الفكرة لهم والجهد الذي بذلوه في تعلمها.”

يفضل النهج الآسيوي نحو الرياضيات تدريس الصف ككتلة واحدة، بدلاً من تقسيم الصف على مجموعات أصغر مع قدرات مختلفة للطلبة للعمل على حل المسائل الرياضية، إذْ إن اتباع نهج تدريس الصف بنحوٍ شاملٍ يسمح للمدرس برصد نقاط الضعف والتدخل بسرعة إذا كان الطفل يحتاج إلى المساعدة، بدلاً من انتظارهم حتى يعلقوا في مشكلة ويطلبوا المساعدة.

لا تحتوي الصفوف في المدرسة الأميرالية على ديكورات أو لوحات، وحينما زرت صفاً للطلبة ذوي 13 عاماً من العمر، وجدت هناك عملاً فنياً واحداً على الجدار الخلفي -ورقة من شجرة الكرز تنثر زهراً- أما في مقدمة الصف حيث يقف المعلم فتوجد سبورة بيضاء، وجهاز عرض، وعلم سنغافورة، وساعة، وقد قيل لي فيما بعد إن الزينة قد أزيلت لتجنب تشتت انتباه الطلبة أو مساعدتهم أثناء خوضهم الاختبارات.

تعدُّ اللغة الإنجليزية لغةً ثانية بالنسبة لمعظم الأطفال هنا الذين يتحدثون لغة الملايو، أما اللغة الصينية فيكون الحديث بها داخل المنزل، في مقدمة الصف عرضت المعلمة ويندي تشن فيلماً عن العمال المهاجرين كردٍّ على تصريحات عنصرية، وهذا موضوع مثير للجدل إذْ غالباً ما يكون العمال الأجانب الذين يعملون في مجال البناء والصناعات التحويلية والخدمات المحلية أهدافاً للتحيُّز العنصري في سنغافورة، سهّلت تشن اللغة وصولاً إلى الأجزاء المكونة لها، وطلبت من الطلبة البالغين من العمر 13 عاماً النظر في استخدام الضمائر “نحن” و”هم”، ثم قدمت لهم قطعاً من صحيفة مرةً أخرى حول العمال المهاجرين، وطلبت منهم تحليلها، وقالت: “ضعوا خطاً تحت: من، ماذا، متى، أين، كيف”.

إن الجو السائد في صفوف مدارس سنغافورة هو العمل، إذ يعمل الأطفال طوال اليوم بهدوء في مهامهم مع الثرثرة بشيء قليل نسبياً، والعقاب البدني مسموح كملاذ أخير للأولاد فقط في مدارس سنغافورة، حينما يحتاج المعلمون إلى جذب انتباه الطلبة، يقومون بإصدار إشارة، كقول عبارة مثلاً بدلاً من رفع أصواتهم، وتقول إحدى المعلمات إنها حينما تشعر أن انتباه طلبة فصلها قد تشتت، تبدأ بقول التعليمات بعبارة “يا أحبتي”.

 يقوم العديد من الأطفال بالانضمام للشرطة أو إلى منظمات المتدربين العسكرية، ويمكن أن تراهم يرتدون الزي العسكري ويقفون في وضع الاستعداد في المدرسة بعد انتهاء اليوم الدراسي، وبالنسبة لهؤلاء الأولاد الذين سيقومون بالخدمة الوطنية لمدة سنتين بعد تخرجهم من المدرسة الثانوية، فإن هذا الإعداد مفيد بنحوٍ خاص.

يقول توه تيام تشاي، مدير المدرسة الأميرالية: "ما يتعين علينا القيام به هو أن نكون في الطليعة". المصدر: يلفريد ليم.
يقول توه تيام تشاي، مدير المدرسة الأميرالية: “ما يتعين علينا القيام به هو أن نكون في الطليعة”. المصدر: يلفريد ليم.

