لايزال الاحتدام والجدل بين المفكرين الاقتصاديين مستمرينِ حول أهمية السياسة المالية والسياسة النقدية ودور كل منهما في النشاط الاقتصادي، إذ يذهب البعض حول أسبقية السياسة المالية بوصفها المؤثر الشديد في مجمل المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية، وبذلك فإنهم يدعون إلى هيمنة السياسة المالية على البنك المركزي والسياسة النقدية. في حين يذهب الاتجاه الآخر نحو قيادة السياسة النقدية للنشاط الاقتصادي فهي التي تعمل على تعقيم الآثار الجانبية للسياسة المالية وتعدل مسارات نتائجها وبذلك فإنهم يدعون إلى استقلالية البنك المركزي والسياسة النقدية.
أما فيما يخص واقع حال الاقتصاد العراقي فإن البنك المركزي يتمتع باستقلالية على وفق القانون إلا أنه بحكم طبيعة الاقتصاد العراقي الأُحادي الجانب فإن هناك أهمية واضحة للسياسة المالية على البنك المركزي من خلال عملية الإنفاق العام، حيث يقوم البنك بتنفيد الإيرادات العامة المتأتية بنسبتها العظمى من صادرات النفط، وبالتالي تكون السياسة النقدية رهينة لهذه الإيرادات؛ وعليه فهي رهينة كذلك لأسعار النفط؛ وحجم الصادرات النفطية، ونتيجة لذلك كله تكون هذه الإيرادات رهينة أيضاً للسياسة المالية، إذ إن هذه الإيرادات تتجسد بنحوٍ واضح في الإنفاق الحكومي، الذي وصف خلال العقد الأخير بانه إنفاق مضطرب غير منضبط؛ مما نجم عنه الكثير من التشوهات في المتغيّرات الاقتصادية التي تمثل أعباء كبيرة وضغوطاً عالية على السياسة النقدية والبنك المركزي.
ومن هذه العلاقة التشابكية بين السياستين المالية والنقدية، ظهرت أهمية هذا البحث الذي ركز في محتواه على العلاقة التبادلية فيما بين هاتين السياستين، فإن تبني سياسة مالية غير منضبطة -أي لا تستند إلى مؤشرات الانضباط المالي والقواعد المالية- يعمل على تخفيض فاعلية السياسة النقدية وتعقيد دورها في تحقيق الاستقرار الاقتصادي من جهة، وصعوبة في تحقيق استقرار القيمة العملية المالية وسعر الصرف من جهة أخرى.
إن عدم الالتزام بمؤشرات الانضباط المالية ينجم عنه سياسة مالية توسعية تعمل على زيادة الضغط على السياسة النقدية، ولاسيما في جانبها الخاص في سياسة الصرف الأجنبي؛ وبالتالي يتطلب من البنك المركزي استخدام أكثر من حجم الاحتياطات الدولية التي يمتلكها للطلب على العملة المحلية حفاظاً منه على استقرار قيمتها وسعر صرفها، وعليه تكون العلاقة عكسية بين هذين المتغيرين فإن اتباع سياسة مالية توسعية -أي زيادة الإنفاق الحكومي- سيعمل على تخفيض حجم الاحتياطات الدولية لدى البنك المركزي؛ ومن هنا يمكن القول: إن هناك ضرورة ملحة على متخذي السياسة المالية بأنْ يتوافق حجم عجز الموازنة الحكومية مع حجم الاحتياطات الدولية، وكذلك مع قدرة الحكومة على تحقيق الإيرادات عبر صادراتها النفطية إذ يكون دالة في سعر الصرف وحجم الصادرات النفطية، وسعر صرف الدينار العراقي .
إن أي إجراء في وضع الموازنة الحكومية متعلق في التوسع بالإنفاق العام أو انخفاض في الإيرادات النفطية قد ينجم عنه عجز في الموازنة الحكومية ويترتب عليه دين؛ فيجد ذلك تاثيره بوضوح تام على المتغيرات الاقتصادية الكلية، وبنحو خاص على المتغيرات النقدية المتمثلة بالدرجة الأساس في عرض النقد، وأسعار الفائدة، وأسعار الصرف، ومن ثم يوثر على أوجه الاستقرار النقدي؛ وذلك يدفع إلى القول: إن الاستقرار المالي يحفز على الاستقرار النقدي والعكس ممكن أن يكون صحيحاً، وهذا يمثل الاتجاه العام لهذا البحث.
في هذا السياق يأتي هذا البحث ليسلط الضوء على الاقتصاد العراقي ولاسيما بعد أن شهد زيادات غير مسبوقة في الإيرادات الحكومية الناجمة عن ارتفاع أسعار النفط وزيادة حجم صادرتها منه؛ الأمر الذي انعكس بصورة واضحة في حجم الإنفاق الحكومي والتوسيع في حجم الحكومة في النشاطين الاقتصادي والاجتماعي، مما اتسمت السياسة المالية بالتوسعية ويمكن عد تلك المرحلة بالانفلات المالي الحكومي،كانت وما زالت لتلك المرحلة آثارها الاقتصادية والاجتماعية.

لقراءة المزيد اضغط هنا