أما في صف العلوم فيتم تعليم الأطفال البرمجة باستخدام لوحة دوائر صغيرة موصلة بشاشة، وتظهر أسطر التعليمات البرمجية ألواناً ضوئية مختلفة، وفي العام الماضي قام الطلبة في هذه الصف ببناء ذراع روبوتية، وأما هدف هذا العام فهو بناء سيارة مصغرة من دون سائق مع روبوت بحجم كف اليد مع عجلات، ويقول المدير توه تيام تشاي عن ملاحظته للصف أثناء قيام الطلبة بالعمل: “إن هذه أهداف طموحة ومقسمة على خطوات صغيرة”، وقال أيضاً: يمكن إضافة الأضواء في مشروع السيارة كجزء من نظام مراسلة ضوئي، أما معلمة العلوم -التي تتحرك بسرعة داخل المختبر- فقد قالت: إن الأطفال أصبحوا على دراية برموز برمجة الكمبيوتر ولغاتها، ويعمل بعضهم على تجريبها بنحوٍ مختلف، وأضافت “أنهم يعبثون من خلال تغيير العرض … تغيير ألوان الشاشة الضوئية”، وتبدو المعلمة موافقة على ذلك.

في مدارس سنغافورة هناك استراحة لتناول طعام الغداء، إذ يصطف الأطفال خارج المبنى الخرساني الذي يشبه الصندوق للحصول على أطباق من الأرز أو المعكرونة من المطعم، ومثلما هو شائع في الهندسة المعمارية في سنغافورة، تتكون المدرسة من سلسلة من البنايات المستطيلة، حيث تؤدي الفصول الدراسية المستطيلة إلى ساحة مستطيلة، أما الجدران فهي مطلية باللون الأبيض ومطعمة بخطوط عرضية من الطلاء الأزرق أو الأصفر، ولكن خلافاً لمباني المكاتب في سنغافورة المزودة بمكيّفات، فإن الصفوف الدراسية مفتوحة للرطوبة الاستوائية، مع تحريك المراوح السقفية للهواء وتسلّل ثرثرة الأطفال الآخرين في بعض الأحيان من خلال النوافذ المفتوحة.

ويضيف المدير توه تيام تشاي أنه يتم توجيه التلاميذ في المدرسة الأميرالية بلطف بعيداً عن المواد الإنسانية وحثهم نحو العلوم بعدد ساعات العمل في الدوام، وتهدف الأنشطة الخارجية مثل نادي الروبوتات إلى غرس حب البحث العلمي وكذلك التحضير لمستقبل أكثر آلية، إذ يقول تشاي: “نريد إعدادهم لسوق العمل في القرن الـ21، ونريد أيضاً تلبية احتياجات الاقتصاد”، إذ تمتلك الجزيرة “قيوداً في القوى العاملة” فمن سكانها البالغ عددهم 5.5 مليون نسمة، فإن نحو 1.6 مليون هم من العمال الأجانب وعائلاتهم، ويتابع مدير المدرسة: “ما يتعين علينا القيام به هو أن نكون في الطليعة”، في إشارة إلى الطلب المستقبلي على العمال؛ فقد وضَّحت المتحدثة باسم وزارة التربية لاحقاً أن هذه ليست مسألة سياسة وأن سنغافورة تقدر الفنون، وأضافت أن الأطفال يتم تشجيعهم على متابعة العمل في المجالات التي يبدعون فيها، وبينما تركز المدرسة الأميرالية بنحوٍ قوي على العلم، تميل المدارس الأخرى لصالح المواد الإنسانية، ومع ذلك تحدث السنغافوريون الكبار في السن حول أن الدفع نحو التوجّه إلى العلوم أمرٌ مهمٌّ للغاية لمتابعة العمل على الموضوعات الكمية.

في درس الرياضيات بعد الغداء، قامت المعلمة بتحريك التلاميذ عن مقاعدهم مع بدء تشتت انتباههم  في الحرارة المتصاعدة، وقالت إنها تدعو المتطوعين للوقوف على السبورة وحل المعادلات الجبرية أمام الصف، فخلقَ هذا جوّاً من التنافس، وبينما تعثر صبي في جوابه، ثم عاد وصحح ذلك، أشار زميله إليه: “لا تزال الإجابة غير صحيحة!”

في الدقائق الأخيرة من الصف، تم إجراء اختبار للأطفال على أجهزة الكمبيوتر اللوحية التي تظهر نتائجهم على الشاشة بعد الانتهاء.

4

إن نجاح سنغافورة لا يعتمد على المال، إذ تنفق الدولة نحو ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم، مقارنةً مع نحو ستة في المئة في المملكة المتحدة، ونحو ثمانية في المئة في السويد، ولكن النظام السنغافوري فعّال بنحوٍ ملحوظ في تقديم الحرية للمعلمين لتحسين ممارساتهم التعليمية، إذ يتم إعطاء المعلمين وقتاً في اليوم الدراسي لتقييم عملهم، ومراقبة دروس بعضهم بعضاً، ولا يتم دفع المعلم الناجح نحو الإدارة، كما هو الحال في كثير من الأحيان في أماكن أخرى، ولكن يتم إعطاؤهم الفرص ليكونوا معلمين أو من المشاركين في تصميم المناهج. يقول الباحث الألماني أندرياس شلايشر -من منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية-: “في أنظمة المدارس الأخرى، يمكننا أن نحول أفضل معلم إلى مسؤول ضعيف.”

تميل دول شرق آسيا نحو الصفوف ذات الأحجام الكبيرة، ويقول شلايشر إن هذا يعني أن المعلمين يقضون وقتاً أقلَّ أمام الصف كل أسبوع، يقوم معلمو المدارس الثانوية في كوريا واليابان بالتدريس لحوالي 15 ساعة في الأسبوع مقارنةً مع ما يقرب من 20 ساعةً في إنجلترا، وأكثر من 27 ساعة في الأسبوع في الولايات المتحدة، وهذا يعطي مزيداً من الوقت لتحضير الدروس أو نقد تلك التي قد تم تدريسها.

وعلى الرغم من كل الإعجاب الذي يحظى به النظام المدرسي في سنغافورة في الخارج إلا أنه يُستَخفُّ به كثيراً محلياً، إذ يخاف الآباء من أن النظام المعتمد على الامتحانات يضع كثيراً من الضغط على أبنائهم، ويشعرون بالقلق من أن التركيز على التحصيل الدراسي منذ سن مبكرة يمكن أن يأتي على حساب الحصول على تربية متوازنة، إذ غالباً ما يدرس الأطفال بعد المدرسة لساعات من أجل النجاح في امتحاناتهم، وفي المقابل، فإن نظام التعليم في فنلندا -الذي يحصل على درجات عالية في تقييم منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- يؤكد على التنمية الاجتماعية قبل الأكاديمية في السنوات الأولى للأطفال، مع التركيز في اللعب بدلاً من العمل المدرسي، تقول الكاتبة البريطانية ميليسا بن: “هناك تقليد في التعليم الأوروبي يتمحور على البدء في الدراسة في وقت لاحق في الحياة، والتعلم من خلال اللعب في البداية، وأعتقد أن هناك حجة قوية للتأكيد على الاستفادة من اللعب”. فلكل بلد نهج خاص به في ما يتعلق بالتعليم، وتضيف بن:” إن إنجلترا جيدة في تبني طريقة أكثر استرخاءً وأكثر استقلاليةً في التفكير”.

من أعلى اليسار في اتجاه عقارب الساعة: السلوك المنظم هو القاعدة في المدرسة الأميرالية، الدائرة الضوئية الأطفال يخوضون الامتحانات، ووقت العبث. المصدر: يلفريد ليم.
من أعلى اليسار في اتجاه عقارب الساعة: السلوك المنظم هو القاعدة في المدرسة الأميرالية، الدائرة الضوئية الأطفال يخوضون الامتحانات، ووقت العبث. المصدر: يلفريد ليم.

في سنغافورة هناك أيضاً مخاوف من أن النظام القائم يزيد من عدم المساواة، وهذا يشوه النظام في عين المطورين، بينما أن شعار التعليم في الحكومة هو أن “كل مدرسة هي مدرسة جيدة”، إلا أنّ السنغافوريين لا يؤمنون بهذا الاعتقاد، إذ توجد هناك منافسة شديدة للوصول إلى المدارس المرموقة، مثل مؤسسة رافلز، التي أنشئت في القرن الـ19 من قبل مؤسسها البريطاني السير ستامفورد رافلز، وتُعَدُّ هذه المؤسسة إحدى مدارس النخبة القليلة التي تمولها الدولة ولكنها تعمل بنحوٍ مستقل.

تطلب جميع المدارس في سنغافورة الحصول على بعض الرسوم حوالي 25 دولاراً في الشهر في المدارس المنتشرة في الأحياء السكنية، وهو مبلغ متواضع بالنسبة لمعظم الناس، ولكن المدارس المستقلة يمكنها أن تحدد أسعار عالية للرسوم، وكذلك تقليل حجم الصفوف الدراسية، وتصميم المناهج الدراسية الخاصة بهم.

في يوم المؤسس السنوي لمؤسسة رافلز في العام الماضي، أعرب مدير المؤسسة تشان بوه منغ عن خوفه من أن أسر الطبقة الوسطى أصبحوا يهيمنون على المدرسة بنحوٍ يمكنهم من تعليم الأطفال بفعالية أكبر من خلال المدرسة الابتدائية وترك الامتحان الذي يحدد ما إذا كان سيتم تحويل التلاميذ إلى التعليم الثانوي أو اتباع مسار أكاديمي أقل تحديّاً، ومثلت العديد من الدول الأخرى في شرق آسيا، لدى سنغافورة صناعة دراسية مزدهرة، ولا يهيمن المدرسون الخصوصيون على حياة الأطفال كما هو معمول به في كوريا الجنوبية (إذ اضطرت الحكومة إلى حظر مراكز التعليم من التدريس بعد الـ10:00 مساءً)، ولكن بالنسبة لكثير من التلاميذ السنغافوريين، فإن النهاية الرسمية لليوم الدراسي لا تعني نهاية الدروس، وقبل بضع سنوات أشارت دراسة من قبل وزارة التعليم السنغافورية إلى أن أكثر من نصف تلاميذ المدارس الابتدائية كانوا يتلقون دروساً خصوصية في المواد التي هم جيّدون جداً فيها.

إن الجدارة في العمل هي العنصر الذي يربط سنغافورة معاً، جنباً إلى جنب مع وعود الرخاء والأمن المشترك، وتشكل فكرة أن الألمع باستطاعته تقلُّد مناصب عليا جزءاً من الصفقة السياسية التي وقعتها الدولة مع مواطنيها، التي بموجبها يتم تقييد بعض الحريات السياسية مقابل الحصول على مزايا مادية كبيرة، ولكن فرصة الصعود من أصول متواضعة إلى صفوة المجتمع في سنغافورة أصبحت نادرة على نحو متزايد كما يقول المراقبون: أخذ الحراك الاجتماعي بالاضمحلال في سنغافورة؛ بسبب ارتفاع تكاليف التعليم، ويقول الأستاذ المشارك في العلاقات الدولية في جامعة فلندرز في أديلايد مايكل بار: “قبل بضعة عقود، كان التعليم وسيلة الفقراء للصعود، أما الآن فقد أصبح هذا قليلاً، إذ إن هناك حاجة لدفع أموال كثيرة للانخراط في التعليم، وتكلّف المشاركة في الأنشطة اللاصفية أموالا أيضاً، لهذا عليك أن تكون من الطبقة المتوسطة للحصول على الموارد اللازمة لتعليم طفلك”.

الطابور الصباحي في المدرسة الأميرالية. إن الشعور بالتضائل أمام مجموعة واسعة الجيران هي طريقة تفكير منتشرة في نفسية المواطن في سنغافورة، وينعكس هذا في اللافتات العملاقة في ساحة المدرسة. المصدر: يلفريد ليم.
الطابور الصباحي في المدرسة الأميرالية. إن الشعور بالتضائل أمام مجموعة واسعة الجيران هي طريقة تفكير منتشرة في نفسية المواطن في سنغافورة، وينعكس هذا في اللافتات العملاقة في ساحة المدرسة. المصدر: يلفريد ليم.

بينما لا تُعَدُّ سنغافورة  البلد الوحيد الذي ينظر إلى السيليكون فالي (قطب التكنولوجيا الأمريكية)، إلّا أن الآباء هنا يشعرون بالقلق من أن التعليم الإلزامي قد يكون مملاً وناهياً لإبداعية أطفالهم، وقال لي وهو أكاديمي في جامعة سنغافورة إن العديد من طلابه قد تحولوا إلى “آلات تعلّم”؛ مما يجعلهم غير قادرين على التعامل مع الوضع الذي لا يمكن الإجابة عنه بـ”نعم أو لا”.

انتقد مسؤول تنفيذي في بنك سنغافوري وأب لثلاثة أطفال -الذي طلب عدم الكشف عن اسمه- التركيز الضيق على تحقيق أعلى الدرجات، الذي عدّه نتاجاً للعمل الشاق بقدر ما هو نتاج للذكاء، وأضاف “أنه نظام يحاول أن يجعلك تعبِّر خلال قنوات مناسبة، مع الاعتماد على الدرجات كمعايير، ولا يوجد شيء آخر، وسؤالي هو: هل يُعَدُّ هذا تقييماً عادلاً لقدرة شخص ما؟ أنا لا أعلم ما إذا كنت تربط الدرجات العليا مع معدل الذكاء المرتفع، أنا لا أعتقد ذلك.”

إلا أنه أشاد بالنظام الدراسي لتطويره “المهارات الفنية” الجيدة في الرياضيات وإضفاء الحقائق، لكنه قال إنَّ هناك تركيزاً غير صحيح على تعليم الأطفال على وفق أسلوب معتمد، وقال إنه -حسب تجربته- حصل بعض الأطفال على علامات متدنية لاستخدام أساليبهم الخاصة في حل المسائل الرياضية حتى لو كانت الإجابات الصحيحة، “حينما يتم إعطاؤهم مجموعة من المسائل يلجأ بعض الأطفال إلى المنطق، ويحلون المسائل بنحوٍ صحيح، ولكن المعلم يَعدُّه حلاً خطأً، فأنت بهذا تخنق قدرة الشخص على التفكير، وتتحوّله إلى روبوت فلا يمكنه التفكير خارج المألوف”.

ينظر السكان إلى صلابة التعليم في سنغافورة بقلق، إذْ إن كثيراً ما يستخدم السنغافوريون كلمة kiasu من لغة الهوكين الصينية لوصف أنفسهم، وترجمة هذا المصطلح هي “يخشى أن يخسر”، وحينما يتم تطبقيها على التعليم، تيشير kiasu إلى الآباء الذين يدفعون ويشجعون أولادهم بنحوٍ قويّ خوفاً من أنّهم قد يخسرون أمام أقرانهم، ويُستَخدَم أيضاً للتعبير عن القلق من أن السنغافوريين يفتقرون إلى الخيال والمشاريع.

أعرب النائب السنغافوري كيوك تشياو يين في مناقشة برلمانية هذا العام، عن قلقه من أن النفور المتأصل للخسارة يخلق جيلاً من “الساعين إلى المنح” الذين يطاردون المنح الحكومية للشركات الصغيرة بدلاً من المخاطرة في بناء شركات مبتكرة.

قبل ما يزيد قليلاً على عقد من الزمن سعت حكومة سنغافورة -الواعية حول الانتقادات الموجهة للنظام المدرسي السنغافوري- إلى تقليل هذه الانتقادات، واعتماد شعار “تعليم أقل، وتعلُّم أكثر”، وقد أرادوا بذلك تحفيز التفكير المستقل وتشجيع الطلبة على اتباع ما يثير اهتمامهم، وتم بذلك خفض عدد المناهج وتقليل الواجبات المنزلية، وأُعْطِيَ الطلبةُ أيضاً مزيداً من الخيارات حول الموضوعات التي يدرسونها.

صف في الووشو، نسخة حديثة من كونغ فو شاولين. المصدر: يلفريد ليم.
صف في الووشو، نسخة حديثة من كونغ فو شاولين. المصدر: يلفريد ليم.

لكنَّ الأستاذة السنغافوريين في كلية روس للأعمال في ولاية ميشيغان ليندا ليم تقول: إن محاولات الحكومة لتخفيف النظام المدرسي لم يكن لها تأثير يذكر، وأضافت: “هذه التغييرات محدودة حتى الآن للتغلب على التحيُّز المؤسسي والثقافي الراسخ للمدارس وأولياء الأمور نحو نتائج الامتحانات، التي يرونها على أنها بوابة القبول في الجامعات، والخدمة المدنية، والوظائف الدولية المتعددة.”

والخطر المحتمل لسنغافورة هو أن الاقتصادات المتقدمة تتطلب توافر المهارات -مثل الخيال أو القدرة على تحمل المخاطر- بنحوٍ متزايد، فالنظام هذا الذي توافق مع عصر الصناعات السابقة التي لم تتطلب المخاطرة في الابتكارات لا يجاري الآن هذا العصر الذي أصبح فيه الإبداع والابتكار يجلب أعظم المكافآت الوظيفية.

قد يكون من عدم الحكمة الرهان ضد الأمة التي أثبتت أنها ذكية في التكيُّف مع التغيُّرات الماضية، وعلى الرغم من إعجاب الجميع بالنظام المدرسي السنغافوري، إلا أن السنغافوريين يهتمون بنحوٍ وثيق بالأنماط المختلفة لأنظمة التعليم في الخارج، ويسعون لاستيراد أفضل الأفكار الأجنبية.

يذكر مدير المدرسة الأميرالية توه تيام تشاي زيارته إلى مدرسة في كندا إذْ كان يسمح للتلاميذ اختيار ما يدرسوه على أساسٍ يومي، ويصف المدرسة بلطف بأنها “غير منظمة قليلاً”، وأعرب عن قلقه من أن كمية الوقت الذي يتم قضاؤها في التوصل إلى توافق في الآراء بشأن الدروس التي يجب تدريسها اليوم تنقص من الوقت الذي يجب أن يتم قضاؤه في التدريس، ولكن حتى في بيئة تختلف اختلافاً جذريّاً عن الفصول الدراسية في سنغافورة، وجد تشاي شيئاً مفيداً، إذ قال: “لقد تعلمت عن التشاور وتنمية الشخصية، والتواصل مع الطلبة، وإغرائهم على تبادل الخبرات”.

عناصر من الطريقة السنغافورية لمحاولة تطبيقها في المنزل:

  • كن قدوة في مادة الرياضيات: لا تقل أبداً “لم أكن جيداً في الرياضيات”؛ وذلك لأن كل طفل يمكن أن يكون جيداً في الرياضيات مع الثقة بالنفس والدعم.
  • شجع طفلك على إظهار فهمهم من خلال مجموعة متنوعة من الطرق، على سبيل المثال من خلال شرح أفكارهم بصوت عالٍ، رسم صورة أو بناء أنموذج مادي.
  • الثناء على الأطفال على جهودهم وتفسيراتهم ومثابرتهم في حل المشاكل بدلاً من الحصول على الإجابات الصحيحة، بناء الثقة من طريق عرض الأخطاء كقيمة للتعلُّم.
  • جعل الرياضيات ذات الصلة من خلال تحويل الحياة اليومية إلى محادثة رياضية. على سبيل المثال، “كم عدد السيارات المتوقفة ونحن نمر في الطريق إلى المدرسة؟”.
  • ابحث عن طرق متعددة لحل المشكلة، وتسخير الإبداع بدلاً من الإصرار، “يجب أن تفعل ذلك بهذه الطريقة؛ لأن هذه هي الطريقة التي تعلمتها”، ناقش مع طفلك الطريقة التي يفضلونها في الحل والسبب من وراء ذلك.

نصائح كيت مور، من كتاب “الرياضيات – لا مشكلة!”، وهي رائدة في مجال توفير الكتب المدرسية في مادة الرياضيات في سنغافورة، وتُدرَّبُ في المملكة المتحدة.


ملاحظة :
هذه الترجمة طبقاً للمقال الأصلي الموجود في المصدر ادناه ، والمركز غير مسؤول عن المحتوى ، بما فيها المسميات والمصطلحات المذكوره في المتن .

المصدر:

https://www.ft.com/content/2e4c61f2-4ec8-11e6-8172-e39ecd3b86fc#axzz4FAC0wtdb